[jnews_post_author]
بعد عشر سنوات من “الصمود”، وتحمل الحرب بكل تكاليفها وتبعاتها، وبعد إزالة الحواجز وإنهاء حالة العسكرة، وبعد الحلم والتطلع إلى حياة شبه كريمة، شبه مستقرة، يستفيق سوريو الداخل على كابوس ثقيل، حيث يجدون أنفسهم في وضع أكثر صعوبة من سنيّ الحرب وأشد مرارة من الفترة التي انعدم فيها الأمان، أو التي كانت القذائف فيها تمطر مدنهم وحاراتهم، تلك السنوات التي تخيل سوريو الداخل أنها ستكون الأشد قسوة، وأن ما بعدها سيكون حالة من الرخاء وأنهم سيعودن إلى أحلامهم وأعمالهم، فإذا بهم بعد انتهاء ذلك كله يواجهون حرباً أخرى أشد فتكاً وأكثر إيلاماً، وهي حرب الرغيف وحرب القوت اليومي الذي بات من الصعوبة أن يتدبره السوري إلا بشق الأنفس.
إنها حالة من اليأس المطبق تسيطر على أولئك الذين يعيشون تحت سيطرة نظام الأسد، يأس متأسس على حالة من الحيرة أيضاً، فهل يعجز النظام فعلاً عن تأمين متطلبات المواطن المعيشية من خبز ومواد تموينية وماء وكهرباء وغاز ومازوت.. الخ، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
عجز مصطنع..
مسألة عجز النظام عن تأمين متطلبات حياة المواطن لا تنسجم وواقع الحال القائم، فالنظام القادر على تأمين كل أنواع السلاح لقصف المدن والبلدات الخارجة عن سيطرته، النظام الذي أنفق في قتل السوريين وتدمير سورية مبالغ طائلة كانت تكفي لبناء سورية حديثة ومتطورة، النظام الذي لا يزال قادراً على حماية ممتلكاته ومكتسباته وشخصياته الاعتبارية، النظام الذي يخصص لأحذية السيدة الأولى ملايين الدولارات شهرياً، وملايين مثلها لفساتين المستشارة الإعلامية لونا الشبل، النظام الذي لم يصل الفقر والجوع لأي من زبانيته حتى الآن، النظام الذي يخصص ميزانيات ضخمة للهياكل الفارغة التي يسميها مؤسسات مثل الوزارات والمديريات ومجلس الشعب، وكل تلك الأماكن التي فقدت معناها، وفقدت وظائفها وتحولت إلى مجرد ديكورات، يستعين بها من أجل تجميل صورته دون أن يكون لها دور حقيقي في حياة السوريين، سوى تعطيل مصالحهم والإضرار بهم.
هذا النظام لا يمكن أن يكون عاجزاً عن تأمين رغيف الخبز وجرة الغاز ولقمة المواطن، فثمن صاروخ واحد يمكن أن يساهم في تحسين حياة قرية بحالها، وما ينفق على عناصر المخابرات من رواتب شهرية ومكافآت وسرقات باسم عمليات متوهمة، وما يخصص للميليشيات.. الخ، كل تلك دلائل لا تقبل الشك على قدرة النظام على توفير قوت يوم المواطن وبشكل يضمن له الحد المقبول من الكرامة.
غياب الإرادة أم الانتماء؟
غير أن المشكلة هي في الإرادة، والانتماء، فالنظام لا ينظر إلى الشعب على أنه شيء يستحق الاهتمام والاحترام، فما يهمه من الشعب هو أن يقدم له هذا الشعب الخدمات والولاء، وأن يستند إليه في إثبات شرعية وجوده ولو بالقوة، أما ما دون ذلك فلا أهمية له، النظام لا يعد نفسه مسؤولاً عن الشعب، بما في ذلك حاضنته الشعبية، طائفته، مؤيدوه وموالوه، لا أحد له أهمية عند النظام فالجميع أدوات، مجرد أدوات، ولذلك فلا إرادة لدى النظام لتحسين حياة المواطن، وأيضاً، وهو الأهم، لا انتماء، فلا الرئيس ولا حاشيته ولا الدائرة الضيقة يعتبرون أنفسهم من الشعب، أو ينتمون إليه، إنهم ينظرون لأنفسهم على أنهم سادة فيما الشعب هو العبيد، على أنهم آلهة وأنصاف آلهة، أما الشعب فهو جزء من ممتلكاتهم، من أدواتهم، من أشيائهم، من حيواناتهم المنزلية في أحسن حال، ولذلك فهم يستخدمون الشعب لا أكثر، إنهم في الحقيقة منفصلون تماماً عن حياة الناس واحتياجاتهم وأوجاعهم ومطالبهم، فضلاً عن أنهم يعتقدون أن أعداد الشعب فائضة عن الحاجة والأفضل أن تتقلص ولا تهم الطريقة.
سوريا لغير السوريين
المحير بالنسبة لهؤلاء السوريين ليس الحالة الاقتصادية والمعيشية بحد ذاتها، قدر ما هي حالة التباين الواسعة وغير التقليدية بين الأغنياء والفقراء، ففي كل المجتمعات يمكن أن تكون ثمة طبقات فقيرة وأخرى غنية، ولكن مظاهر الترف والرفاهية التي تنعم بها طبقة معينة غير قابلة للتفسير، فلو أن الفقر والعوز كانا من مخلفات الحرب والحصار، لكانت تلك حالة عامة، ولكنها ليست كذلك، إذ كيف يتفق أن يجتمع كل ذلك الثراء مع كل ذلك الفقر والفاقة في مكان واحد ولدى مجتمع واحد؟ لو كان الحصار حقيقياً، لو كان لقانون قيصر أثر فعلي لاختفت مظاهر كثيرة منها مثلاً أحدث أنواع السيارات وأحدث أنوع الموبايلات التي تصل للمسؤولين وأبنائهم، وللشبيحة قبل وصولها لدول متطورة، باختصار لو كان للحصار وقانون قيصر من تأثير لما وجدنا على الأقل تلك المنتجات التكنولوجية في أحدث موديلاتها، ولما وجدنا أيضاً فنادق من فئة النجوم الخمس محجوزة مسبقاً وبأسعار تضاهي أسعار دبي وباريس وأمستردام.
البحث عن مهرب..
من هنا فإن الضغوط التي يحس بها المواطن تدفعه للتفكير التلقائي في الهجرة، وهذا هو بالذات ما يسعى إليه النظام، إنه استكمال لخطة التهجير ولكن هذه المرة من خلال إلقاء براميل من نوع آخر، براميل من الإفقار والعوز والاحتياج، براميل من الإهمال والازدراء، ما يجعل المواطن لا يجد حلاً إلاّ من خلال الهجرة، وبحيث يكون التهجير طوعياً وتلقائياً، ولكن حتى هذه يريد النظام استثمارها حتى النهاية، ففي الوقت الذي يقوم النظام بدوره في خطة التهجير على أكمل وجه، لا يكف عن استثمار ذلك للمزايدة بالسيادة والوطنية، وبأن جوع الناس وفقرهم وعوزهم ناشئ من تسديد النظام لفاتورة الصمود ضد الصهيونية والإمبريالية وما إلى ذلك من الشعارات الفارغة، وربما كان وعي السوريين بوقاحة النظام تلك سبباً أساسياً للتفكير في الهجرة، سبباً أكبر من جوعهم وعوزهم.
ربما صار البحث عن مهرّب موثوق ديدن السوريين، ولكن بات من الواضح أن هؤلاء المهربين هم أيضاً مرتبطون بالنظام بشكل أو بآخر، ربما يعملون لصالحه بشكل مباشر، أو أن النظام أوجد لهم ذلك العمل كمصادر دخل بديلة، وبهذا يكون النظام لا يكف عن الاستثمار بالمواطن حتى آخر رمق فيه، حتى وهو يهجر بلده ربما إلى غير رجعة..
د. عبد القادر المنلا