ممدوح حمادة
لم يكن النقيب حسين يتابع إعطاء إيعازاته للفراغ بعد أن تعبر الفصيلة السادسة في ساحة العرض والاستعراض كما كان يعتقد الجميع، فبعد الفصيلة السادسة كانت تعبر الفصيلة السابعة والفصيلة الثامنة وربما التاسعة، وهي الفصائل التي صنعها وشكلها النقيب حسين بنفسه ولا أحد يراها غيره. لا لا ليس هذا ضربا” من الجنون أو مشكلة نفسية يعاني منها النقيب حسين، فهو بالفعل يصنع في كل مناوبة عسكريين إلى ثلاثة على الأقل، ومن باب ضبط الحساب سنعتبر أنه يصنع في كل مناوبة له عسكريين اثنين، وإذا كان يناوب ثماني مرات في الشهر فهذا يعني أنه يصنع في الشهر ستة عشر عسكرياً وإذا ضربنا الرقم باثني عشر يصبح لدينا مئة واثنان وتسعون عسكرياً يصنعهم النقيب حسين في العام، وإذا قسمنا الرقم على ثلاثين، يتشكل لدينا ست فصائل مشاة ونصف فصيلة، وإذا ضربنا الرقم بأربعة يصبح لدينا خمس وعشرون جماعة مشاة أي خمسة وعشرون رامي رشاش وخمسة وعشرون قاذف آربي جي، هذا العدد يكفي لفتح جبهة أو للذود عن جبهة، والحديث هنا عن سنة واحدة فقط. وإذا اعتبرنا أن النقيب حسن يمارس هذه الصناعة منذ خمسة أعوام تقريبا، أي منذ اللحظة التي تم فرزه فيها إلى هذه القطعة، فهذا يعني أنه خلال فترة خدمته صنع ما يقارب الألف عسكري، أي مئة وعشرين جماعة مشاة، وبدون الدخول في الحسابات والتفاصيل الأخرى التي يخوض فيها النقيب حسين، فإن هذا العدد يغطي قطاعاً كاملاً في الجبهة. ولو كان هناك عدل في هذه الحياة العسكرية، لقام وزير الدفاع شخصياً بتعليق أرفع وسام عسكري على صدره بدلاً من ميدالية الثامن من آذار التي يغدقون عليهم بها في كل عام مع بقية الميداليات التي لعدم اكتراثه بها لا يعلقها ولا يذكر حتى أسماءها.
لم تكن صناعة العسكر التي يقوم بها النقيب حسين تكلف الدولة شيئاً على الإطلاق ولا حتى قرشاً واحداً فهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتقاضون الرواتب، كما أنها لم تكن تهدر دقيقة واحدة من وقت أحد، فالنقيب حسين كان يصنع العساكر وهو مناوب أصلاً بدلاً من الذهاب إلى نادي الضباط ليشرب الشاي ويثرثر مع الضباط الصغار العازبين الذين ينامون في القطعة. كان يخرج في دوريات نظامية ودوريات مباغتة على الحرس، وعند كل نقطة كان يتأمل عنصر الحرس باحثاً فيه عن مخالفة لأنظمة الخدمة كما يبحث جهاز الأيكو عن الحصى في كليتي وحالبي المريض. وأنظمة الخدمة تقضي بأن يكون الحارس مجهزاً بلباس الميدان الكامل أي أنه يجب أن يكون مزوداً بالكمامة ومزودة الطعام الفارغة وجعبة المخازن والمطرة والمعول الفردي والخوذة وبطبيعة الحال بندقية الكلاشنكوف التي يجب أن تكون على كتفه. عادة لا يلتزم الجنود سوى بالبندقية والخوذة أما بقية الأشياء فلا يتقيّد بها أحد إلا أثناء مناوبات النقيب حسين، لعلمهم بأن أي نقص في هذه التفاصيل سيتسبب للمخالف بعقوبة تبلغ ستة عشر يوماً، وهذه عقوبة تضاف إلى خدمة العسكري. وبسبب التزام الجنود بهذه البنود أثناء مناوباته، كان النقيب حسين يبحث عن مخالفات أخرى تتعلق بالهندام، فإذا كان الحذاء غير ملمع، أو القميص غير مزرر، أو كانت ذقن الحارس غير حليقة بالشكل المطلوب، كان هذا كافياً لكي يضاف إلى خدمته ستة عشر يوماً، وبسبب هذا فقد أخذ الجنود يحسبون الحساب حين يكون النقيب حسين مناوباً، فيرتدون لباس الميدان الكامل ويلمعون ويزررون ويحلقون، ويبقون على أهبة الاستعداد أربعا” وعشرين ساعة حتى يسلّم النقيب حسين مهامه. ولهذا السبب فقد أخذ النقيب حسين يجد صعوبة في العثور على سبب للعقوبة، مما جعله يختلقها، ففي إحدى المرات اقترب من الجندي لمسافة ملاصقة وداس على رجله فترك حذاؤه أثراً فوق حذاء الجندي الملمع، وبعد ثوان تصنع النقيب حسين أنه انتبه إلى أن حذاء الجندي غير ملمع ولكنه وهو يحرر العقوبة شعر بحرج كبير. ومرة شاهد فتحة البنطال لدى الحارس فاغرة فاها فأدرك أن الحارس حين حضوره كان يقضي حاجته ولم يلحق أن يزرر البنطال، وألقى عليه محاضرة في موضوع أهبة الاستعداد وكيف أن على الحارس قبل استلام نوبة الحراسة أن يقضي حاجته الكبيرة والصغيرة، ولا يترك المجال لأي واحدة منهما أن تداهمه أثناء نوبة الحراسة، لأن العدو إذا قرر الهجوم على المعسكر لن ينتظرك حتى تقضي حاجتك، وأكد النقيب حسين للحارس: (أن قضاء الحاجة أثناء نوبة الحراسة هي بمثابة الخيانة العظمى، فإذا حصل اختراق لا سمح الله من هذه النقطة ماذا ستقول مبرراً فعلتك في المحكمة الميدانية؟ هل ستقول لهم كنت أقضي حاجتي؟ هل تعرف ماذا سيفعلون بك إن قلت لهم ذلك؟) سأل النقيب حسين الحارس وانتظر الإجابة، ولكن الحارس لم يعرف بما يرد على سؤاله فأردف النقيب حسين: (سأقول لك ما الذي سيفعلونه بك… سيشدون وثاقك ويوقفونك قرب عمود الإعدام، ويصلونك برشقة من الرصاص يكون أزيزها آخر شيء تسمعه في حياتك، استرسل النقيب حسين في محاضرته لدرجة أن الحارس تمنى لو أنه بال في ثيابه ولم يُقدم على تلك الخطوة خلف تلك الشجرة، وكان النقيب حسين يشعر بثقل وطأته على الحارس، بل إنه في بعض اللحظات شعر بالشفقة عليه وتعاطف معه، ولكن المحاضرة لم يكن منها بد لكي يبرر عقوبة الستة عشر يوماً التي بدونها ربما ينقص ستة عشر يوماً من السنتين ونصف مجموع العقوبات التي يصنع بها النقيب حسين عسكرياً جديداً. نعم هكذا كان النقيب يصنع العساكر حيث يضيف إلى خدمة كل منهم ستة عشر يوماً، وإذا لزم أكثر من ذلك، وقبل أن تنتهي مناوبته بساعتين يجمع عدد أيام العقوبات التي فرضها على العساكر اليوم فإن بلغت ألفاً وثمانمئة وخمسة وعشرين يوماً، أي خمس سنوات، يتنفس مرتاحاً ويعزف في رأسه النشيد الوطني بإيقاعات المارشات العسكرية، لا بكمانات فرقة الإذاعة الباهتة، أما إذا لم يبلغ الرقم ذلك فإنه يقفز مسرعاً ويخرج هائماً على وجهه في المعسكر، ويكمل عدد أيام العقوبات حتى يصبح لديه عسكريان اثنان، وهنا لا يهمه ما هي المبررات لتلك العقوبات فهو يوقف أي جندي يصادفه ويسجل اسمه ويتابع دون أن يعرف العسكري لماذا فعل النقيب حسين ذلك، ثم يتوجه النقيب إلى غرفة الضابط المناوب، ويحرر العقوبات المطلوبة لسد الثغرة في العسكريين الجديدين، ويضع المبررات التي يريد دون أن يسأله أحد فيما بعد.
يمكن القول إن جميع من في المعسكر كانوا يكرهون النقيب حسين، الجنود للسبب الذي ذكرناه، وصف الضباط والضباط لأسباب أخرى تتعلق بحضور النقيب حسين الذي يبعث على الملل، واعتداده الزائد بنفسه، وتباهيه المبالغ به بنزاهته، مما قد يوحي بأن الجميع عداه فاسدين. الشخص الوحيد الذي كان يحبه هو كبير المتملقين المساعد عمران، رئيس الديوان الذي يضع جدول الخدمة، فبسبب الهواية الشاذة للنقيب حسين بصناعة العساكر، أصبح هناك طلب كبير عليه فقد أخذ العساكر يتوافدون عليه زرافات زرافات راجين ألا يضع أسماءهم في جدول الخدمة أثناء مناوبة النقيب حسين. ولأن الجميع يعرفون بأن الدخول إلى الديوان _ حيث مكتب المساعد عمران _ خالي اليدين بمثابة عدم الدخول فقد كان كل منهم يغدق بما تسنى له من الهدايا، فذلك يأتيه بتنكة دبس، والآخر بتنكة زيت، وغيره ببيدون نبيذ، وبعضهم يقدم له الهدية نقداً، ويقوم هو بناء على قيمة الهدية بوضع أسمائهم في جدول الخدمة في أيام أخرى غير أيام مناوبات النقيب حسين، وينفض يده ممن قدم هدية متواضعه، وكأنه لم يقدم شيئاً، وإذا احتجَّ أحدهم يقول له المساعد عمران: (يا أخي لا أستطيع أن أعفيكم جميعاً ومن غير المعقول أن أضع اسم الذي جاء بتنكة زيت في جدول الخدمة وأنت الذي جئت بسلة بيض أعفيك من ذلك). وكان كلامه مقنعاً ولذلك فقد تحولت جميع الهدايا إلى مبالغ نقدية، ولهذا فقد كان المساعد عمران عندما يصادف النقيب حسين يؤدي له تحية عسكرية بحماس يغيب عن تحيات المساعدين عادة الذين يكتفون برمي يدهم إلى جبهتم بسرعة وكأنهم يفعلون ذلك من باب رفع العتب، ثم ينحني ويصافح النقيب حسين بكلتا يديه، وكان النقيب يشعر بالسعادة لذلك، رغم أنه كان يتمنّى أن تكون المصافحة من قبل العميد أحمد ثناءً على مساهمته في صناعة العسكر، فقد كان يعمل بزخم شعبتي تجنيد إذا لم نقل أكثر. وتابع النقيب حسين العمل على خط الإنتاج هذا، وكان كلما اكتمل لديه عسكري يدخل إلى نادي الضباط لتناول وجبته، ويرفع يده وهو يتجاوز الباب ويعلن متفاخراً: (اليوم صنعت عسكريين) ولكن النقيب حسين (صانع العساكر) لم يكن يعرف أن كل عساكره الذين كان يصنعهم كان الرائد منعم (بياع الإجازات) يبددهم هباء منثوراً، حيث إن الرائد منعم اشتهر ببيع الإجازات، وإذا كان النقيب حسين يكتفي بعقوبات الستة عشر يوماً فإن الرائد منعم كان لا يتوانى عن منح العسكري إجازة تبلغ الشهر أحياناً، وإضافة إلى ذلك يقوم برفع أسمائهم في قائمة الحضور وهم غائبون. وبهذا الشكل فإذا كان النقيب حسين يصنع عسكرياً في اليوم فإن الرائد منعم يبدد عشرة عساكر في اليوم.
وبطبيعة الحال فإن النقيب حسين لم يكن وحده بين ضباط الجيش (صانع عساكر) وكذلك الرائد منعم لم يكن الوحيد (بياع إجازات)، فقد كان هناك عدد كبير من أمثالهما، عدد يكفي لصناعة عشرات الهزائم.