في أواخر العام 2011 جاءني اتصال من اللواء آصف شوكت، (قتل ضمن تفجير خلية الأزمة في تموز 2012)، حمل اقتراحا بأن يستقل العلويون بدولة في مناطق غرب سورية ودمشق، ويتخلوا للثورة عن المنطقة الممتدة من إدلب إلى درعا والسويداء مرورا بحماة وحمص وريف دمشق الشرقي، ولم يُبدِ تشددا تجاه دمشق!
لم يتحمل عقلي آنذاك ذلك الاقتراح فقلت له: “وما الذي سنفعله بهذا {الكردور} الهامشي المحاصر؟! وبما أن قسمتك طائفية، ماذا عن عدة ملايين من السُنة في المناطق التي ستنفصلون بها، هل سيقبل سُنتها التبعية لكم وهم ما قد عرفوا فيكم؟! إنكم إن فعلتم ستدفعوننا دفعا ليكون لنا منفذ على بحار الترك”!
أثارت هذه الجملة حنقه وانتهى الحوار الذي دام نحو 15 دقيقة. فيما بعد ذَكرتْ شخصيتان من السُنة العرب أن شوكت طرح اقتراحه عليهما، وأكدا أنهما رفضا أيضا، ولولا أن المجالس بالأمانات لذكرتهما، لكني أتمنى على كل شخصية عرض عليها شوكت اقتراحه هذا أن تعلنه، وأظنهم لا يتجاوزون أصابع اليد!
أعتقد أن اقتراح شوكت ربما كان مطلب خلية الأزمة التي يبدو أنها حاولت تجنيب سورية النهاية المأساوية، التي جرها الإيراني وعميله بشار لها، ولو كان الثمن تقسيم سورية طائفيا، وأعتقد أن هذا كان أحد أسباب اغتيالهم!
أعلنت القبائل العربية بقيادة الشريف حسين وأبنائه الثورة على العثمانيين 1916؛ شاركهم ضباط وأفراد سوريون وعراقيون منشقون عن الجيش العثماني وعدد من السياسيين منهم الدمشقي نسيب البكري الهارب من بطش جمال باشا السفاح الذي أعدم خيرة قيادات الحركة القومية العربية الأولى 1916 التي أنشأها السُنة العرب والمسيحيون الأرثوذكس فقط، ولم تك تضم أي أقلية أخرى!
في العام 1957 حدثت أزمة كبرى بين سورية وتركيا، هدد الجيش التركي باجتياح سورية، بسبب معارضة الحكومة السورية برئاسة القوتلي لحلف بغداد ومبدأ أيزنهاور. كان من نتائج الأزمة توقيع اتفاقية تعاون بين سورية والاتحاد السوفييتي، وتوجيه خروشوف إنذارا للحكومة التركية يطلب منها سحب قواتها ووقف مناوراتها العسكرية على الحدود السورية، ومن نتائجها أيضا الوحدة العجولة بين مصر وسورية، والتي جاءت تتويجا لإرسال عبد الناصر فرقا عسكرية مصرية لمساعدة الجيش السوري آنئذ!
خلال الأزمة تسلح سكان ريف ومدينة إدلب..، فلاحين وأصحاب مهن ومعلمين وو.. مساندة للجيش السوري واستعدادا للتصدي للتهديد التركي، وبقي سكان إدلب يذكرون الأوقات العصيبة لهذا التهديد نحو ربع قرن!
أوردت هذه الأمثلة لأدحض الادعاءات التي تتهم سكان المنطقة بمداهنة الأتراك اليوم على حساب الوطنية السورية، لقبولهم الحماية التركية لهم من مجازر المجرم الأسد ومن معه!
علاقة الأسد بتركيا: النار والجنة والولد العاق!
في العام 1998 هددت تركيا باجتياح سورية، وضرب البقاع اللبناني المحتل من قوات حافظ الأسد آنذاك، والذي تتمركز فيه معسكرات عصابات أوجلان، ومنه تنطلق العمليات الإرهابية ضد الأتراك. أطلقت القيادات العسكرية التركية تصريحات مهينة لشخص حافظ الأسد “سندوس رأس حافظ الأسد بالصباط”. أدرك حافظ جدية تهديد الحشود العسكرية التركية على الحدود السورية، فسارع للطلب من إيران ومصر التوسط الذي أدى لتوقيع اتفاقية أضنة التي تخلى فيها عن المطالب السورية بلواء إسكندرون، كما أغلق حافظ معسكرات البي كي كي وطرد أوجلان من سورية، وأعطى الأتراك خط سيره فاعتقلوه.
آنذاك علق محلل من الاستخبارات التركية على خوف حافظ الأسد بتهكم: “كان لديه استعداد أن يسلم أبناء عمومته وعشيرته لو طلبنا منه”! كما انتشر فيما بعد أن اللواء حسن خليل انتحى جانبا بأحد أعضاء الوفد السوري عندما حاول المماطلة بالتفاوض وأمره: “وقّع دون مماطلة. حافظ الأسد أكد لي أنه سيعلق رؤوسنا إن فشلت المفاوضات”؛ كما سربت الصحف المصرية أيضا تلاعب مبارك بخوف حافظ مع الأتراك!
علاقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ببشار الأسد كانت في أحسن حالاتها حتى اندلاع الثورة، لا بل وحتى بعدها بشهور! وسأكشف سرا: حين حاولت تنظيم المؤتمر الأول للمعارضة السورية بعد شهر من اندلاع الثورة، رفضت سلطات دول الربيع العربي والدول المحيطة بسورية بما فيها تركيا طلب تنظيم المؤتمر على أراضيها(!؟) مما اضطرنا للسعي لعقد المؤتمر في المياه الدولية على ظهر سفينة أستأجرها لهذا الغرض، وقررت أن أعنونه: “لم نجد مكانا على الأرض لنعارض منه إجرام بشار الأسد فلجأنا للمياه التي لا سيادة للدول عليها”! أعتقد أن هذا دفع بعض الجهات الأوروبية للتوسط لدى تركيا لقبول عقد المؤتمر على أراضيها. وحصلنا على الموافقة بداية شهر مايو أيار، وعقدناه في أنطاليا كأول مؤتمر للمعارضة السورية في 31/5/2011، إذ كان موقف الحكومة التركية يراهن على استجابة بشار الأسد للمطالب الشرعية للشعب السوري، وأذكر قول الشخصية الحكومية التركية المكلفة بمتابعة تنظيم المؤتمر: “يعتبر الرئيس أردوغان بشار كابنه وهو يراهن على كياسته”! لم ينفض أردوغان يده من بشار إلا بعدما استفحل إجرامه حين هاجمت ميليشياته المتظاهرين بالرشاشات والمدافع وبدأت تقع عشرات الضحايا ومئات الجرحى يوميا.
اليوم بعد الدمار الفظيع يوجد في تركيا نحو 4 ملايين لاجئ سوري يعتبرون تركيا أفضل بلد في التعامل معهم بعد دول العالم الجديد وبعض دول أوروبا، وحصل عشرات آلاف السوريين على الجنسية التركية. كما أن السوريين ممتنون لأردوغان لبسط حمايته على نحو 4.5 مليون سوري في مناطق شمال سورية، لولاها لحدثت مجزرة كبرى ستكلف مئات آلاف أرواح السوريين العزل المصرّين على مقاومة إرهاب أسد الطائفي حتى الموت! وهذا ما جعل سكان الشمال السوري من السُنة العرب ممتنين للأتراك على موقفهم، مع أنهم أنفسهم من قام أجدادهم بالثورة العربية على العثمانيين، ووقف آباؤهم بسلاحهم البسيط لمواجهة تهديد العسكر التركي 1957! هم بالتأكيد يقبلون الموت، وأنا منهم ومعهم، ولا يقبلون حكم الأسد ومن معه! فالحرية والكرامة وحق الحياة أهم من الجغرافيا وتقلباتها!
في نهاية العام 2017، زارتني شخصية سياسية برلمانية تركية تحمل دعوة لزيارة تركيا ومقابلة شخصية سياسية تركية كبرى، للحديث في الشأن السوري. بترحيب عال في الشخصية وبأدب جم اعتذرت عن الزيارة وحمّلت الزائر المرموق الرسالة التالية: “من الواضح أن السياسة التركية تتبنى الإخوان المسلمين في سورية وتعلق عليهم آمالها السياسية، لذلك أجد أن الزيارة ستضعني في حرج كبير، إذ لا خطط لدي للانتساب إلى الإخوان المسلمين. وأتمنى أن لا يكونوا الجهة الوحيدة التي تمثل السوريين لديكم(!؟) ولا أريد لكلمة “لا” أثناء اللقاء أن تسبب لي حرجا؛ لأنكم جيران بيتي”!
تركيا جارتنا والجغرافيا قدر؛ وبيننا تاريخ مشترك عظيم؛ إننا لن نقبل أن نكون جزءا من أي مؤامرة على الشعب التركي، وسنبقى ممتنين للأتراك حمايتهم لنحو 8 ملايين سوري داخل تركيا وعلى حدودها؛ لكننا نتطلع إلى سورية دولة مستقلة، تتعاون وترتبط مع تركيا بعلاقات ندية واحترام متبادل لما فيه خير الشعبين.
إن جلّ ما نطلبه من الحكومة التركية أن لا تفرض علينا شكل الحكم وأن تتوج مساعداتها لنا بتحقيق الاستقرار والمساعدة بإنشاء حكم ديمقراطي أو رشيد يساهم فيه جميع سكان المنطقة التي يبسطون حمايتهم عليها مؤقتا، وأن تساعد السوريين في الخارج الراغبين في المساهمة في بناء ما دمره الأسد في حربه الطائفية علينا!
إننا نعرف أنه بعد خرائط “سايكس بيكو” ليس هناك أي رغبة عالمية في تغيير تلك الخرائط، كما يحاول البعض أن يتوهم أو يوهِم، لذلك نحن نعرف أنه لا مطامع لكم في هذه المناطق، وأن الهاجس الأمني التركي هو الذي يؤرقكم، وهذا حق لكم نقر به، ولن نقبل أن تكون أراضينا ممرا لإرهاب يسيء لأمن الشعب التركي.
إننا نعرف أن من يحقق الحلم السوري بالحرية هم السوريون أنفسهم ووحدهم، ولا نطلب من أحد أن يعمل لنا ما علينا عمله بأيدينا من تحقيق النصر وطرد عائلة أسد ولفيفهم من بلادنا وصنع الأمن والسلام والرخاء لعموم السوريين وجوارهم.
بالتعاون مع أورينت.