كان المرحوم خالد بك العظم من أشهر الشخصيات السياسية العربية والسورية في النصف الأول من القرن العشرين، وفي سجلّه إنجازات كبيرة يصعب حتى على أعدائه طمسها وتجاهلها أو نكرانها. يعود له الفضل في نهضة دمشق الصناعية في الثلاثينيات، ورسم السياسات الاقتصادية السورية في الأربعينيات والخمسينيات، وهو رئيس خمس حكومات في تاريخ سورية الحديث، وأحد أركان الحياة الديمقراطية النيابية في مرحلة ما قبل الوحدة السورية المصرية. وقد أُقصي عن الحكم مرتين، كانت الأولى إثر انقلاب حسني الزعيم سنة 1949، حيث تم إرساله إلى سجن المزة مخفوراً مهاناً، والثانية عند الإطاحة به من قبل الضباط البعثيين يوم 8 مارس/آذار 1963، ما أدى إلى هربه إلى السفارة التركية، حيث حصل على لجوء سياسي قبل أن يُغادر إلى لبنان، ولم يُسمح له بالعودة إلى سورية من بعدها، وقد توفي في بيروت عن عمر صغير نسبياً، لا يتجاوز 62 سنة، وكان ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 1965.
ومن المحطات الشهيرة في مسيرة خالد العظم ترشحه لانتخابات رئاسة الجمهورية في سورية سنة 1955، ضد الرئيس شكري القوتلي. المعروف طبعاً هو أن خالد العظم خسر تلك الانتخابات، وذهبت الرئاسة الأولى إلى منافسه القوتلي. وعند فرز الأصوات داخل مجلس النواب، تم إبطال بعض الأوراق لأنها حملت اسم “مجنون ليلى” بدلاً من “خالد العظم.” فمن هي “ليلى” التي أبطلت أصوات خالد العظم وما سبب إطلاق هذه التسمية عليه؟
شقيقة شرطي كادت أن تصبح سيدة سورية الأولى
وقع خالد العظم في حب ليلى الرفاعي وهو في الواحد والثلاثين من عمره، وكانت تصغره بعشر سنوات، أي أنها من مواليد مدينة اللاذقية سنة 1913. تعرف عليها بالصدفة، حيث كان شقيقها فهمي الرفاعي يعمل شرطياً في حراسة الرئيس العظم. كان الرئيس العظم أرملاً يومها بعد وفاة زوجته الأولى
بمرض الحمى سنة 1920، وهي سليلة حسب ونسب وبنت القاضي راشد مردم بك، أحد أعضاء مجلس الشورى. عاش أعزباً وحيداً لسنوات، إلى أن تعرف على ليلى وتزوجها سنة 1934، ليأخذها معه إلى إسطنبول لقضاء شهر العسل.
كانت ليلى مثالاً صارخاً للاستهتار وسلاطة اللسان، وانعدام الحس الوجداني بأهمية الالتزام بالحياة الزوجية، المبنية على المحبة والثقة المتبادلة والتعاطف الرحماني… والمودة. بهرها الجو الأرستقراطي الذي أدخلها إليه خالد لعظم، خاصة وأنها تنحدر من أسرة مغمورة مستورة الحال، فراحت تلهو بلعب الورق، نظراً لانشغال زوجها عنها بأعباء السياسة والمناصب الرفيعة التي تقلدها في حياته، منذ أن أصبح رئيساً للحكومة للمرة الأولى سنة 1941. ولكن هذه التسلية تحولت عندها إلى إدمان واحتراف لعب القمار، إمّا في دارها أو في نادي الشرق، أحد أشهر نوادي دمشق في حينها. وكان في ترددها على نادي الشرق بشكل يومي مادة دسمة للنيل من سمعة خالد العظم داخل المجتمع الدمشقي المحافظ، حيث تناولها الناس همساً في مجالسهم، ولكن قصصها لم تخرج إلى الصحافة يوماً، احتراماً لمقام زوجها الرفيع.
وعندما قرر العظم الترشح للرئاسة الأولى سنة 1955، جاءه صديق طفولته فؤاد محاسن، محافظ دمشق الأسبق، وقال له: “الكل مجمع على أن رئاسة البلاد تختلف عن رئاسة الوزراء، لها حرمة وتقاليد لا يجوز تجاوزها أو خدشها”. وقد أشار طبعاً إلى تصرفات ليلى وسهرها اليومي على طاولات القمار، قائلاً إنها لا تصلح أن تكون سيدة أولى. وقد ضرب مثالاً في سلوك بهيرة الدالاتي، زوجة شكري القوتلي، المشهورة بأناقتها ودماثتها وخلقها الرفيع، عندما كانت سيدة أولى خلال رئاسة زوجها الأولى (1943-1949). نصحه الصديق أن يتخلص منها وواقفه العظم القول، ولو على مضض. اتفقا على إحضار القاضي الشرعي لأجل الطلاق، وعندما وصل إلى دار الرئيس، قال له خالد العظم: “ضيفه فنجان قهوة”. عاد إليه فؤاد محاسن وقال: “شربها” فقال له ثانية: “قدم له فنجان آخر”. فعاد إليه ثانية وقال: “شربها ووراءه أعمال مستعجلة”. غضب العظم من هذا القول رد بانزعاج: “لماذا هذه العجلة؟”.
وقد تغلّب حب خالد العظم لزوجته على طموحه السياسي، فرفض الطلاق وكانت النتيجة خسارته في الانتخابات الرئاسية.
ليلى ورئاسة زوجها الخامسة والأخيرة
وقد دارت الأيام، وعاد العظم إلى رئاسة الحكومة نهاية عام 1962، وكان ذلك في الأشهر الأخيرة من مرحلة الانفصال بعد انهيار جمهورية الوحدة مع مصر. كانت مرحلة الوحدة قد أضرت بالعظم كثيراً، بعد مصادرة الكثير من أراضيه الزراعية وتأميم مصالحه الصناعية والاقتصادية بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر. مع ذلك لم تغير ليلى شيئاً من سلوكها، ولم تتعلم من خسارة زوجها قبل سنوات، التي أجمع الناس أنها تتحمل الكثير من وزرها. في مذكراته، يقول العقيد مطيع السمّان، قائد قوى الأمن الداخلي في مرحلة الانفصال، إن حلّاقاً نسائياً يُدعى جورج قد تم اعتقاله يومها على الحدود السورية اللبنانية، وفي جيبه أوراق كتبت بخط اليد، فيها إساءة كبيرة لخالد العظم. وخلال التحقيق معه، تبين أن هذه الأوراق قد أعطيت له من قبل ليلى الرفاعي، وقد كتبها بيده شقيقها فهمي بهدف إرسالها إلى الصحف اللبنانية للنيل من سمعته. والسبب كان انتقاماً من زوجها لأنه رفض تعيين أحد أقاربهم في وزارة الخارجية. وعندما علم العظم بالقضية طلب من مدير الأمن “لفلفة” القصة وعدم إحالة الحلّاق إلى القضاء، خوفاً من ردة فعل زوجته. ويُضيف العقيد السمّان في مذكراته أن العظم أمر ذات يوم بإغلاق الحدود السورية اللبنانية، ورفض إعطاء استثناء إلى زوجته لعبورها مع رفيقاتها. فاتصلت بوزير الداخلية اللواء عزيز عبد الكريم، وطلبت منه تسهيل السفر متجاهلة أوامر زوجها. عندما رفض تجاوز أوامر رئيس الحكومة، قامت ليلى بشتمه وتهديده، وقد استوعبها بصدر رحب وكلمات لطيفة، ولكنه أصر على رفضه الاستجابة لطلبها.
حتى أن ليلى، وبواسطة شقيقها فهمي، قامت باستغلال اسم زوجها لتمرير صفقات مالية مشبوهة، ومن قصصها المعروفة تبنيها للمطرب سري طمبورجي، الذي أحبته وساعدته فنيّاً وماديّاً، من دون علم خالد العظم. فقد فتحت له متجراً لبيع الأحذية في طريق الصالحية، بالقرب من المجلس النيابي، ثم قررت توسيع أعماله فأرسلته إلى بيروت للدخول في صفقات تجارية، عادت عليه وعليها بالإفلاس والخراب.
وفي رئاسة العظم الخامسة والأخيرة، ساءت صحته وزاد وزنه، فلم يتمكن من صعود درج السراي الكبير في ساحة المرجة، وطلب أن يقام له مكتب خاص في المجلس النيابي (وهو موجود حتى اليوم ومخصص لرئيس مجلس الوزراء). بدلاً من السهر على راحته، أبقت ليلى على برنامج سهرها اليومي، ما اضطر العظم أن يغادر داره في شارع أبي رمانة (الذي أصبح بعد المصادرة مكتباً لعبد الحليم خدام ومن ثم لفاروق الشرع)، وأن يقضي أشهر الشتاء في منزله الصيفي بدمّر (غير المجهز بالتدفئة لمحاربة البرد والأمطار). وقد دخل عليه مطيع السمّان وقال: “يا دولة الرئيس..لماذا تسكن في دمّر الباردة ولا تذهب إلى دارك في أبي رمانة؟” أجابه العظم: “أرجوا أن تفهمها (أي ليلى) بأن البيت راحة من عناء العمل وليس للسهرات اليومية ولعب الورق مع الأصوات المزعجة إلى ما بعد منتصف الليل. والله لقد فكرت بالانتحار ليلة أمس للتخلص من هذه الحياة، ثم تراجعت لكي لا أزيد من الفضائح”.
غادر العقيد السمّان المكتب بعد أداء التحية واتصل بليلى الرفاعي فوراً وقال: “يا ليلى خانم…حرام عليك هذه المعاملة لزوجك، إنه رجل مريض ومسؤلياته عظيمة”. فكان جوابها: “بيتي وأنا حرة فيه”!
أقفل الستار على مصيبة خالد العظم بعد خروجه من سورية إثر انقلاب 8 مارس/آذار 1963، وغابت ليلى عن ذاكرة الناس وألسنتهم. بعد وفاته في بيروت عادت الزوجة إلى سورية لتبيع ما تبقى له من أملاك، ومعها أوسمته وأوسمة أبيه محمد فوزي باشا العظم، وزير الأوقاف في الدولة العثمانية. وفي مطلع السبعينيات، باعت حقوق مذكراته إلى دار المتحدة للنشر في بيروت، ولا نعرف كم دفع فيها، وقامت بتحريرها وملء بعض الفراغات التي لم يكملها خالد العظم في حياته، معتمدة على ذاكرتها غير السياسية أصلاً. ولذلك، نجد أن في فصول تلك المذكرات تفاوت كبير، ما بين كلام سياسي محنّك يتحدث في الشؤون الاقتصادية والدولية، وكلام سخيف لا يليق برجل دولة، كالقول مثلاً إن فارس الخوري كان يخرج الريش من وسادته ليملئها بالدولارات!
في ثمانينات القرن العشرين، صارت ليلى الرفاعي تعيش بالإحسان والصدقة، بعد أن قضى القمار على كل ما تملك. وقد قام برعايتها صاحب نادي الشرق توفيق الحبوباتي واستأجر لها مسكناً في حي القصّاع، كما أوصى عمال المطعم أن يطعموها متى ما شاءت، إكراماً لزوجها. وكنا نراها في دمشق يومها، امرأة عجوز عديمة الوقار، تدخل إلى نادي الشرق بمفردها يومياً لتناول وجبة العشاء، ثم تغادر بصمت على أصوات النادلين وهم يقولون لها: “شرفتِ ليلى خانم…. الله معك ليلى خانم”.
أمير سعادة