[jnews_post_author ]
من المعروف بحسب كل الكتب والمقدمات التي كتبت عن زولا وأدبه، أنه مات مختنقا بغاز المدفأة في بيته، هذا ما كان المترجمون العرب يقولونه، غير أن كاظم جهاد يؤكد، في المقدمة التي كتبها لترجمة رواية ” بطن باريس ” أن اختناقه بغاز المدفأة مشبوه، وأن الراجح هو أن يكون خصومه قد سدوا مدخنة المدفأة، بحيث تسرب الغاز إلى الداخل وقتل الكاتب.
من هم خصوم زولا؟. في رسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية، أدان الروائي الفرنسي إميل زولا المحكمة العسكرية الفرنسية بسبب حكمها الجائر الذي قضى بالأشغال الشاقة على الضابط دريفوس، ونفيه إلى جزيرة ” غوايانا “.
صحيح أن السياسيين ورجال القضاء الذين فضحتهم حملة البراءة التي قادها إميل زولا في أوساط المثقفين، وبين أبناء الشعب، قد رضخوا في النهاية ، وأرغموا على تبرئة الضابط المتهم، وإعادته إلى عمله، غير أنهم لم ينسوا.
هم لم ينسوا، كما أن التاريخ لم ينس.
هنا نحن أمام شكلين للنسيان أو عدم النسيان.
أما الأول، وهو عدم النسيان البدائي المتوحش، فهو أن السياسيين لم ينسوا ما اعتبروه تعديا وتطاولا على سلطتهم القضائية والسياسية، وقد تمكنوا من الانتقام، من الروائي. وإذا كان أمر الانتقام وآلية تنفيذه لا يزالان غامضين، فإن الزمن قد تكفل بفضح حقيقة أن الروائي لم يمت بسبب مصادفة عابرة نجمت عن تسرب الغاز في منزله، بل اغتيل اغتيالا، ويمكن للفرنسيين أن يتكهنوا من هو، أو من هم، أولئك المجرمون الذين دبروا له تلك المكيدة الغاشمة.
فإذا كان أولئك الخصوم لم ينسوا ما فعله الكاتب بهم، فإن هناك من لا ينسى أيضا. لقد قتل الكاتب، اغتيل دون أن يعرف قاتله، غير أن التاريخ التالي ( هذا هو الثاني ) للحادثة يمتلئ بأخبار إميل زولا، لا بأخبار أعدائه. فمقابل القاتل يقف الموقف المشرف والنزاهة الأخلاقية والتاريخ الذي لا ينسى أيضا، ويعيد تمجيد الموقف الشجاع للروائي الذي لم يستطع وجدانه أن يتحمل وجود بريء محكوم ومدان دون أن يتدخل ويعلن أن من حاكموه هم المدانون. ثمة إذن من يتمكن من الانتقام، دون أن يدرك أنه يضع عار انتقامه في سجلات التاريخ.
تبدو قصة النسيان في التاريخ تعويضا عن خسائر الحاضر أحيانا (أو في كل الأحيان) حيث يسود القهر والظلم والاستبداد كأنما لا نهاية له، أو كأنما لا أحد سيتذكره. و لكن كما تكفل التاريخ بحماية سيرة الكاتب من الاندثار، يعيد للناس، أو للشعوب بعض حقوقها المهدورة على أيدي الطغاة ، فإذا كان الظلم يمر دون حساب مادي مباشر على الأرض، فإنه لا يستطيع المرور من أي ثقب في التاريخ، ولهذا ترى أن لدى جميع الشعوب حكايات مسجلة عنه، إما في النص التاريخي المكتوب، أو في الحكايات والقصص والأغاني.
ثمة الكثير من الحزن والأسى في هذا كله، إذ يستطيع الظلم أن يحقق انتصاراته في الواقع، تنكسر إرادة الشعوب وتهزم، بينما ينتظر الحق أن ينتصر في الروايات والوثائق والسجلات والذاكرة التي لا تنسى في كتب صديقه التاريخ.