[jnews_post_author]
بدأت بعض الصحف في الولايات المتحدة ( نيويورك ديلي نيوز، ميامي هيرالد، بالتيمور صن ) فسخ عقود إيجار مقراتها بعد أن تحول معظم الكوادر للعمل من المنازل، بسبب جائحة كورونا التي ألقت بثقلها على الحياة العامة منذ شهر مارس/آذار الماضي، واستمرارها في إعاقة النشاط العالمي حتى يتم تلقيح الغالبية العظمى من سكان العالم. وليست بعض الصحف الأميركية وحدها هي التي تخلت عن مقراتها، وارتاحت إلى العمل المنزلي، بل إن الظاهرة انسحبت على صحافة العالم ككل. ولا يقتصر التحول على الصحافة الورقية والإلكترونية، وإنما لحقت التطورات بالقنوات التلفزية التي اضطرت خلال الموجة الأولى من فيروس كورونا إلى تخفيض أعداد العاملين في المقرات، وعادت إلى تشديد الإجراءات مع تفشي الموجة الثانية منذ أول الخريف.
وباعتبار أن الجائحة باقية حتى حين آخر، فإنه ينتظر أن تواجه الصحافة مصاعب إضافية، غير التي تعرضت لها حتى الآن. ولا تعد متاعب الفترة الماضية مسألة تفصيلية أو هامشية. وغير الضحايا في الأرواح التي أصابت الجسم الصحافي، فإن الضحية الكبرى للفيروس حتى الآن هو الصحافة الورقية التي توقفت عملياً منذ أبريل/نيسان الماضي في جميع أنحاء العالم، وعاد بعضها إلى الطباعة الورقية بشكل محدود في الصيف الماضي حين تراجع الفيروس. والمانع الفعلي في ذلك هو التوزيع قبل كل شيء، فتعطل وسائل النقل في الفترة الأولى من كورونا لعب الدور الأساسي في توقف صدور الصحافة الورقية، وهناك سبب إضافي ثانوي هو أن تصفح الصحيفة من قبل أكثر من شخص يمكن أن يلعب دورا في نشر الفيروس. وعلى العموم فإن خسائر الصحافة حتى الآن تعد مقبولة نسبيا إذا ما تمت مقارنتها بخسائر صناعة الطباعة، وهي صناعة عمرها مئات السنوات وكلفت أصحابها مليارات الدولارات ويعمل فيها جيوش من العمال، وفجأة توقفت، ما يعني أن كارثة كبيرة ضربت هذا القطاع الحيوي الذي تتفرع منه صناعات أخرى مثل صناعتي الإعلان والتوزيع والنقل. ومن غير الواضح حتى الآن أن العودة إلى الطباعة الورقية ستكون ممكنة لبعض الصحف التي تحولت إلى النشر الإلكتروني. من المؤكد أن هناك بعض الصحف سوف تعاود إصدار طبعات ورقية بعد انحسار كورونا، ولكن هناك أخرى سوف تواصل المسار الذي سارت عليه منذ بداية فيروس كورونا وتعتمد على النشر الإلكتروني الذي كان قد بدأ يطغى في عالم الصحافة قبل كورونا. ومن هنا فإن التخلي عن مقرات العمل ربما سيكون الخطوة الثانية بعد التخلي عن الطباعة، وسيتم تحت بند خفض النفقات، وبالتالي سوف يصبح العمل المنزلي هو القاعدة الفعلية، طالما أنه يحقق غرض ظهور الصحيفة إلكترونيا. وهذا أمر يرضي بعض أصحاب الصحف ومموليها، ولكنه يضرب أحد أركان هذه المهنة التي لا تعيش بالتوجيهات الهاتفية أو الاجتماعات من خلال السكايب وغيره من أنظمة التواصل.
وبالنسبة لمن عمل في الصحف في فترة ما قبل طغيان النشر الإلكتروني، فإن صناعة الصحيفة عمل له أصول وجماليات تشكل جزءا أساسيا من المهنة، ولا أتحدث هنا عن متعة في ممارسة المهنة التي تعد أحد أعمدة الصحافة، وإنما عن صناعة الصحيفة التي تبدأ بصناعة الخبر وصناعة المانشيت ومتابعة الأحداث مع الفريق، وهناك طقوس عضوية تشبه التفاعلات الكيميائية لا يمكن تصور الصحافة من دونها، وكلها تعتمد على وجود الفريق في صالة التحرير، وتبدأ العملية مع ساعات الصباح ولا تنتهي عند إغلاق الصحيفة ليلا، وإنما تمتد حتى رؤية الصحيفة مطبوعة وتصفحها والتملي في عملية الإخراج وتوزيع المواد، فالصحافة ليست مضمونا وإنما هي شكل أيضا. ومع ذلك يأمل الصحافيون أن تقف الخطوة عند التخلي عن المباني لا عن الصحافيين.
———————————————————
بشير البكر