لم يكن سهلاً أبداً على موجات من مئات الآلاف من السوريين الهاربين من الموت في بلادهم إلى “جنة” الغرب الموعودة، أن يستوعبوا تلك الحضارة بسهولة وسلاسة، وهذا ليس مستغرباً طالما أن السوري الذي قرر أن ينجو مع أسرته من الموت لم يكن لديه خيارات كثيرة.
هو لم يختر ذلك بعد تفكير وحسابات دقيقة، فعندما حزم أمتعته، وباع كل ما يملك، واستدان رحلة الطريق، كان يبحث عن الأمن والسلام قبل كل شيء، أما ترف العيش في ظل نظام ديمقراطي تتوفر فيه الحرية والعدالة والمساواة، والاستفادة من كل ذلك؛ فهذا لم يكن أولويته، أولويته كانت الخروج من الجحيم.
السوريون الذين هربوا من الموت والقصف والجوع والفقر، ومن النظام الإجرامي في دمشق، ومن إيران وميليشياتها الطائفية، ومن التنظيمات الإسلامية والكردية المتطرفة؛ كانوا فئات متنوعة غير متجانسة، منهم المتعلّم ومنهم غير المتعلّم، منهم الجامعي ومنهم من لم يتجاوز مرحلة التعليم الابتدائية، منهم المسلم المتدين وغير المتدين، منهم الفقير ومنهم المتوسط الدخل، منهم المعارض للنظام ومنهم المعارض للمعارضة نفسها، ومنهم الصامتون أو من يقفون بين بين، ومنهم من لم يكترث لكل ذلك، لم يكن يكترث إلا لحياته اليومية وعائلته، ومنهم كذلك مئات الآلاف من النساء والأطفال.
هذا الهروب الجماعي لملايين من السوريين، والحلم بالوصول إلى عسل الحضارة الغربية وجنتها في أوروبا تحديداً؛ ترافق مع ثورة هائلة في وسائل التواصل الاجتماعي أو “السوشيال ميديا”، وكان أولئك الهاربون من الموت ورغم كل ظروف الفقر والحرمان يحتفظون بين أيديهم بأحدث الأجهزة الهاتفية، وهي الأجهزة ذاتها التي كانت قد صوّرت تظاهراتهم ضد النظام، وصوّرت القصف والدمار والقمع من قبل الأجهزة الأمنية، وصوّرت موتهم وهروبهم وتفاصيل رحلة اللجوء المؤلمة كذلك. وقبل كل ذلك كانوا يحملون معهم ذواتهم المعطوبة.
لكن، وبعد ما يقارب الثلاث سنوات أو أكثر على تلك التغريبة السورية الأليمة، وبعد مئات، بل آلاف التقارير الصحافية والتلفزيونية عن قصص الاندماج والنجاح والخيبة والصدمة الحضارية بالمجتمعات الجديدة وثقافتها وقوانينها؛ كانت تنمو ظواهر جديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، ظواهر مرتبطة بالحضور الهائل للسوريين على تلك الوسائل ، حضور عبّر عن نفسه بطريقة جذابة ومفيدة أحياناً، وبطريقة فوضوية وفارغة أحياناً أخرى، وبطريقة حطّمت التابوهات الاجتماعية والأخلاقية في أحيان نادرة. لدرجة أن الكثير من السوريين وغير السوريين أصيبوا بالذهول، وربما بالخيبة، وربما بالإعجاب في أحيان قليلة.
ظاهرة “اليوتيبور” وغيرها، حيث استطاع بعض الشبان والشابات إيجاد مساحة خاصة لهم، تُعتبر مفهومة في ظل الحرمان التاريخي المزمن من الحرية السياسية والاجتماعية، سواء في مناطق النظام أو مناطق المعارضة، وهي مفهومة من قبل جيل جديد من الشبان والشابات، لديهم الكثير من الطاقة والمعرفة والطموح والرغبة في توكيد الذات، جيل متماهٍ وملتصق بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لحد كبير، وقبل كل ذلك، جيل يعاني من جرح اجتماعي غائر بعد أن ترك وتخلّى مجبراً عن كل محيطه الاجتماعي في الوطن الأم، وبعد صدمة حضارية مع المجتمع الغربي الجديد، الذي قدّم له كل شيء، وقبل أي شيء، قدّم له الحرية، وبالذات منها حرية التعبير.
بعض من أبناء الجيل الجديد من الشبان السوريين في البلاد الأوروبية وغيرها، صاروا يغنون الجاز والروك والبوب، وبعضهم صاروا يتكلم بالسياسة ويتناولون الوضع القائم، وبعضهم صاروا ينتقدون الدين، وبعضهم أو بعضهن جعلن من قضية خلع الحجاب قضية عامّة، وقررن خلعه على مرأى من الجميع، في محاولة لقول شيء ما أو التعبير عن اتجاه ما، وربما للوصول بأية طريقة، وحصد مزيد من الإعجاب والتأييد، وبعضهم تجاوزوا ذلك كله، ليستخدموا أية طريقة أو أية صور ومشاهد أو كلمات حتى لو كانت مخلّة بالآداب والذوق العام؛ من أجل الوصول وتحقيق مزيد من الإعجاب والمتابعة، وبالتالي المزيد والمزيد من “اللايكات”.
بعض السوريين والسوريات، لم يجدوا غضاضة أو حرجاً في استخدام الأعضاء التناسلية كثيراً جداً خلال حديثهم مع متابعيهم، تحت ذرائع شتى من بينها الصدق مع الذات والتكلم بلغة واحدة، أو ضرورة كسر المحرمات وثقافة الفضيلة الكاذبة، أو باختصار، كسر التابوهات السياسية والاجتماعية والأخلاقية كلها. وهذا النوع من كسر التابوهات الاجتماعية والمحرمات يحصد الكثير من “اللايكات “، من يفعل ذلك، يدرك تماماً أن المسألة والغرض الأساسي من كل ذلك ليس تحرير المجتمع بل تجميع أكبر عدد من اللايكات.
لكن، وبغض النظر، فحين الاستماع ومشاهدة هذا النوع من أشكال التعبير؛ ربما يحق التساؤل: أما كان ممكناً إيصال الفكرة ذاتها بدون اللجوء إلى استخدام هذه المصطلحات والكلمات النابية، طالما أن الغاية هي الفكرة بحد ذاتها وليس طريقة إيصالها؟ أم أن تحقيق الإعجاب ولفت النظر وحصد عشرات الآلاف من ” اللايكات” والمتابعين هو الهدف بحد ذاته؟ ثم من ناحية أخرى؛ ما هي أولوية السوري اليوم في كل بقاع الأرض؟ أليست إنهاء الألم والظلم والتخلص من هذا النظام وتلك الميليشيات ووقف الحرب؟ هل حقاً هذا هو الوقت المناسب لثورة اجتماعية لكسر التابوهات عبر استخدام كلمات مخلة بالآداب أم وقف الفقر والجوع والموت؟
هذا التساؤل مشروع جداً في ظلّ معرفة أن بعض هؤلاء صاروا أسارى وسائل التواصل الاجتماعي، وصارت هذه الوسائل والظهور عليها بمثابة مهنة جديدة تحقق دخلاً مالياً معقولاً كلما نجح “اليوتيوبر” بجني المزيد من اللايكات والمعجبين والمتابعين.
ظواهر كثيرة نتجت عن هذا الارتطام السوري الحزين والبائس بالحضارة الغربية، لكن هذه ربما تكون أبرز تجلياتها المؤلمة.. شبان هربوا من الموت والقمع والتجهيل والتجاهل في بلادهم؛ ليجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها في عالم جديد ومتقدم جداً، يقدم لهم كل شيء، ففهم بعضهم واعتقد أنه يمكنه فعل أي شيء لتأكيد انسلاخه وعدم انتمائه لذلك الماضي المؤلم، ولتأكيد أنه إنسان جديد لا يشبه نفسه، ولا يشبه اسمه ولقبه، ولا يعرف، ولا يعترف من أين أتى.
“تضربوا على سوريا تبعكم”.. مجرد عبارة عادية قالتها فتاة سورية على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما كانت تخاطب السوريين من جملة عبارات كثيرة مشابهة.