[jnews_post_author ]
التشبيه والتنزيه مصطلحان نعني بالأول منهما تشبيه الألوهة بالإنسان وتصورها على هيئة بشرية، وبالثاني تنزيهها عن الشبه البشري. ويقابل هذين المصطلحين في تاريخ الدين مصطلحان آخران هما الأيقونية واللاأيقونية، ونعني بالأول التوسل بصورة الألوهة من أجل التواصل معها لأنها تغدو مسكنًا لها، وبالثاني استبدال الصورة برمز طبيعي مثل النصب الحجري أو الشجرة، أو من عالم الحيوان كما هو الحال في العبادات الطوطمية، وهنا لا يكون الحيوان معبودًا لذاته وإنما لتعبيره عن القوة الإلهية السارية في عالم المظاهر المادية والحيوية. والمصطلحان مستمدان من الكلمة اليونانية icon / أيقونة، وهي الصورة التي تمثل إلهًا أو كائنًا قدسيًا مثل بوذا أو المسيح أو السيدة مريم.
وقد كان التناقض بين الأيقونية واللاأيقونية من السمات التي ميزت تاريخ الدين بشكل عام، وانتهى إلى ما ندعوه بالديانات الإبراهيمية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام. وأنا هنا استخدم هذه التسمية لشيوعها، لا لأنها الأنسب لوضع هذه الأديان في زمرة واحدة، على ما سأبين في مقالة لاحقة.
في اليهودية:
تطالعنا في كتاب التوراة نزعة لا أيقونية من نوع خاص لم تعهده عبادات الساميين الغربيين ندعوها باللاأيقونية التحريمية، وهي المدعمة بنص ديني واضح يمنع تصوير الألوهة بأي صورة كانت. ويتوسع هذا التحريم في التوراة ليشمل شارات الألوهة مادية كانت أم اصطلاحية، حتى لنعتقد في بداية الأمر أننا أمام حالة من التنزيه الصافي للألوهة لم نجدها من قبل في أي عقيدة دينية أخرى. ولكن الأمر ليس كذلك. ففي مقابل هذه اللاأيقونية التحريمية المتشددة، هناك أيقونية من نوع آخر أدعوه بالأيقونية الذهنية، حيث يتم تصور الإله في هيئة بشرية تامة، ويتعدى الأمر ذلك إلى طباع الإله وعواطفه وأهوائه التي تشبه في كل شيء ما لدى البشر، وبالتالي فإنه أبعد ما يكون عن الكمال المفترض بالألوهة العليا السامية والمنزهة. فهو يغضب وفي هيجان غضبه يقتل المئات وحتى الآلاف وعشرات الآلاف، وهو يحب ويكره، وينتقم، ويغار، ويخطئ ثم يندم على خطئه، ويعاقب البريء بجريرة المذنب، وما إلى ذلك من خِلالٍ تجعله أقرب إلى إنسان عادي لا يسعى إلى استكمال طبيعته الإنسانية.
ولقد أكد لنا محررو الكتاب منذ الافتتاحية الفخمة التي تقص عن التكوين وخلق الإنسان، على أن للخالق هيئة بشرية لأنه خلق الإنسان على صورته: >يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله، ذكراً وأنثى خلقه، وباركه ودعا اسمه آدم يوم خُلق<. (التكوين 5: 1). ومن أوجه الشبه بين هذا الجسد الإلهي والجسد الإنساني، أنه كان يحتاج إلى طعام يومي يزوده به عباده عن طريق المحارق وهي قرابين حيوانية ونباتية تحرق فوق المذبح وتتحول أبخرتها إلى غذاء يتناوله الرب عن طريق الشم. وقد تلقى موسى من إلهه في سفر العدد تفصيلات دقيقة بخصوص مواعيد وجباته اليومية والأسبوعية والشهرية وطريقة تقديمها: >قرباني، طعامي مع وقائدي، رائحة سروري، تحرصون أن تقربوه لي في وقته. وقل لهم هذه هي الوقيدة التي تقربونها للرب: خروفان حوليان صحيحان في كل يوم محرقة دائمة.. إلخ< (العدد: 28).
وقد صنع الرب آدم من عجينة ترابية كما تُصنع الجرار الفخارية: >وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة< (التكوين 2: 7). وهذا يعني أنه كان يستخدم يديه كأي خزاف ماهر. وفي كتاب الهاجاداه، وهو من الأسفار التوراتية غير الرسمية، يقدم لنا الكاتب تنويعاً على قصة خلق الإنسان فيقول إن الرب صنع آدم بيديه عندما اغترف من جهات الأرض الأربعة أربع قبضات من التراب عجنها وسواها إنساناً([1]). وفي جنة عدن التي غرسها بيديه أيضاً يحادث الرب آدم وحواء وجهاً لوجه كأي صاحب نزلٍ آخر ويعطيهما تعليماته. وغالباً ما كان يتمشى في أفناء الجنة على قدميه، وعندما يفتقد آدم ولا يجده كان يناديه بأعلى صوته (3: 8-9). وفي قصص الآباء الأولين لبني إسرائيل نجد الرب يكلم هؤلاء الآباء دون وسيط، حيث نقرأ على سبيل المثال: >وقال الله لإبراهيم<.. >وقال إبراهيم لله<، >وظهر الرب لإسحاق وقال<… إلخ.
وإذا كان تعبير >وظهر الرب< يمكن أن يعني الظهور في الرؤيا، فإن قصة الزيارة الإلهية في سفر التكوين: 8، لا تدع مجالاً للشك في أن الرب كان يظهر بشحمه ولحمه أحياناً. فعندما كان إبراهيم جالساً في باب خيمته عند الظهيرة، جاءه الرب برفقة اثنين من ملائكته، فهب إبراهيم لاستقبالهم وسجد إلى الأرض وقال: >يا سيد إن كنتُ قد وجدتُ نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماءٍ واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا هكذا نفعل<. وفيما هم يستريحون أخذ إبراهيم عجلاً طرياً وأعطاه إلى خادمه ليعمله، وقال لزوجته أن تعجن خبز مَلَّةٍ، ثم وضع الطعام أمام ضيوفه فأكلوا وشبعوا. ثم قام الضيوف ومشى معهم إبراهيم ليشيعهم، وفيما هو سائر إلى جانب الرب بثه الرب مكنونات قلبه: >فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع الأمم؟… إن صراخ سدوم وعمورة قد كثُر وخطيتهم قد عظمت.. إلخ< (التكوين 18: 1-22).
ولدينا في سفر التكوين مواجهة أكثر درامية بين الإله التوراتي ويعقوب حفيد إبراهيم. فعندما كان يعقوب عائداً من أرض غربته إلى موطنه، توقف مساءً عند ضفة نهر الأردن ليبيت هناك: >فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى (الرب) أنه لا يقدر عليه (يعقوب) ضرب حُقَّ فخذه فانخلع حق يعقوب في مصارعته معه وقال (الرب): أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل. لأنك جاهدت (أو أظهرت قوة حسب ترجمة الملك جيمس) مع الله والناس وقدرت. وسأله يعقوب وقال: ما اسمك؟ فقال لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعى يعقوب المكان فنيئيل قائلاً: لأني نظرت الله وجهاً لوجه ونجيت نفسي. (التكوين 32: 22-30).
ولدينا في سفر الخروج روايتان متناقضتان عن رؤية موسى ليهوه. ففي المرة الأولى سمح يهوه لموسى أن يرى قفاه وهو مدبر عنه بعد أن ستره بيده وهو يجتاز لكي لا يرى وجهه: >فقال (موسى) أرني مجدك.. قال: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. وقال الرب: هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يُرى..< (الخروج 33: 18-23). وفي المرة الثانية رآه موسى هو ومجموعة من شيوخ إسرائيل بهيئته الكاملة وهو واقف أمامهم: >ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل (إلى الجبل) ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شِبه صنعةٍ من العقيق الأزرق وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا<. (الخروج 24: 9-11).
وقد رأى الرب كذلك عدد من أنبياء بني إسرائيل سواء في الحلم أم في اليقظة، ومنهم إشعيا ودانيال. نقرأ في إشعيا ما يلي: >في سنة وفاة عُزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، (ملائكة) السيرافيم واقفون لديه لكل واحد ستة أجنحة… فقلت ويلي ويلي، إني هلكتُ… لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود… ثم سمعتُ صوت السيد قائلاً… إلخ< (إشعيا 6: 1-8). ونجد في سفر دانيال وصفاً عاماً لهيئة الرب الذي يبدو شيخاً أبيض الشعر: >وكنت أرى أنه وُضعت عروش، وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار متقدة. نهر جرى وخرج من قدميه. ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه<. (دانيال 7: 9-11).
من هذه الأمثلة وغيرها مما لا يتسع المجال لعرضها، سواء من كتاب التوراة أم من بقية الأدبيات اليهودية، يتضح لنا أن اليهودية رأت في إلهها شخصية تشبه البشر في الهيئة، وتتحرك في المكان والزمان، وتجلس على عرش يحيط به الملائكة ويخدموه. ونفهم من قصة صراع يهوه مع يعقوب أن لتلك الشخصية جسداً يمكن لمسه والإحساس به.
فلماذا حرمت اليهودية تصوير إلهها الذي يُعتبر أكثر آلهة الشرق القديم تشخيصاً؟ سؤال يجد جوابه في انتماء مملكتي إسرائيل ويهوذا إلى الثقافة السامية الغربية التي بقيت فيها النزعة اللاأيقونية غالبة على النزعة الأيقونية حتى نهايات تاريخ الشرق القديم، ولكن دون أن تتسلح بنص مقدس يحرم التقرب إلى الإله من خلال صورته، وبقيت لاأيقونية تلقائية تقليدية غير متعصبة لم تعرف حرباً على الأيقونات. يضاف إلى ذلك أن الجماعة العبرانية التي وفدت إلى فلسطين من الصحارى الجنوبية، ثم ذابت في التركيب السكاني لمنطقة المرتفعات، كانت تحمل معها عبادة لاأيقونية تميزت بها دوماً عبادات سكان الصحارى.
في الإسلام:
لا يوجد في رواية التكوين القرآنية ما يفيد بأن الله خلق الإنسان على صورته، كما هو الحال في الرواية التوراتية، ولكننا نفهم من بعض الأحاديث النبوية ما يفيد ذلك، كقوله (ص): >خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً<([2]). كما أن العديد من أسماء الله الحسنى تتضمن إشارة إلى الأعضاء مثل السميع والبصير. وكذلك الأمر في بعض الآيات التي تشير إلى اليد: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[48 الفتح: 10]. ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[7 الأعراف: 145]. ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[38 ص: 75]. وفي بعض الآيات التي تشير إلى الوجه: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[55 الرحمن: 26-27]. وإلى اللسان: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً﴾[4 النساء: 164]. ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾[20 طه: 11-12]. وورد في الحديث أيضاً إشارات إلى أعضاء كقوله (ص): >قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن<([3]). وأيضاً: >حتى يضع الجبار قدمه في النار<([4]).
ولله عرش يجلس عليه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[20 طه: 5]. ولهذا العرش ملائكة تحمله: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾[69 الحاقة: 171]. وهو يتحرك في المكان ويكون في مكان دون مكان: ﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾[89 الفجر: 21-22]. وقد يركب في حركته السحاب: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾[2 البقرة: 210]. وورد في الحديث ما يشير إلى حركة الباري عز وجل: >ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حيث يبقى ثلث الليلة الآخِر، فيقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له<([5]). وفي مقابل ذلك نفى الباري عن نفسه التشبه بما عداه فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[22 الشورى: 11].
فكيف تعامل اللاهوت الإسلامي (أو علم الكلام) مع مسألة التشبيه والتنزيه، وما هي المواقف التي تبلورت نتيجة للجدل الذي دار في حلقات المتكلمين؟
آ- الصِفاتية: وهم الذين أثبتوا الصفات لأن أفعال الباري دلت عليها، وورد بها خبر في النص. ولكنهم افترقوا إلى فرقتين، فمنهم من أوَّل الصفات على وجه يحتمل اللفظُ ذلك، ومنهم من امتنع عن التأويل وقال: عرفنا أن الله تعالى ليس كمثله شيء، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك، إلا أننا لا نعرف اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى. ومثل قوله: خلقت بيدي. أو: وجاء ربك. إلى غير ذلك، ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها. وهم في هذا الموقف يقتفون أثر جماعة كثيرة من السلف ومنهم أنس بن مالك إذ قال: الاستواء (في قوله: الرحمن على العرش استوى) معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ومثل أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني، ومن تابعهم([6]). وقد آلت الصفاتية عند نشوء علم الكلام إلى الأشعرية ممن تبعوا أبا الحسن الأشعري الذي أقر بالصفات مع ترك التعرض للتأويل، ولكنه قال بإمكانية رؤية الله تعالى في الحياة الثانية، استناداً إلى قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[75 القيامة 22]. ولكن لا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع أو على سبيل انطباع، فإن كل ذلك مستحيل([7]).
ب- المعتزلة: وهؤلاء اتفقوا على تنوع فرقهم على نفي رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، وعلى نفي التشبيه عنه من كل وجه: جهة، ومكاناً، وصورة، وجسماً وتحيزاً، وانتقالاً، وزوالاً، وتغيراً، وتأثراً. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها. وسموا هذا النمط توحيداً([8]).
ج- المشبهة: وهم غلاة الصفاتية ممن أخذوا التشبيه على ظاهره، فقالوا إن معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض، إما روحانية، وإما جسمانية. ويجوز عليه الانتقال، والنزول، والصعود، والاستقرار، والتمكن. وحكى الأشعري أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الآخرة، وحكى الكعبي عن بعضهم أنهم قالوا إن معبودهم جسم، ولحم، ودم، وله جوارح وأعضاء من يد، ورجل، ورأس… إلخ. ومع ذلك فهو جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم، ودم لا كالدماء. وهو لا يشبه شيئاً من مخلوقاته. ونُقل عن آخرين قولهم: هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مُصمَّت ما سوى ذلك، وأن له لُمَّة شعر سوداء مجعدة. وروى المشبهة عن النبي أنه قال: لقيت ربي، فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله. ورووا عنه أيضاً أنه قال: إن الله تعالى كتب التوراة بيده، وخلق جنة عدن بيده، وخلق آدم بيده. وعقَّبوا على ذلك بقولهم: نحن لا نزيد من أنفسنا شيئاً ولا نتدارك بعقولنا أمراً لم يتعرض له السلف([9]).
د- غلاة الشيعة: وهؤلاء هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية وحكموا فيهم بأحكام الإلهية. ومن جملة ما غلوا فيه تشبيههم للإله بالخلق. ونُقل عن بعضهم قولهم: إن بين معبودهم وبين الأجسام تشابهاً ما بوجه من الوجوه، ولولا ذلك لما دلت عليه. فهو جسم ذو أبعاض، له قدر من الأقدار، ولكن لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا يشبهه شيء. وعن بعضهم الآخر قولهم: إنه تعالى على صورة إنسان، أعلاه مجوف وأسفله مصمت. وهو نور ساطع يتلألأ، وله حواس خمس، ويد ورجل، وأنف، وأذن، وعين، وفم، وله وفرة سوداء هي نور أسود، ولكنه ليس بلحم ولا دم([10]).
وعلى الرغم من عدم وجود نص صريح في القرآن يحرم تصوير الألوهة في شكل بشري، إلا أن النزعة اللاأيقونية في الإسلام ترسخت اعتماداً على العديد من الأحاديث النبوية، وتحولت إلى لا أيقونية تحريمة لم تكتف بتحريم تصوير الألوهة، وإنما تعدّت ذلك إلى تحريم تصوير النبي وأفراد أسرته، ثم توسع التحريم حتى اشتمل على تصوير الهيئة البشرية والحيوانية، على الرغم من أن أخباراً متواترة عن عائشة وأصحاب النبي تفيد بأن ستارة ووسادتين في بيته كانت مزينة برسوم حيوانية، وأخباراً أخرى تفيد بأن نقوداً صكت في صدر العصر الأموي حملت صوراً لعائشة ولأبي بكر. وقد عبّرت النزعة اللاأيقونية في الإسلام عن نفسها بأوضح شكل في عصر الخليفة الأموي يزيد الثاني الذي أصدر مرسوماً في عام 721م يقضي بتحريم الصور ومحوها أو تحطيمها في كل مكان من الإمبراطورية الأموية. على أن هذه النزعة اللاأيقونية صارت فيما بعد أقل صرامة في إيران ومناطق آسيا الوسطى الإسلامية، واقتصرت على تحريم تصوير الألوهة والسماح بما عداها، على أن تكون الصورة ذات بعدين لا ثلاثة أبعاد لكي تحرم المشهد من الحياة النابضة ومن الواقعية، وجرى تصوير الرسول والأنبياء والصحابة.
في المسيحية:
في التصدي لدراسة أي جانب من جوانب العقيدة المسيحية، علينا أن نميز بين النص المقدس المسيحي، وهو العهد الجديد، وبين لاهوت الكنيسة الذي نسجه اللاهوتيون على مدى عدة قرون تلت أحداث الإنجيل. وفيما يتعلق بموضوعنا، فإن الأناجيل الأربعة وبقية أسفار العهد الجديد رسمت صورة للألوهة على غاية من الرفعة والسمو والتجريد، واستخدمت في الإشارة إليها تعبير >الآب< أحياناً، وتعبير ثيوس في أحيان أخرى وهي كلمة يونانية قديمة تدل على الألوهة المطلقة. وعبر سيرة يسوع كما رسمتها الأناجيل، لا نعثر على خطاب مباشر يوجهه الآب إلى يسوع، أما الخطاب الذي يوجهه يسوع إلى الآب فهو أشبه بالمنولوج والنجوى الداخلية التي لا تتوقع جواباً. فإذا جئنا إلى بولس الرسول الشخصية الثانية في العهد الجديد بعد يسوع، والشخصية الأولى في المسيحية، نجد أن نبوته قد جاءت من يسوع المسيح القائم من بين الأموات لا من الآب، والصوت الذي ناداه وهو على الطريق إلى دمشق كان صوت يسوع الذي قال له: >شاؤل، شاؤل. لماذا تضطهدني؟< فقال شاؤل: >من أنت يا سيد؟< فقال: >أنا يسوع الذي أنت تضطهده<. فقال شاؤل (بولس)، >ماذا تريد أن أفعل؟< فقال: >قم وادخل المدينة، فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل< (أعمال الرسل 9: 1-9). وهذا يعني أن الكتاب المقدس المسيحي قد نزه الآب عن أبرز عنصر في تشخيص الألوهة وهو الصوت المسموع.
على أن تشخيص الألوهة قد تسرب تدريجياً إلى العقيدة المسيحية بعد مجمع نيقية الذي دعا إليه الإمبراطور قسطنطين عام 325 م، حيث أعلن المجمع لأول مرة بشكل رسمي ألوهية المسيح ومساواته للآب في الجوهر، وذلك في أول قانون للإيمان أقره المجمع وجاء في مقدمته: >نؤمن بإله واحد، آب، ضابط للكل، خالق للسماء والأرض، ما يرى وما لا يرى. وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الآب، الذي هو من جوهر الآب، إله من إله، نور من نور… الذي لأجل خلاصنا نحن البشر نزل من السماء وتجسد وصار إنساناً<. وفي مجمع القسطنطينية المنعقد عام 380 م، أضاف المجتمعون إلى قانون نيقية بشكل رسمي عقيدة ألوهية الروح القدس، وبذلك تم وضع الأساس الذي بنيت عليه عقيدة التثليث.
لقد كان المسيحيون الأوائل في فلسطين يمقتون أشد المقت تصوير الألوهة، وذلك تحت تأثير سطوة الفكر اليهودي. ولكن المسيحية الناشئة قامت شرقاً وغرباً على ثقافة سورية- رافدينية، ويونانية- رومانية وثنية مشبعة بحب الأيقونات، وكان لا بد لهذه الأيقونات التي اختفت في مطلع العهد المسيحي من أن تعود إلى الظهور. وبما أن يسوع المسيح الذي هو الأقنوم الثاني في الثالوث وكلمة الله التي لبست جسداً بشرياً وعاشت ردحاً على الأرض بين الناس، فقد استقطبت صوره وتماثيله ذلك الميل عند الناس إلى التوسل إلى الألوهة عن طريق صورها الماثلة أمامهم، ولم تُعد صور يسوع هرطقة لأنه كان بالفعل إنساناً يُلمس ويرى، وقد صعد بجسده البشري إلى السماء. وإذا كانت أصنام الوثنيين صورا لكائنات خيالية لا وجود لها عندما لم يكن الإله الحقيقي قد أظهر شخصه في أي صورة مرئية، فإن صور المسيح هي أشكال صادقة عن الألوهة التي تجلت وشوهدت في عالم البشر.
وقد بقي يسوع وأمه وحوارييه لقرون عديدة الموضوع الرئيسي للأيقونات المسيحية التي لم يفكر صانعوها بتمثيل الآب، ولكن صورة الآب ما لبثت حتى انضمت إلى المجموعة وتجلت في أبهى أشكالها في عصر النهضة عندما رسمه مايكل أنجلو في هيئة مستمدة من ميراث العهد القديم، حيث نراه على السطح الداخلي لقبة كنيسة السستين على هيئة شيخ أبيض الشعر يمد يده إلى آدم لكي يبعث في جسده الطيني الحياة. وفي عصر الباروك اللاحق كان كثير من الكاتدرائيات الأوروبية تنصب في داخلها تماثيل مجسمة كاملة للآب تصوره في الهيئة التي تخيلها له محررو الأسفار التوراتية.
على أن هذه الحركة لم تمض في طريقها دون اعتراض، ففي عام 730م قام إمبراطور بيزنطي يدعى ليو الثالث بإصدار مرسوم يقضي بتحريم الأيقونات في الكنائس وصناعتها والتبرك بها لدى عامة الناس. ثم أتبع ذلك بحملة واسعة لتحطيم الأيقونات أنى وجدت، مبتدئاً بتمثال مجسم للمسيح منصوب فوق باب القصر، فأرسل فصيلة من الجنود أنزلته وهشمته أمام عيون الناس. وبعد ذلك طهر كنائس القسطنطينية وكنائس الولايات من المظاهر التي اعتبرها وثنية، حيث حطمت التماثيل وطليت الجدران المزينة بالصور بطبقة من الطلاء أخفت ما تحتها. وقد أدت هذه الإجراءات إلى اندلاع فتنة عامة بين الناس الذين انتفضوا في العاصمة وفي الولايات لمقاومة هذه الهرطقة، ولكن الإمبراطور قمع هذه الانتفاضة بكل عنف وقسوة، وحل طوائف الرهبان الذين كانوا على رأس حركات الشغب وصادر أراضيهم وأديرتهم، وحرم مهنة الرهبنة وارتداء الثوب الأسود. ولما كان ليو الثالث قد تعدى بمرسومه هذه على صلاحيات البابا في روما وصلاحيات المجامع الكنسيّة، فقد أصدر الحبر الأعظم مرسوماً بابوياً حرم بموجبه الإمبراطور من الكنيسة([11]). ومن الملفت للنظر أن مرسوم الإمبراطور ليو الثالث الذي استهل به حملة تحطيم الأيقونات، قد جاء بعد تسع سنوات فقط من المرسوم المماثل الذي أصدره الخليفة يزيد الثاني، الأمر الذي جعل كثيراً من المؤرخين يرون وجود تأثيرات إسلامية واضحة على فكر الإمبراطور البيزنطي وسلوكه.
وقد تبع ليو الثالث عدد من الأباطرة الذين ساروا على نهجه، وكان النزاع بين الشرق المسيحي والغرب المسيحي بخصوص الأيقونات من أقوى العوامل التي أدت أخيراً إلى انقسام الإمبراطورية الرومانية، وإلى انقسام المسيحية إلى أرثوذكسية وكاثوليكية. وبينما حافظت الكاثوليكية على صورها وتماثيلها، فإن الأرثوذكسية توصلت أخيراً إلى تسوية سمحت بموجبها بالرسوم الجدارية ذات البعدين واستمرت إلى اليوم بتحريم التماثيل المجسمة. ثم إن الكاثوليكية انقسمت بدورها بعد الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر الذي يُعدُّ من أعدى أعداء الأيقونات. وتبدو الكنائس البروتستانتية اليوم في كل مكان عارية من جميع أشكال الصور والتماثيل بما في ذلك الرسوم الجدارية ذات البعدين.
([1]) عن ترجمة H. Szold في كتاب:
- H. Charlesworth, edt, The Other Bible, Dobleday, New York, 1993.
([2]) رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم عن أبي هريرة.
([3]) أورده الغزالي في إحياء علوم الدين 1/102. وقال الحافظ العراقي: أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
([4]) أخرجه البخاري في التفسير 18/104 برقم 104. وأحمد في مسنده 2/369 عن أبي هريرة.
([5]) رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة.
([6]) الشهرستاني: الملل والنحل، تخريج محمد بدران، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص84-85.
([10]) المرجع نفسه ص154، و164-165.
([11]) J. J. Norwich, Ashort History of Byzantium, Benguin, 1998. Part. 1 ch. 9.