د. غادة أبو شحيط – الناس نيوز ::
يدخل العالم عاماً جديداً وقد تحولت الشكوك إلى العملة الأكثر تداولاً، بعد جائحة لم تعرف لها البشرية مثيلاً منذ عقود طويلة، كذلك تفعل الجزائر ولكن الجائحة ليست السبب الوحيد فثلاث سنوات بعد اندلاع الاحتجاج الشعبي الذي سمي “حراكا”، وأفضى إلى دفع الرئيس السابق نحو الاستقالة بعد أسابيع من ضغط الشارع، لا يزال الجزائري محتاراً، مقتسماً التشكيك في المستقبل غير واضح المعالم مع بقية الشعوب في عالم على أبواب مخاض جديد، أو الالتفات نحو ماضٍ مثخن، وجب تحرير ما نجح في البقاء منه.
لا تبدو الجزائر قد شفيت تماماً من “بوتفليقة” (1937-2021)، الحاضر في الأذهان حتى بعد أشهر من وفاته، يصعب على الجميع تصديق رحيله، هو الذي تكررت شائعة موته أكثر من أي شائعة أخرى في سنوات حكمه، سن لزمانه تقاليد – كسلطان عربي يحترم انتماءه – لم يحد عن التراث في هذا المجال ولم يعرف تاريخ البلاد رجلاً قدس نفسه واسمه كما فعل هو.
لعل الرجل قد ضبط استراتيجيته قبل أن يصل إلى سدة الحكم حتى، ففي فيديو شهير لم يبق متاحاً منه إلا جزء بسيط على الإنترنت يقول إن “الجزائر تتجسد فيه”، وذلك ما كان، ولايتان انتخابيتان نشطتان جداً، ومثلهما اثنتان حكم فيهما البلاد ومن فيها من سرير المرض، عرفت عبثاً غير مسبوق بالدولة ومؤسساتها.
مشاريع الرجل العملاقة كانت على وزن هوسه، وكان أول ما سنه من قوانين هو ما عرف بـ”قانون المصالحة الوطنية” قانون أراد به أن يضع حداً للأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد لمدة عشر سنوات كاملة، والتي يرفض الجزائريون إلى اليوم تسميتها بالحرب الأهلية على الرغم من أنها استوفت أركانها كافة.
يشير كثيرون إلى أن الرجل المعتد بعظمته والعائد من غياهب التاريخ الرسمي وقتها، أراد أن يعزز أيقونيَته بأن يحذو حذو “مانديلا”، طامعاً في “نوبل للسلام” بهذا القانون الذي ساوى بموجب كثير من نقاطه بين الضحية والجلاد، وجرم الخوض ببساطة في ذاكرة العشرية بأي شكل من الأشكال حتى الفنية والفكرية، على الرغم من أن زبانية الرجل لم يتوانوا عن عرض مشاهد دموية “حصرية” لعشرية الدم، على القناة التلفزيونية الرسمية، غداة انطلاق مسيرات “حراك 22 فبراير 2019” المناهضة لترشحه لولاية رئاسية خامسة، في مساومة مفضوحة فهمت شعبياً كتهديد من الموالين له بعودة الدم إذا ما أزيح عن الحكم.
جنون مشروع الرئيس السابق أدى لمصادرة الذاكرة الشعبية لتلك المرحلة لعشريتين كاملتين، تخللتمها أعمال قليلة حولها فنياً، تلخصت في بضع إنتاجات سينمائية مشتركة بين الجزائر وبلدان أخرى كثلاثية “نذير مقناش” (قبل تبني القانون نهائياً): “حرملك السيدة عصمان”، “فيفا لالجيري”، “ديليس بالوما”، وحتى “بابيشا” لـ”مونيا مدور”، في حين بدا الأدب أكثر جرأة على تناول تلك الحقبة التي لاتزال محاطة بالكثير من الغموض لنجد الكثير من الأعمال التي تناولتها كـ”القلاع المتآكلة” لـ”محمد ساري” (1958-) (2013 عن دار البرزخ)، و”1994″ (دار البرزخ، 2017) لـ”عدلان مدي” (1975-)، “دم الغزال” (دار القصبة، 2007) لـ”مرزاق بقطاش” (1945-2021) وغيرها كثير.
في الذكرى الثلاثين لاشتعال فتيل الأزمة الجزائرية (11/يناير_ كانون الثاني/1992-2022)، لا يبدو أن ذكراها قد سقطت بالتقادم من المخيال الإبداعي، خصوصاً أن عرابيها قد جعلوا من المبدعين هدفاً، بل إن جحيم سنوات الدم تلك قد وجد أخيراً مرادفاً فنياً في قاموس المبدعين الجزائريين على اختلاف مشاربهم، ليتفقوا على الجنون كثيمة للفترة التي استبق فيها بسطاء الجزائريين وقتها الصمت المفروض حولها بعجزهم عن منحها لقباً صريحاً مستعيضين بمصطلحات شعبية ولكن عميقة الدلالات للتعبير عنها كـ”الجمرة” و”الكية” التي لن يحيط بفحواها سوى من عايش تلك الفترة.
فمن أسابيع قليلة صدر للروائي والصحفي والمترجم الجزائري “جيلالي خلاص” (1958-) رواية حملت عنوان “الرجل الذي يكتب على راحته” عن “منشورات القصبة” (2021)، في حين حاز المخرج الجزائري الشاب “أمين سيدي بومدين” (1982-) على جائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان القدس الدولي (نسخة 2021) عن فيلم “أبو ليلا” الذي يتوسط التصنيف بين أفلام الرعب وسينما المؤلف بكثير من التميز، وهو الذي صدر بعد أسابيع قليلة من انطلاق موجة “الحراك” في الجزائر (في 20مايو/أيار 2019).
لا يمكن اعتبار رواية “خلاص” تمريناً متميزاً في السرد الروائي، إضافة للكثير من الهفوات التي شابت فيلم “أمين سيدي بومدين” (النقلات بين عالم واقع الفيلم وهلوسات الممثل الرئيسي غير موفقة أحياناً).
عالج كلا العملين عشرية الدم. روى “جيلالي خلاص” قصة “الرجل الذي يكتب على راحته” الروائي والمشتغل بالثقافة المدعو “جمال لكحل” الذي يتعرض لمحاولة اغتيال على يد فرد من مجموعة إسلامية مسلحة، لتنطلق أحداث الرواية وتتلاحق، فيتحول الوالد “محمد لكحل” المجاهد بثورة التحرير إلى عنصر “دفاع ذاتي” أو “باتريوت” – كما كانت تسمى تلك العناصر في تلك الفترة – حتى يتمكن من الانتقام من جلادي ابنه الذي تركوه فريسة لانهيار عصبي شديد.
بعد أن يفلح في القضاء على هدفه يقرر الانسحاب والعودة إلى حياته والاعتناء بابنه، السفر به خارجاً والاستقرار، قبل أن يلقى حتفه هو وزوجته على يد متشددين انتقاماً مما أذاقهم، ما يدفع “جمال” لولوج حلقة الانتقام بدوره على الرغم من حالته غير المستقرة.
أما “أمين سيدي بومدين” فيروي قصة الشرطي “المفتش أس” الذي يصاب بأزمة نفسية حادة إثر تضاعف عدد الاغتيالات، سرعان ما يصاب بهوس إرهابي يكنى بـ”أبو ليلا”.
يتلاعب المخرج بالمشاهد، يحدث أن يقنعه بأن “أبو ليلا” ليس سوى وليد خيالات الشرطي، الذي سيلاحقه برفقة صديقه حتى صحراء الجزائر.
سرعان ما سينحدر بطل “سيدي بومدين” نحو جنون محقق، بعد أن تقض الكوابيس نومه، وتلاحقه في يقظته. يبدع المخرج في اختيار زوايا التصوير والمناظر، كما الإضاءة، إضافة إلى الرمزيات التي سيتخذها لتصوير أكثر المشاهد رعبا، كقطيع الحملان الذي سينقض عليه الشرطي في قمة هلوساته.
يشترك “خلاص” مع “سيدي بومدين” في الانطلاق من حوادث اغتيال الصحفيين والمثقفين التي ميزت تسعينات الجزائريين، ليروي كل منهما بعدها الجزائر من زاويته، كما يشتركان في خط سيرة الجنون الفردي بمعناه المرضي/ الإكلينيكي، الناجم عن حالة الجنون الجماعي التي يقودها التطرف الديني والحسابات الضيقة، وتبقى عصية عن التفسير حتى اليوم.
يخص “جيلالي خلاص” صفحات طويلة لسرد معاناة “جمال لكحل” مع أعصابه التي “تتلاشى وتتقطع” حسب وصفه، هو الذي عايش عشرية الدم كمثقف وكاتب صحفي، في حين سيخصص “أمين سيدي بومدين” “ماستر سينز” كاملة لعرض حالة سقوط “المفتش أس” نحو صحراء نفسه، حيث تعشش الخيالات المحمومة، يغامر كلاهما إذ يتخذان من الانتقام ثيمة، انتقام رمزي يوصل “أس” لحتفه، في حين يكون “جمال لكحل” أكثر حظاً إذ ينقذه صديقه “محمد” من موت محقق بغابات “الشريعة”، بعد أن ينجح بهشاشة المريض ورهافة الكاتب في إطلاق النار على عناصر مارقة.
قد يكون تحرر مشرط الفن خوضاً في ذاكرة عشرية الجنون أمراً صحياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة الشعبية لتلك المرحلة، في كتب وأفلام صدرت وأخرى قيد الإنجاز، لتعبير أكثر عمقاً وكثافة عن مأساة لا تزال حية في الوجدان الجمعي لأمة كاملة، وخطوة أساسية قبل أن تتخذ طريقها نحو مكانها الطبيعي ضمن التاريخ الإنساني الأشمل.
د . غادة بوشحيط