محمد برو – الناس نيوز ::
شجرة الليمون
“عندما لا يموت الحب”
شجرة الليمون!
شوقٌ فولهٌ فلقاءٌ فعشقٌ … في ظلال زهر الليمون
تمطرك بعطرها وفوح زهرها من العنوان، وبشكل بسيط ومفرط في الدهشة يصدمك الروائي حين يعلن عن روايته، أنها الأولى والأخيرة، هي حكاية دافئة مليئة بالحب والبساطة، وبالنكهات الشامية والعبارات التي تكاد تندثر تحت غبار الحداثة المثار، حكاية من مئات وربما آلاف الحكايات التي حدثت مراراً داخل السور، ذلك السور الذي يميز الدمشقي العتيق عن الدمشقيين الجدد، وهو مناط للتباهي والتأكيد على الأصالة، فما بالك إن كان مسرح الحكاية هو حي القيمرية “الإيمرية كما يلفظه أهل الشام”.
من منا لم يزر حي القيمرية ويمتع نفسه بكوب من الشاي وربما نرجيلة باذخة في مقهى النوفرة، ويسمع منشدي الجامع الأموي وهم يترنمون بألحانهم وغنائهم الصوفي الرقيق، هذا الحي الذي يمتد حتى باب توما وباب شرقي ويتصل بشارع مدحت باشا والكنيسة المريمية، ويتكئ في شطره الغربي على الجامع الأموي، هناك يقص عليك “الحكواتيون” والمخاتير الكهول، حكايات طالما ترددت أصداؤها بين تلك الزواريب والجدران وتناقلتها نسوة الحي من دار إلى دار.
هي واحدة من الروايات القصيرة الكثيفة، التي تدور على محور حدثها المفرد البسيط/ زعبر ثلاث شخصيات محورية، قصة حب اشتعلت بحياء شديد، وإزاء ممانعة الأهل طوى هذا الحب جناحيه على أسى الحرمان خمساً وثلاثين سنة، لكن ما إن دارت عجلة الأيام وتبدلت الموازين، حتى استفاق ذلك البرعم الغافي عند أول سانحة، ذلك الحب الذي لم تزده السنوات المتعاقبة إلا تجذراً واصراراً.
وأنت تتابع سير الأحداث، ستمتعك كثافة العبارات الشامية العتيقة، التي لا تنفك تشد قارئها الشامي إلى أزمنة بعيدة وحبيبة، ما تزال تحتفظ بعبق زهر الليمون وحفيف أوراقه، تلك العبارات التي طالما سمعها وكانت موسيقى الأحاديث في صحن الدار تتراشقه الأمهات والأخوات وحتى الرجال.
عبر تلك الصفحات لا يفتر الكاتب حسان حموي عن شرح تلك المفردات، التي قد تبدو واضحة لمن ألف اللهجة الشامية من سوريين وغيرهم، لكنها بكل تأكيد ستكون جديدة على حواضر عربية أخرى، فنحن أهل بلاد الشام إلى اليوم، وبالرغم من شيوع المعلومات وسهولة الوصول إليها، نعجز عن فهم أغنية مغربية أو تونسية أو صومالية، ويربكنا الإصغاء إلى موريتاني يحدث صديقه، ما لم يرافق ذلك شرح للمفردات.
تسري بك الرواية بلغة عربية متينة وسلسة، لكن أبطالها لا يتوقفون عن الكلام بلهجتهم الشامية العتيقة، ولا يتوقف كاتبنا عن شرحها، “بالمشرمحي” مأخوذة من ألم نشرح، أي تكلم بكلام واضح مبين، “طربئت السما عالأرض” أي أطبقت السماء على الأرض، “سياح نياح” أي بيت واسع، “المالكانات” أي الأملاك من بيوت ومزارع وأراضي، وهكذا تجد في هامش معظم الصفحات، شرحاً للمفردات الشامية الأصيلة التي تتناثر على ألسنة أبطال الرواية.
هذه القصة الحقيقية تختزل زمناً أو لنقل حياةً برمتها، بقيت تنوس كما يتهادى نواس الساعة بين الحب وعطر زهرة الليمون، الذي لا يضاهيه عطرٌ في رقته وشفافية نسمته، وعلى إيقاع جلال الدين الرومي وروحه حين قال:
“لا تكن بلا حب، لكيلا تشعر بأنك ميت، مت في الحب وابق حياً للأبد”.
ما إن تذكر بيوت الشام العتيقة، حتى تنبعث من تلك الذكريات روائح الياسمين وزهر الليمون، وشجرة النارنج ورائحة الماء الذي يغسل حجارة صحن الدار، ليس هذا وحسب، بل إنك لتشعر أن تلك الشجيرات العطرية قد بلغت حدها الأعلى من الأنسنة، فغدت واحدة من بنات هذه الدار، يحرصون على بذل ألطف درجات العناية والحب لها، ذلك الحب الذي تنفسه وهي تسقى من مائه، وهي بدورها تسقيهم من ظلها وعطرها وثمرها، وحين يحين موعد جني ثمارها، يحرصون كل الحرص أن يتركوا لها ثمرة أو ثمرتين كي لا تحزن.
وهكذا تجدنا نمضي، عبر هذه الحكايات الأثيرة إلى القلوب، والمعجونة بدماء وأرواح أبطالها الحقيقيين، لنعود عبر زهر الليمون، إلى ذلك الحب البريء الذي لون حياة أبطالها، وما أحوجنا اليوم إليه كيما يعود للحياة ألقها ونبهاؤها، وعطرها الذي فقدناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شجرة الليمون – رواية حسان الحموي
تم تسهيل النشر عبر “باشن برينيور” للنشر – ملبورن – أستراليا 2022