قد يبدو هذا العنوان غريباً وصادماً للوهلة الأولى، ولا يستسيغه بالطبع أصحاب الأفكار المقولبة ومدمنو البكاء على الأطلال والمتغنّون بسورية الحضارة، وأتباع مقولة أن “لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان، وطنه الأم وسورية”، كما قال عالم الآثار الفرنسي، المُعجب بسورية، شارل فيرلو!
وبغض النظر عن أهمية سورية التاريخية للعالم، فإن سورية الآن، سورية الواقع، هي هذا البلد المدمّر، المشتت والمنقسم، بسكانه الجائعين والمغتربين داخله وخارجه، وأنذاله المتسيِّدين على كِرامه الذين أضحوا متسولين لهبات من سرقوهم. إنه البلد الذي يحتاج إلى معجزة للنهوض ثانيةً وعلى أسس جديدة، مستلهماً تجارب بلدان أخرى شهدت كوارث مشابهة، ومنها ألمانيا.
ومع أن قواتها لا تسرح وتمرح على الأرض السورية، أسوة بالقوات الروسية والأميركية والتركية والإيرانية، فألمانيا موجودة في حياة مئات آلاف المهاجرين إليها، كنظام اقتصادي واجتماعي ناجح ودولة قانون يُعتدُّ بها، ويحلم الكثير من السوريين “الأيتام” بالعيش فيها أو ببناء وطنٍ على مثالها، عوضاً عن أشلاء وطن كفروا به وكفر بهم، وقد سحقهم الاستبداد وفرقتهم الحرب.
من هنا قد يكون الدور الألماني في غاية الأهمية حين تنتقل سورية إلى مرحلة البناء على أنقاض كل هذا الخراب، وعلى قاعدة حل سياسي ملائم طال انتظاره، في حين لم تبرهن الدول المتدخلة مباشرةً بأنها تفكر جدياً في مستقبل سورية، وإعادة بناء ما ساهمت بتدميره على الأقل. فالدور الإيراني هو من أخطر الأدوار التي ساهمت بتفاقم النزاع ووصوله إلى أفقٍ مسدودة، وإن استمرار هذا الدور في المستقبل ينذر بأفدح المخاطر على سورية. أما روسيا، فقد استحوذت على ما تبقى من خيرات، من دون أن تقوم بأي مشروع تنموي يُعتدُّ به، وهي تكتفي باستعراض أسلحتها وتجريبها بلا رادع على الأرض السورية المستباحة. من جهتها، تعمل تركيا، من خلال مشاريعها التنموية، على ربط المناطق الخاضعة لسيطرتها بالداخل التركي، لأهداف سياسية توسعية لا تُخفى، كمحاولة لتكرار ما حدث في شمال قبرص.
ويرتبط الدور العسكري الأميركي في سورية بسياسات الولايات المتحدة على المستوى الإقليمي، وهو دور حاسم في ما يتعلق بتعطيل المشاريع الأخرى، من خلال وجود القوات الأميركية والحليفة في مواقع استراتيجية، ككبح التمدد الإيراني في المنطقة، ولم يتعدّ الدور الاقتصادي الأميركي المساهمة في تمويل بعض الخدمات الإغاثية، فهل يمكن أن يتحول هذا الدور إلى رافعة لإعادة إعمار سورية المستقبل؟ إن نتائج الوجود الأميركي في بلدان أخرى، كالعراق وأفغانستان، تقدم لنا مؤشرات سلبية بهذا الشأن، حيث لم تترك الولايات المتحدة وراءها مشاريع تنموية يمكن أن تُقاس بحجم تدخلها العسكري وإنفاقها الهائل في هذا المجال، ما انعكس سلباً على دورها الأمني في نهاية المطاف. ومن هنا تأتي أهمية استلهام التجربة الألمانية لإعادة البناء في المجالات كافة.
صحيح أن المقارنة بين سورية وألمانيا غير منصفة، فالبلدان لا يجمع بينهما سوى الدمار المادي، كحالة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وسورية الحالية، ويختلفان في أمور أخرى ضرورية لعملية إعادة البناء. فقد امتلكت ألمانيا، ومثلها اليابان، قاعدة علمية متقدمة تضاهي مستواها في الدول التي انتصرت عليها وتزيد، ولم يتطلب الأمر غير المناخ السياسي الملائم ليعيد الشعب بناء قدراته الاقتصادية من جديد ويستمر في تطويرها، وبخاصة مع تحويل الإنفاق من القطاعات العسكرية إلى المشاريع المدنية. كما لا يمكن مقارنة الخبرات الألمانية بما هو متوافر في سورية حالياً، الخبرات التي مكنت الألمان من إعادة ترميم ما تهدم بسهولة نسبية.
كما ساهم الحلفاء في نهضة ألمانيا، حين اجتمعوا على اعتبار أن الانتصار في الحرب ليس سوى مقدمة للنجاح الذي يجب أن يحصل في فترة السلم، وقاموا بإجراءات ملموسة من أجل دعم مشاريع تنموية استفاد منها الألمان إلى أقصى حد، وتحقق ذلك عملياً من خلال خطة “مارشال” الاقتصادية لإعادة إعمار أوروبا الغربية، فظهرت النتائج بوضوح بعد أقل من عِقد من الزمن. وكان الفيلد مارشال البريطاني مونتغمري قد عبّر عن رغبة الحلفاء هذه في رسالة إلى جنوده (8 مايو/أيار 1945): “لقد كسبنا الحرب، دعونا نفوز في السلم أيضاً”.
ولا يشبه السوريون الألمان في أشياء كثيرة، منها عدم تبلور وطنيتهم وتبديدهم لمواردهم، لكن هذا لا يتعارض مع إمكانية أن يأخذ الألمان بأيدي السوريين لبناء بلدهم، فالسوري يحتاج، علاوة على المناخ السياسي الملائم، إلى القدرات التنظيمية والخبرات المتوافرة عند الألمان، لا سيما وأن هؤلاء ليسوا قوة احتلال، ولا ينقسم السوريون تجاههم، ولا يسعون إلى فرض عقيدة ما أو توجه سياسي محدد. كما خبِر الطرفان بعضهم بعضاً من خلال حوالي مليون مهاجر لا يمكن إلا أن يضيفوا لمسةً مميزة إلى المجتمع الألماني، ويمكن أن يشكل بعضهم “رأس حربة” لاستثماراتٍ ألمانية مهمة في مشاريع تنموية في بلدهم الأم، تدعمها قوة العمل السورية النشيطة لتحقيق قيمٍ إنتاجية إضافية.
تتجاوز مجالات الاستفادة من التجربة الألمانية النواحيَ الاقتصادية، ويمكن أن ينسحب الأمر على إعادة كتابة الدستور وسن القوانين وتحديث المناهج التعليمية وغيرها، وخاصة ما يتعلق بالتركيز على كل ما يرفع من مستوى حياة الإنسان المادية والمعنوية ويحقق سعادته، بما في ذلك كل التفاصيل التي صنعت قصة النجاح الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى كافة الصُعُد.
منير شحود