في كتاب العهد القديم المليء بالملاحم وسلاسل القصص، هنالك شخصيتان مرسومتان بأسلوب روائي على درجة عالية من الحِرَفية، لا تقل عن حرفية الروائيين الأوربيين العظام في القرن التاسع عشر، هما شخصية موسى وشخصية الملك شاؤول. ولنبدأ بموسى.
لم يكن لدى موسى مشكلة في منفاه الصحراوي بمديان بعد أن فر من مصر سوى العقوبة التي تنتظره إذا عاد إليها، وقد حُلت هذه المشكلة عندما توفي الفرعون الذي كان يطلب حياته. ولكن بينما كان يستعد للسفر مع عائلته وقعت له مشكلة لا حل لها قلبت حياته رأساً على عقب، عندما تجلى له الإله يهوه في نار شجيرة صحراوية تتوهج بالنار دون أن تحترق، وأمره بالتوجه إلى مصر لتحرير بني إسرائيل من ذل العبودية هناك، وقيادتهم إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً في كنعان. وبما أن موسى لم يكن يعرف هذا الإله، ولا بني إسرائيل، فقد سأله عن اسمه فقال له: “هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد”- الخروج 3: 15-13. ولكن موسى اعتذر عن قبول المهمة بحجة أنه ثقيل الفم والكلام ولا يستطيع مخاطبة بني إسرائيل. وعندما أصر عليه الرب أعلن له صراحة أنه لن يذهب وأن عليه أن يختار شخصاً آخر قائلاً بنزق: “استمع أيها السيد. أرسل بيد من ترسل”. (الخروج 13:4).
صدع موسى بما أُمر وهو غير راغب في هذه المهمة على الرغم مما أظهره فيما بعد من قوة شخصية وقدرة على القيادة وبراعة في التكتيك العسكري. كما أن بني إسرائيل الذين أراد يهوه تحريرهم ليكون إلههم وحدهم، لم يكونوا راغبين في دفع الثمن الباهظ لهذا التحرير من جوع وعطش وتجوال في الصحاري، ولم يكونوا ميالين إلى هذا الإله الذي فرض نفسه عليهم، ولذلك كانوا عبر الأسفار الأربعة التي خصصها المحرر التوراتي لملحمة الخروج، يتذمرون على موسى ومساعده هارون لأنهما أخرجاهما من مصر، وبعد كل تذمر على موسى وإلهه كان يهوه يوقع بهم مجزرة تودي بحياة الآلاف منهم. وقد أحصيتِّ عدد من قتل يهوه من شعبه بين سفر الخروج وسفر صموئيل الثاني أيام الملك داود، وفق الأرقام الواردة في الكتاب فبلغ أكثر من مئتي ألف من الشعب الذي أبى أن يكون مختاراً حتى أواخر الرواية التوراتية، وها هو يهوه يشكو للنبي إرميا بعد نحو سبعمئة سنة من عصر موسى عقوق شعبه: “أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم؟ الأبناء يلتقطون حطباً والآباء يوقدون النار، والنساء يعجنَّ العجين ليصنعن كعكاً (قرباناً) لملكة السماوات (الإلهة الكنعانية الكبرى)، ولسكب سكائب لآلهة أخرى لكي يغيظونني”- إرميا 7: 18-17. وبعد دمار أورشليم وسبي أهلها إلى بابل عام 587 ق.م، راح النبي إرميا يحضهم على العودة للرب فقالوا له: “إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمتنا بها باسم الرب بل سنعمل كل أمر خرج من فمنا، فنبحر لملكة السماوات ونسكب لها سكائب كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم فشبعنا خبزاً وكنا بخير”- إرميا 44: 17-16.
بدأ تذمر بني إسرائيل منذ مطلع سفر الخروج عندما لحق بهم الفرعون بجنوده وعرباته بعد أن ندم على إطلاقهم، فأدركهم عند شاطئ البحر (الذي قد يكون خليج السويس أو إحدى البحيرات الحرة الواقعة إلى شماله)، فلما رأى بنو إسرائيل الجيش المصري صرخوا قائلين لموسى: “هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر قائلين كُفَّ عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية”- الخروج 14: 12-11. وقد بلغ التذمر في إحدى المرات حداً دعاهم أحياناً إلى التنادي لتعيين رئيس عليهم بدل موسى يعيدهم إلى مصر (العدد 14: 4). وفي هذا كله كان موسى واقعاً بين مطرقة الرب وسندان الشعب، بين إله غضوب متطلب وشعب متمرد، ولطالما شكى موسى إلى ربه بليته هذه قائلاً: “لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أنل نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل هذا الشعب علي… فإذا كنتَ تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً إن وجدتُ نعمة في عينيك فلا أرى بليتي”- العدد 11: 14-11.
على أن واحدة من حوادث التذمر كانت مفصلية في حياة موسى، لأن ردة فعله عليها جلبت عليه غضب الرب ورسمت له قدراً محتوماً لا مرد له. فعندما وصلوا إلى موضع في الصحراء يدعى برية صين ولم يكن فيه ماء لشرب الجماعة خاصم الشعب موسى وقالوا له: “لماذا أتيتما بنا إلى هذا المكان الرديء؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان ولا فيه ماء للشرب. فقال الرب لموسى: خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك وكلما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها فتُخرج لهم ماءً”. ولكن موسى الذي كان في حالة يأس وإحباط وتعب لم يكلم الصخرة وإنما ضربها بعصاه قائلاً لهم: “أمِن هذه الصخرة نخرج لكم ماءً؟ ولكن الماء انبثق منها وشرب الجميع وسقوا ماشيتهم” (العدد 20: 11-1).
لقد ارتكب موسى في هذه القصة خطيئة طقسية عندما ضرب الصخرة بعصاه ولم يكلمها كما أُمر، كما أنه ارتكب خطيئة أمَرَّ وأدهى عندما شك أن بإمكان هذه الصخرة أن تُخرج من جوفها ماءً. وهنا نطق الرب بقضائه عليهما وهو الموت قبل دخول الأرض الموعودة، ولم يشفع لموسى كل ما قدمه للرب من طاعة وخدمة: “فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل، لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها”- العدد 20: 12. وقد حُم القضاء على هارون أولاً عندما وصلت الجماعة بلاد آدوم: “فكلم الرب موسى وهارون قائلاً: يُضم هارون إلى قومه (يموت) لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيتُ لبني إسرائيل لأنكم عصيتم قولي عند ماء مَريبة. خذ هارون وأليعازر ابنه واصعد بهما إلى جبل هور، واخلع عن هارون ثيابه (الكهنوتية) وألبس أليعازر ابنه إياها فيضم هارون ويموت هناك”- العدد 20: 26-24. أما موسى الذي كان يتوقع عقوبة الموت في كل لحظة، فقد تابع قيادة الشعب نحو كنعان ودخل في سلسلة حروب مظفرة في الجنوب السوري كان خلالها ينفذ تعاليم إلهه المولع بسفك الدماء، حتى أنه في إحدى الغزوات التي أوكل بها قادته العسكريين قتل كل ذكر من الأسرى الأطفال (راجع سفر العدد الإصحاح 31)، حتى وصل أخيراً إلى جبل نَبو على الضفة الشرقية لنهر الأردن مقابل أريحا الواقعة على الضفة الغربية، وهناك أصعده الرب إلى قمة الجبل وأراه الأرض الموعودة وقال له: “قد أريتك إياها بعينيك ولكن إلى هناك لا تعبر. فمات هناك عبد الرب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء ولم يعرف إنساناً قبره”- التثنية 34: 6-1.
لقد تميزت سيرة موسى بالطاعة المطلقة لربه، ومن خلال الطاعة صارع قدره. أما سيرة الملك شاؤول فقد تميزت بالتفرد بالقرار ومساءلة الرب في أحكامه والعمل بما يراه حسناً في عينيه لا في عين الرب، بل وفي معارضة مشيئته أحياناً. لقد صارع قدره من خلال التمرد وصارع مرض الاكتئاب الذي أصابه به الرب، وهو يقود حملات التحرير الظافرة ضد الفيليستيين الذين استعبدوا شعبه. وإليكم القصة ملخصة عن سفر صموئيل الأول مع تعليقاتي عليها، أرويها بشغف لأنني طالما رأيت في شاؤول النموذج المبكر للفارس النبيل الذي نجده في عصر الفروسية الأوروبي وفي عصر الساموراي الياباني، وعصر الفروسية العربي أيام الحروب الصليبية. على أنني لا أنظر إلى هذه القصة باعتبارها تاريخاً وإنما باعتبارها أدباً وأتعامل معها على هذا الأساس.
كان النبي صموئيل آخر من ولي القضاء لإسرائيل في عصر القضاة الذي استمر مدة قرنين من الزمان، عندما لم يكن للقبائل الاثني عشر في منطقة المرتفعات الفلسطينية التي استوطنوها نظام سياسي مركزي، وإنما قضاة يختارهم الرب لتسوية الخلافات بين القبائل وتجهيز المتطوعين للحروب إذا لزم الأمر. وكان الفيليستيون (وهم بقايا شعوب البحر التي غزت المنطقة وعاثت فيها فساداً قبل أن يهزمهم فراعنة مصر، ويسمحون لفريق منهم بالاستقرار على الجيب الساحلي الجنوبي من فلسطين)، يزيدون ضغطهم على مناطق العبرانيين أعداءهم التقليديين ويكسبون المعارك ضدهم واحدة إثر أخرى. وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل ابنيه قضاة لإسرائيل، ولكنهما لم يسلكا في طريقه بل مالا إلى المكسب وأخذ الرشوة، فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاؤوا إلى صموئيل وقالوا له: هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسلكا في طريقك، فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب. فساء الأمر في عيني صموئيل وصلى إلى الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون، لأنهم لم يرفضوك بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم.
بعد أن تلقى صموئيل أمر الرب بتعيين ملك على الشعب، كان عليه أن ينتظر الوحي بخصوص الرجل المختار الذي سيمسحه بالزيت المقدس ليغدو مسيحاً للرب وملكاً على إسرائيل. وطقس المسح بالزيت المقدس استنه يهوه لموسى في سيناء، وعلمه كيفية تحضيره والمواد الداخلة في تركيبه، وأمره أن يمسح به الأثاث الطقسي لخيمة الاجتماع مسكن الرب، ويمسح هارون وبنيه ليقدسهم كهنة له، ومنع على أحد أن يصنع مثله أو يضع منه على نفسه تحت طائلة الموت. ثم إن الرب كشف أذن صموئيل قائلاً: غداً في مثل الآن أُرسل لك رجلاً من أرض قبيلة بنيامين فامسحه رئيساً لشعبي ويخلصهم من يد الفلستيين.
وكان رجل من قبيلة بنيامين جبار بأس اسمه قيس بن أبيئيل، وكان له ابن اسمه شاؤول، شاب حسن الصورة لا يوجد في بني إسرائيل أحسن منه وكان أطول قامة من كل الشعب. فضلَّت له أُتُنٌ فقال لابنه شاؤول أن يأخذ معه واحداً من الغلمان ويذهب للتفتيش عنها. فعبر شاؤول أرض بنيامين فلم يجدها حتى وصل إلى الرامة مقر النبي صاموئيل، فقال له الغلام: إن رجل الله في هذه المدينة فلنذهب إليه ليخبرنا عن الطريق الذي نسلكه. وفيما هما آتيان في وسط المدينة إذا بصموئيل خارج للقائهما، فلما رأى شاؤول قال له الرب: هوذا الرجل الذي كلمتك عنه. فتقدم شاؤول إلى صموئيل قائلاً: أطلب إليك أخبرني أين بيت الرائي؟ فأجابه صموئيل. أنا الرائي، تعالا لتأكلا معي اليوم وغداً أطلقك. وفي صباح اليوم التالي دعا صموئيل شاؤول وقال له: قل لغلامك أن يَعبر قدامنا وأما أنت فقف الآن فأُسمِعك كلام الرب، ولما عبر الغلام أخد صموئيل قنينة الزيت وصب منها على رأس شاؤول وقبله وقال: لأن الرب قد مسحك على شعبه رئيساً.
بعد ذلك كان لا بد من إعلان الخبر لجميع القبائل، فدعاهم صموئيل إلى بلدة المصفاة وقال لهم: هكذا يقول الرب: إني أصعدتكم من مصر وأنقذتكم من أيدي المصريين، وأنتم قد رفضتم اليوم إلهكم وقلتم له بل تجعل علينا ملكاً. فالآن امثلوا أمام الرب حسب أسباطكم وألوفكم. فقدم صموئيل جميع أسباط إسرائيل إلى الرب فاختار منهم سبط بنيامين، ثم قدم سبط بنيامين حسب عشائره فاختار عشيرة مطري، ثم قدم عشيرة مطري فاختار منهم شاؤول بن قيس. فوقف شاؤول بين الشعب فكان أطول قامة من كل الشعب، فهتف الجميع وقالوا: ليحيى الملك.
وقد عمد شاؤول من فوره لتشكيل جيش دائم محترف، فاختار بضعة آلاف قسمهم إلى ثلاث فرق فرقة مع ابنه يوناثان وفرقتين معه. فمضى يوناثان وضرب أنصاباً للفلستيين كانوا قد نصبوها في جبع، فلما سمع الفلستيون تجمعوا لمحاربة إسرائيل فارتعد الشعب كله. وكان شاؤول في الجلجال يعد العدة لصد هجوم الفلستيين، وينتظر وصول صموئيل لكي يقدم ذبائح السلامة ويُصعد محرقات للرب على ما تنص عليه الشريعة قبل التوجه إلى القتال، وهي مهمة يقوم بها الكاهن أو النبي. ولكن صموئيل تأخر وأتباع شاؤول بدؤوا بالتفرق عنه، فما كان منه إلا أن ذبح بنفسه وأوقد وأصعد محرقات للرب، ولما انتهى إذ بصموئيل مقبل فخرج شاؤول للقائه وتلقي بركته. فقال له صموئيل: ماذا فعلت؟ فقال شاؤول: لأنني رأيت الشعب تفرق عني وأنت لم تأت في الميعاد والفلستيون متجمعون في مخماس، فقلتُ الآن يأتون قبل أن أتضرع لوجه الرب فأصعدت محرقة. فقال صموئيل: قد انحمقت لأنك لم تحفظ وصية الرب إلهك. كان الرب سيثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد أما الآن فمملكتك لا تصمد، وسينتخب الرب لنفسه رجلاً حسب قلبه ويأمره أن يترأس على شعبه.
وهكذا حكم يهوه على مُلك شاؤول بالزوال مع بدايته. وأما شاؤول الذي لم يعلق على تعنيف صاموئيل فقد تابع واجباته وكأن شيئاً لم يكن، لقد عمل ما حَسُنَ في عينيه وما عمله كان صواباً. ولكن ما يحسن في عيون الناس ليس بالضرورة حسناً في عين الرب الذي يطلب الطاعة المطلقة دون مساءلة، وبصرف النظر عن الظروف والملابسات التي تدعو أحياناً إلى التهاون في الامتثال للشريعة، ولذلك فإن التعامل معه لا يصلح إلا بالرياء والمداهنة. وهذا ما أدركه أيوب بعد أن أمضى ردحاً من الزمن يطلب من ربه العدالة بعد أن أنزل به الكوارث واحدة بعد أخرى ليعرف ما إذا كان هذا الرجل البار يتقيه مجاناً أم لأنه مدَّ له في ماله وماشيته ونسله. فقد سرق اللصوص أبقاره وحميره وضربوا الغلمان الذين يحرسوها بحد السيف، ثم سقطت نار من السماء فأحرقت الغنم ورعاتها، وهجم فريق آخر من اللصوص على جماله وأخذوها وضربوا الغلمان بحد السيف، وأخيراً هبت ريح شديدة وهدمت بيت ابنه الأكبر حين كان يقيم وليمة لإخوته وأخواته فمات أولاد أيوب جميعاً. فقام أيوب ومزق جبته وجز شعر رأسه وخر على الأرض وسجد وقال: عريان خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود إلى هناك، الرب أعطى والرب أخذ. وفي كل هذا لم ينسب أيوب للرب جهالة ولم يخطئ (سفر أيوب 1: 13 22-). وكأن هذا كله من يكن كافياً، فبعد هذه الكوارث التي أصابه بها الرب في ماله ونسله فقد أصابه أيضاً في جسده عندما ضربه بقروح رديئة من رأسه إلى باطن قدمه، فجلس أيوب في وسط الرماد يحك جلده بكسرة فخار (أيوب: 2: 7). لم ينسب أيوب للرب جهالة ولكنه كان يطالبه بالعدالة: “لماذا تستذنبني؟ أفهمني لماذا تخاصمني؟ أحسنٌ عندك أن تظلم، أن ترذل عمل يديك” (أيوب 10: 2-1). “أيكون الإنسان أبرَّ من الإله، أم الرجل أطهر من خالقه؟” (أيوب 4: 17). “إن كان من جهة قوة القوي يقول هأنذا، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني؟ إن تبررتُ يحكم على فمي، وإن كنتُ كاملاً يستذنبني… لذلك قلت الكامل والشرير هو يفنيهما” (أيوب 9: 22-19).
ولكن بدلاً من أن يجيب يهوه عبده عن تساؤلاته ويحتكم إلى عدالته المفقودة، راح يتباهى أمامه بأعمال لا يقدر عليها إنسان وبتسلطه على عمليات الطبيعة: “أين كنتَ حين أسستُ الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم، من وضع قياسها أو من مدَّ عليها مطماراً؟ على أي شيء قرت قواعدها أو من وضع حجر زاويتها؟ عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله” (أيوب 7-4:38). ويغطي هذا الخطاب الطويل الاستعراضي أربعة إصحاحات من 38 إلى 41. وهنا أدرك أيوب أن رضى هذا الإله لا يُنال بالبر والإحسان وإنما بالخوف والخضوع، لذلك فقد نطق أيوب أخيراً بالقول الذي أنهى محنته: “قد نطقتُ بعجائب فوقي لم أعرفها… بسمع الأذن سمعت عنك والآن رأتك عيني، لذلك فإنني أنكر مقالتي وأندم في التراب وفي الرماد” (أيوب 42: 5-1). لقد تخلى أيوب عن كبرياءه الإنساني وأظهر ليهوه ما يجب أن يراه في الإنسان، أي: عبد يهوه. وبذلك انتهت العلاقة المتوترة بين الطرفين، وأعاد يهوه لأيوب صحته ومنَّ عليه بأملاك جديدة ونسل جديد.
على أن العلاقة بين شاؤول ويهوه كانت أكثر حساسية وتعقيداً، فشاؤول كان ملكاً وبالتالي فإن سلوكه المنفلت عن رقابة الرب الذي يعتبر نفسه الحاكم الوحيد للشعب، لا ينعكس عليه كفرد بل على الشعب وعلى علاقة الشعب بالرب، وسوف يدخل الطرفان في علاقة متوترة دامت عشرين سنة، وسوف يعود شاؤول للعمل بما حسُن في عينيه لا ما حسُن في عيني الرب ووفق المعايير الإنسانية في الخطأ والصواب. وعلى الرغم من أن صموئيل كان ينقل إليه في كل مرة غضب وعربدات يهوه إلا أنه أحبه بعمق، وكان يراقب مسيرة حياته بإعجاب خفي عبر عنه محرر السفر بصيغ شتى، فلقد أمضى شاؤول حياته في حروب تحريرية متواصلة، وضرب جميع أعدائه حواليه: موآب وعمون وآدوم وملوك صوبة وحيثما توجه غلب، وكانت حربه شديدة على الفلستيين كل أيامه (صموئيل الأول 14: 52-47).
ثم إن صموئيل جاءه بأمر الرب بمحاربة شعب العماليق وتطبيق قاعدة التحريم عليهم والتي استنها يهوه لموسى في صحراء سيناء ثم طبقها يشوع على أوسع نطاق في فلسطين، وهي تقضي بإفناء كل نفس حية للعدو حتى مواشيه: “هكذا قال رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق إسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرّموا كل ما له ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً… وضرب شاؤول عماليق من شور إلى حويلة التي قبالة مصر، وأمسك أجاج ملك عماليق حياً، وحرم جميع الشعب بحد السيف، وعفا شاؤول والشعب عن أجاج وعن خيار الغنم والبقر والخراف وعن كل الجيد ولم يرضوا أن يحرموها، وحرموا كل الأملاك المحتقرة والمهزولة. فكان كلام الرب إلى صموئيل قائلاً: ندمت على أني قد جعلت شاؤول ملكاً لأنه مال عن اتباعي ولم يُقم كلامي. فحزن صموئيل وصرخ إلى الرب الليل كله”- صموئيل الأول 15: 11-1.
لقد كان شاؤول على معرفة بشريعة التحريم وصموئيل أعاد على مسامعه ما يتوجب عليه فعله، ولكنه لم يجد سبباً مقنعاً لقتل جميع مواشي العماليق فحرم الضعيف والمهزول منها وأبقى على الصحيح والسمين. ولكن الأرواح التي تُزهق وفق شريعة الحريم هي قربان يقدم إلى الرب، والرب قال صراحة لموسى أنه لا يقبل لقربانه إلا كل صحيح وسليم. ولذلك فإنه لا يجد في سلوك شاؤول إلا إصراراً على معاندته. كما نلاحظ في موقف صموئيل ازدواجية خفية تجاه الرب، فهو يحب شاؤول ويرى فيه الملك المثالي، وبإمكان المرء أن يفترض أيضاً أنه كان ميالاً لرأي شاؤول، ولكنه على عكس شاؤول كان قريباً من الرب ويعرف أكثر من غيره الجوانب المظلمة في شخصيته، وأن تقوى الرب، لا تكون إلا بالإذعان غير المشروط لإرادته. لقد بكى صموئيل طيلة الليل متوسلاً إلى الرب أن يعفو عن شاؤول، ولكن بكاءه هذا لم يكن سوى تنفيساً عن كربته لأنه عارف في قرارة نفسه أن لا رجوع للرب عن قراره لأن شاؤول أصابه في موطن وجعه.
وفي الصباح كان لا بد مما ليس منه بد، فبكر صاموئيل للقاء شاؤول العائد من الحرب، وعندما وصل كتم صاموئيل عواطفه وراح يتكلم بلسان الرب، فجرى بين الاثنين الحوار التالي (صموئيل الأول: 15):
شاؤول: مبارك أنت للرب، لقد أقمتُ كلام الرب.
صموئيل: وما هو صوت الغنم هذا في أذني وصوت البقر الذي أنا سامع؟
شاؤول: من العمالقة أتينا بها لأن الشعب عفا عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للرب إلهك، وأما الباقي فقد حرمناه.
صموئيل: كُفَّ فأخبرك بما تكلم به الرب إليَّ هذه الليلة.
شاؤول: تكلم.
صموئيل: أليس إذا كنتَ صغيراً في عينيك صرتَ رأس أسباط إسرائيل ومسحك الرب ملكاً؟ فلماذا لم تسمع لصوت الرب بل مِلت إلى الغنيمة وعملت الشر في عيني الرب؟
شاؤول: إني سمعت لصوت الرب وذهبت في الطريق التي أرسلني فيها، وحرمت عماليق وأتيت بأجاج ملكهم، فأخذ الشعب من الغنيمة بقراً وغنماً خيار الحرام لأجل الذبح للرب إلهك.
صموئيل: هل يُسر الرب بالمحرقات والذبائح كما يُسرُّ بالطاعة؟
شاؤول: أخطأت لأني تعديت كلام الرب وكلامك، والآن ارجع معي فأسجد أمام الرب.
صموئيل: لا أرجع معك لأنك رذلت كلام الرب فرفضك الرب من أن تكون ملكاً لإسرائيل.
وذهب صموئيل إلى الرامة أما شاؤول فصعد إلى بيته في جبعة شاؤول. ولم يعد صموئيل لرؤية شاؤول إلى يوم موته (أي موت صموئيل).
إن الندم والتوبة اللذان أظهرهما شاؤول هنا لا يعبران عن تغير في موقفه من قراراته لأن بقية سيرته التي سنتابعها تكشف عن ثباته على ذلك الموقف، ولكنه أدرك مثل أيوب أن التعامل مع هذا الإله لا يكون إلا بالنفاق. أما لماذا فشل شاؤول فيما نجح فيه أيوب، فلأن أيوب كان موضع اختبار وولاؤه موضع شك إلى أن أثبت العكس، أما شاؤول فقد كان واضحاً منذ البداية عندما أظهر استقلالية في القرار ثم أتبع ذلك بانتهاكه لقاعدة التحريم، وما من توبة زائفة يمكن أن تنقذه من مصير الذي تقرر. لقد اختار الدخول في صراع من قوة عليا وخسر في النهاية. وهو في ذلك يشبه بروميثيوس الإغريقي الذي سرق النار الإلهية من السماء ووهبها للبشر من أجل نقلهم من طور الهمجية إلى طور الحضارة، ولكن كبير الآلهة زيوس الذي كان راغباً في إبقاء البشرية على جهلها وتخلفها، عاقبه بأن قيده إلى صخرة في أعلى الجبل وسلط عليه نسراً ينهش كبده ليل نهار إلى ما لا نهاية. لقد كان مقيداً أما روحه فكانت طليقة ولا شيء يرغمه على الخضوع لقوة ظالمة غاشمة.
لقد حل الوقت الآن لكي يختار يهوه ملكاً جديداً على شعبه بدلاً عن شاؤول الذي حلت به نقمة سريعة من الرب، الذي أرسل عليه روحاً رديئاً فكانت تنتابه نوبات اكتئاب تتحول أحياناً إلى جنون مؤقت يدفعه إلى محاولة قتل من يجده أمامه (26: 11 و18: 20). فبعد أن أمضى صموئيل أياماً طويلة ينوح على شاؤول قال له الرب: “حتى متى تنوح على شاؤول وأنا قد رفضته. املأ قرنك زيتاً وتعال أرسلك إلى يَسِّي في بيت لحم لأني رأيت في بنيه لي ملكاً. فقال صموئيل: كيف أذهب؟ إن سمع شاؤول يقتلني. فقال الرب: خذ بيدك عجلة من البقر وقل قد جئت لأذبح للرب، وادعُ يسّي إلى الذبيحة وأنا أُعلمك ماذا تصنع، وامسح الذي أقول لك عنه”- صموئيل الثاني 16: 3-1.
ففعل صموئيل كما تكلم الرب وجاء إلى بيت لحم، فارتعد شيوخ المدينة عند استقباله (لأن ظهور نبي يهوه في أحد الأمكنة قد يكون مقدمة لشر يحل بهم). وقالوا: أَسلام مجيئك؟ فقال: سلام. قد جئت لأذبح للرب، فقدسوا أنفسكم وتعالوا معي إلى الذبيحة، ثم قدس يسي وبنيه ودعاهم إلى الذبيحة، وعَبَر يسي أبناءه السبعة أمام صموئيل ولكن الرب لم يختر أياً منهم، فقال له صموئيل: أهؤلاء كل الغلمان؟ فقال: بقي الصغير وهوذا يرعى الغنم. فقال صموئيل: أرسل وائت به. فأرسل وأتى به، وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر. فقال الرب لصموئيل: قم امسحه لأنه هذا هو. فأخذ صموئيل قرن الزيت ومسحه في وسط إخوته. وحل روح الرب على داود منذ ذلك اليوم (صموئيل الأول 16: 13-4).
تترافق قصة صعود داود فيما تبقى من سردية سفر صموئيل الأول مع قصة سقوط شاؤول، وتتشابك القصتان في حبكة درامية مؤثرة. لقد كان على شاؤول إلى جانب صراعه مع أعداء شعبه أن يتصارع مع العطب الداخلي الذي أصابه به الرب والذي جعله أحياناً يتصرف كمجنون، وأن يتصارع مع داود الذي مسحه الرب ملكاً على الرغم من محبته له والإحساس بالأبوة تجاهه، حتى أنه حاول مراراً قتله. وعندما دافع ابنه يوناثان عن داود أمامه بسبب الصداقة العميقة التي نشأت بين الطرفين، قال له بصريح العبارة: “مادام ابن يسي حياً على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك” صموئيل الأول 20: 31. أي أنه كان يأمل في استمرار ملكه وتوريثه ليوناثان من بعده، واحباط خطة يهوه في إحلال داود محله. وخلال هذه الأحداث مات صموئيل.
وقد التقى شاؤول بداود بعد أن مسحه صموئيل ملكاً عقب نوبة اكتئاب شديدة ألمت به، فنصحه عبيده أن يفتشوا له عن رجل يحسن الضرب بالعود ويكون إذا حل عليه الروح الرديء من قِبل الرب أنه يعزف له فتطيب نفسه. فقال واحد من الغلمان: لقد رأيت ابناً ليسي البيتلحمي يحسن الضرب وهو فصيح وجميل والرب معه. فأرسل شاؤول رسلاً إلى يسّي يقول له: أرسل إلي ابنك داود الذي مع الغنم. فجاء داود إلى شاؤول ووقف أمامه فأحبه جداً وجعله حامل سلاح له، وكان إذا جاءه الروح الرديء أن داود كان يعزف له فتطيب نفسه (صموئيل الأول 16: 23-14).
كان من الممكن لداود أن يبقى شخصية منسية في حاشية شاؤول لولا حادثة غيرت مجرى حياته. فقد جمع الفليستيون جيوشهم واصطفّوا للحرب ووقف قبالتهم جيش شاؤول، فخرج رجل مبارز من الفيليستيين اسمه جوليات طوله ستة أذرع مغطى بالدروع ومدججاً بالسلاح، فوقف وعرض الدخول في مبارزة فردية مع واحد من جيش شاؤول تقرر مصير المعركة، ولكن أحداً لم يجرؤ على منازلته، فبقي يتقدم ويقف صباحاً ومساءً ويقول الشيء نفسه. وأخيراً تقدم داود وقال لشاؤول: عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسيتي. فقال له شاؤول: لا تقدر على محاربته لأنك غلام وهو رجل حرب منذ صباه. ولكن داود أصر وتباهى أمام شاؤول بأنه قتل من قبل أسداً ودباً بعصى الراعي. فنزل شاؤول عند رغبته وألبسه دروعه وقلده سيفه، فعزم داود أن يمشي ولكنه تعثر لأنه لم يكن قد تعود لبس عدة الحرب، فنزعها عنه وأخذ عصاه والتقط خمسة حجارة جعلها في جراب الرعاة وحمل مقلاعه بيده وتقدم نحو جوليات، فلما رآه استحقره لأنه كان غلاماً وأشقر جميل المنظر وقال له: ألعلي كلب حتى تأتي إليَّ بعصى؟ ولعن داود بآلهته ثم تقدم للقائه، وأسرع داود نحوه ثم مد يده إلى الجراب وأخرج منه حجراً ورماه بالقلاع وضرب جوليات في جبهته فسقط على الأرض، فركض داود واستل سيف جوليات وقطع به رأسه. عند ذلك هتف عسكر شاؤول ولحقوا بالفلسيتين الهاربين ونهبوا محلتهم، وجاء داود إلى شاؤول ورأس جوليات بيده. وتعلقت نفس يوناثان ابن شاؤول بداود فخلع العباءة التي عليه وأعطاها له مع سيفه وقوسه ومنطقته، ونشأت بين الطرفين صداقة قوية منذ ذلك اليوم. ثم إن شاؤول ضمه إلى جيشه وجعله رئيس ألفِ، فكان مفلحاً في جميع طرقه يدخل ويخرج والرب معه، وراحت النساء تهتف له وتحييه بالأغاني، ثم إن شاؤول زوجه ابنته ميكال.
ولكن شاؤول بدأ يخشى من داود لأنه عرف بطريق الحدس أن الرب الذي تحول عنه صار إلى جانب داود. وعندما تكررت انتصاراته الحربية وذاع صيته تأكد لشاؤول صدق حدسه وراح يفكر بالتخلص منه. وفي أحد الأيام اقتحم عليه الروح الرديء وجُن في وسط البيت وكان داود حاضراً، فشرّع شاؤول رمحه وضربه به ولكن داود تحول من أمامه وهرب. ثم إن شاؤول راح يخطط لقتل داود فعلم يوناثان بذلك وحذر داود فهرب وراح يتنقل متخفياً من مكان إلى آخر وشاؤول يلاحقه، وفي كل مرة يأتيه خبر عن تواجده في أحد الأمكنة كان يرسل إليه فرقة من العسكر لقتله أو يخرج بنفسه لهذه الغاية. وفي هذه الأثناء تجمع حول داود عدد من الشباب البطالين المغامرين بلغ عددهم أربعمائة فكان عليهم رئيساً، وتحول إلى زعيم مرتزقة تؤجر خدماتها لمن يطلب لاسيما الفلستيين.
ثم إن شاؤول علم أن أخيطوب رئيس كهنة يهوه في مدينة الكهنة نوب ومن معه من الكهنة يقدمون المعونة لداود من زاد وسلاح، فاستدعاهم إليه وقال لرئيس الكهنة: لماذا يا أخيطوب فتنتم علي أنت وابن يسي بإعطائك إياه خبزاً وسيفاً وسألت من الله أن ينصره علي؟ فأجابه أخيطوب: إن عبدك لا يعلم شيئاً من هذا صغيراً أم كبيراً. فقال شاؤول للسعاة الواقفين لديه: دوروا واقتلوا كهنة الرب لأن يدهم أيضاً مع داود. فلم يرض عبيد الملك أن يمدوا أيديهم لقتل كهنة الرب. فقال شاؤول لدواغ الآدومي رئيس رعاته الذي نقل إليه خبر الكهنة: دُر أنت واقتل الكهنة. فدار عليهم دواغ وقتل في ذلك اليوم خمسة وثمانين كاهناً. ثم أرسل شاؤول فرقة من الجند دمرت مدينة الكهنة (صموئيل الأول: 22).
عند هذه المرحلة بلغ صراع شاؤول مع قدره أوجه، وليس بعد قتله كهنة يهوه سوى مواجهة المصير المحتوم. ولكن قبل أن نأتي إلى ذلك لا بد من إيراد هذه القصة من قصص ملاحقة شاؤول لداود، لأنها تكشف عن العواطف المتناقضة لدى شاؤول تجاه داود، فلقد أحبه وفي الوقت نفسه كان مضطراً لقتله.
ففي إحدى المرات قيل لشاؤول إن داود مختبئ في برية عين جدي، فخرج عليه بثلة من الجنود، فلما وصل إلى المكان شعر بالتعب فرأى مغارة ودخل ليستريح فيها ولكنه نام. وكانت المغارة عميقة وواسعة وداود وبعض رجاله مختبئون فيها، فقال له رجاله إن الرب قد دفع إليه عدوه اليوم، وحرضوه على قتل شاؤول وهو نائم. فقام داود وقطع قطعة من ثوب شاؤول وقال لرجاله: حاشا لي أن أفعل هذا الأمر بمسيح الرب. ثم أفاق شاؤول وخرج من المغارة، فخرج داود وراءه وناداه: يا سيدي الملك. ولما التفت شاؤول إلى ورائه سجد داود إلى الأرض وقال: لقد دفعك الرب ليدي في هذا اليوم وقيل لي أن أقتلك، ولكنني أشفقت عليك وقلت لا أمد يدي إلى سيدي لأنه مسيح الرب. انظر طرف ثوبك في يدي لتعلم أنني لم أخطئ إليك ولا أحمل لك شراً وأنت تطلب قتلي. يحكم الرب بيني وبينك. فقال شاؤول: أهذا صوتك يا ابني داود؟ ثم رفع صوته بالبكاء وقال لداود: أنت أبر مني لأنك جازيتني خيراً وأنا جازيتك شراً (صموئيل الأول: 24).
هذا الحوار المؤثر يرسم لنا صورة عن العلاقة الإشكالية بين الطرفين، فداود يخاطبه بيا أبي ومسيح الرب، وشاؤول يناديه بيا ابني، وكلاهما يعلن عن رغبته الصادقة في عدم إيذاء الآخر، ولكن الطرفين مسوقان بقدرهما من قبل الرب القابع في خلفية الأحداث، والتعبير عن العواطف الكامنة في الصدور لن يغير مسار العلاقة بين الطرفين، ولذلك فقد تقسى قلب شاؤول بعد عودته إلى بيته وعاد سيرته الأولى في ملاحقة داود.
قبل أن يتوجه شاؤول إلى معركته الأخيرة مع الفلسيتيين ارتكب خاتمة خطاياه وهي استشارة أصحاب الجن والتوابع بدل استشارة الرب. فقد قصد امرأة صاحبة جان ليعرف حظوظه في الحرب المقبلة وطلب منها استخارة روح النبي صموئيل، فقال له صموئيل: لقد شق الرب المملكة من يدك وأعطاها لقريبك داود. غداً أنت وبنوك تكونون معي هنا، ويدفع الرب جيش إسرائيل ليد الفلسيتيين (صموئيل الأول: 28).
مزوداً بهذه النبوءة المرعبة توجه شاؤول إلى المعركة عند جبل جلبوع ودارت رحى الحرب، فهرب رجال إسرائيل من أمام الفليستيين وسقط منهم الكثيرون قتلى في جبل جلبوع، فشدَّ الفليستيون وراء شاؤول وبنيه فقتلوا أبناءه الثلاثة: يوناثان وأبيناداب وملكيشوع. واشتدت الحرب على شاؤول فأصابه الرماة وانجرح جداً، فقال لحامل سلاحه: استل سيفك وأطعني به لئلا يأتي هؤلاء الغُلف فيطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه أن يطعنه، فأخذ شاؤول سيفه وسقط عليه، ولما رأى حامل سلاحه أنه مات سقط هو على سلاحه أيضاً ومات معه. وفي الغد لما جاء الفلستيون لتعرية القتلى وجدوا شاؤول وبنيه الثلاثة ساقطين في جبل جبلوع، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وسمروه على سور بيت شان، وأرسلوا إلى أرض الفلستيين في كل جهة لأجل التبشير في بيت أصنامهم (صموئيل الأول: 31).
ولما سمع داود بما حدث رثى شاؤول وصديقه يوناثان بالقصيدة التالية:
الظبي مقتول على شوامخك يا إسرائيل
كيف سقط الجبابرة
لا تخبروا في جَت ولا تبشروا في أسواق أشقلون
لئلا تفرح بنات الفلستيين
لئلا تشمت بنات الغُلف
يا جبال جلبوع لا يكن عليكن طل ولا مطر
لأنه هناك طُرح مِجَنُّ شاؤول مجن الجبابرة
مِن دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان
وسيف شاؤول لم يرجع خائباً
شاؤول ويوناثان المحبوبان في حياتهما لم يفترقا في موتهما
أخف من النسور وأشد من الأسود
يا بنات إسرائيل ابكين شاؤول
الذي ألبسكن القرمز ترفاً
ورصع ثيابكن بحلي الذهب
كيف سقط الجبابرة، ويوناثان على شوامخكِ مقتول
قد تضايقتُ عليك يا أخي يوناثان
حبك عندي كان أولى من حب النساء
كيف سقط الجبابرة وبادت آلات الحرب
* * *