ميديا – الناس نيوز ::
سيريا إنديكيتر/ “يضربني زوجي كل يوم، ويصطحبني مُكرهةً لممارسة الجنس مع أشخاص في الفنادق والبيوت، ثم يعود بي إلى البيت ليفعل بدوره الأمر نفسه بعد ضربي بحزام بنطاله”، تقول ندى بلهجة تكاد تبدو حياديّة بعد أن استنزف الجحيم الذي تعيشه في كربلاء العراقية روحها وجسدها معاً، ثم تضيف: “وصلتُ مرحلة التفكير بالانتحار، لكن ما زال لدي أمل بالخروج من المقبرة”.
يزيد عمر ندى عن خمسة وثلاثين عاماً، وهي ابنة إحدى قرى ريف اللاذقية في الساحل السوري. منذ نحو ستة أعوام وجدت نفسها أرملةً لمقاتل سوري سابق في ميليشيا “الدفاع الوطني”، قبل أن تتزوج من شخص عراقي ينتمي إلى إحدى الميليشيات العراقية، وتنتقل معه للعيش في بلاده محملة بأوهام بدء حياة مستقرة ومريحة، لكن سرعان ما اكتشفت أنها وقعت ضحيّة شكل معاصر من أشكال “تجارة الرقيق”. ثمة قشة وحيدة تتعلق بها السيدة التي سبق أن تخرجت في قسم اللغة العربية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة تشرين السورية، وهي الوصول إلى أي مكان لا تعرف فيه أحداً. “أريد بدء حياة جديدة مع ابني الذي لم أره منذ عامين إلا عبر الهاتف. أريد عيشة فيها كرامة وإنسانية واحترام، أنا مستعدة لدفع المبلغ الذي يتطلبه الأمر”، تقول.
واحدة من عديد الضحايا
ليست ندى الوحيدة التي تعيش مثل هذه الأوجاع في الغربة العراقية، فهناك على الأقل عشرات السوريات اللواتي دُمرت حيواتهن هناك في الأعوام الأخيرة، وتحوّلن إلى تجارة الجنس باﻹجبار والضغط واﻹكراه من قبل أزواجهن، أو مُشغلين لهنّ، أو مستضيفين. معظم الأزواج في الحالات التي رصدناها في هذا التحقيق، كانوا أو مازالوا أعضاء في ميليشيات عراقية في سوريا، أو أنهم على صلةٍ ما بإحداها.
تعرفت ندى بزوجها العراقي “الحاج خضر” في زيارة إلى مقام السيدة زينب في ريف دمشق، خريف العام 2022. كانت آنذاك أرملة منذ خمس سنوات، إذ قُتل زوجها الأول أثناء مشاركته في صفوف ميليشيا “الدفاع الوطني” في معارك ريف حلب الشرقي العام 2017، التي شاركت فيها ميليشيات عراقية إلى جانب القوات الحكومية لاستعادة المنطقة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف.
لم يكن زواج ندى الأول اختيارياً بمعنى الكلمة، بقدر ما جاء رغبةً في الارتباط بعدما شعرت أنها تقدمت في السن، إذ بلغت الثلاثين وليس معها سوى رصيد من علاقات الحب الفاشلة.
في منطقة السيدة زينب جنوبي العاصمة دمشق، استرعى انتباه ندى عشرات المقاتلين العراقيين واﻹيرانيين يزورون المقام، ويتبادلون المصالح في المنطقة على سبيل الزيارة والتجارة، شأنهم شأن آلاف الزوّار الآخرين.
تنتشر في المنطقة عشرات المكاتب التي تؤمّن خدمات مختلفة للزوار، بمن فيهم المقاتلون، من فنادق وشقق للإيجار، وكثيراً ما تكون الخدمات المعلن عنها واجهة لخدمات غير معلنة وأكثر ربحية، مثل خدمات الزواج الدائم أو المؤقت.
يعتقد طه، (اسم مستعار لمحام عراقي مقيم في منطقة السيدة زينب) أن سبب الإقبال على هذه الخدمات غير المعلنة “جمال وتحرر الفتيات السوريات، والأهم المهور المتدنية في سوريا مقارنةً بالعراق، إذ تراوح مهور السوريات بين ألف وثلاثة آلاف دولار، أما مهور العراقيات فبين عشرة آلاف، وعشرين ألف دولار”.
الزواج بـ”سيف الميليشيات”!
كان الحاج خضر كما تقول ندى أحد مقاتلي “حركة النجباء”، ويكبُرها بثلاث سنوات. بدأ التودد إليها وإلى طفلها بعد أن شاهدها مصادفة قرب المقام، ثم نشأ تواصل بينهما، وسرعان ما عرض عليها فكرة الزواج والانتقال معه إلى العراق، واعداً بأنه سيكفيها ما تحتاج إليه وسوف “يستّتها وتعيش ملكة”، فهو “يملك بيتين”، سيخصص أحدهما لها، كما يمتلك أطياناً ومصالح تجارية تحقق له دخلاً مرتفعاً، وقد صدقته تحت وقع الهدايا التي أغدقها عليها وعلى أهلها. لاحقاً اكتشفت أنه مجرد “كذاب كبير”، تقول، وتضيف بغصة: “نحن السوريين دراويش، وبعد الحرب صرنا ملطشة والكل راكض ينهش لحمنا”.
ربيع العام 2023 خطبها “الحاج” رسمياً من أهلها، عارضاً مهراً لها ولهم، ما أغرى والدها المقيم في إحدى قرى الساحل السوري فوافق سريعاً بعد أن حصل على ألف دولار مكّنته من تسديد ديونه.
لم يسأل الأب عن ضمانات لابنته الأرملة وابنها، فهذا “آخر همه” بتعبير ندى، ولإرضائها وافق على بقاء طفلها من زوجها السابق معه، “وهو أصلاً عمل هيك كرمال ضل أبعت مصاري”، تقول.
حالة التخلي الذي يقارب حدّ “البيع” من قبل الأهل ليست خاصة بندى، بل تتكرر مع سواها. تركت لمى، وهي شابة عشرينية من ريف مصياف (شمال حماة وسط البلاد) خطيبها سومر الذي تسرّح بداية العام الماضي من الخدمة العسكرية اﻹلزامية، لتتزوج عراقيّاً في أواخر العقد الخامس من عمره.
أغرى العريس والد لمى بالقليل من المال، يشرح الخطيب السابق أنّ “العريس من كربلاء، تردّد على منزل أهلها بضع مرات، وسدّد بضعة ملايين (أقل من ألف دولار) ديوناً مترتبة على والدها، كما اشترى لها ذهباً، ووعدها أن تسكن في بيت خاص بها في العراق بعيداً عن ضرتها العجوز، مع استئجار سيارة خاصة لها”. يحظى عريس لمى العراقي بعلاقات قوية مع الميليشيات بحكم امتلاكه مركبة نقل بضائع طويلة بين العراق وسوريا، يُقدم عبرها “خدماتٍ خاصة” للميليشيات، وفق ما يقوله سومر، الذي يشرح أنّه ضرب غريمه العراقي وأوقف بسبب ذلك ثلاثة أيام، ولولا تعاطف عناصر مخفر شرطة مصياف معه لكان “اختفى عن وجه الأرض بعد تهديدات من أطراف لها علاقة بالعريس من الميليشيات”.
بعد مضي عام تقريباً على رحيل “لمى” إلى العراق انقطع تواصلها مع عائلتها، كما يخبرنا خطيبها السابق، فيما اختفى “الحاج” ولم يعد يظهر بهداياه أمام بيت أهل لمى، وكلما حاول الأب الاتصال برقمها أو رقمه جاءه الجواب: “إن الرقم المطلوب غير موجود بالخدمة”. يقول المحامي مرهف من اللاذقية إنه كان “يجب على الأهل التقدم بمعروض للنائب العام السوري يشرحون فيها الوقائع وعلى ضوئها يتحرك القضاء ويتابع القضية”، ولكن الأهل رفضوا الفكرة تحاشياً لـ”الفضائح والمشكلات”، خاصة أنّ الأم تنتمي إلى عائلة من وجهاء المنطقة، أما الأب فأحجم خشية انتقام “صهره” العراقي لأنه “واصل”.
يُعد المقاتلون العراقيون في سوريا من الجنسيات الأكبر عدداً بين نظرائهم. يعود حضورهم إلى العام 2011 بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية، حين وفد بعضهم برعاية إيرانية للمساعدة في قمع الاحتجاجات، ثم توسع الأمر لاحقاً ليشمل الدعم والمشاركة في المعارك ضد تنظيمات مسلّحة أخرى ظهرت عقب تحوّل الأحداث إلى صراع عسكري.
الوضع الراهن للميليشيات
في الوقت الراهن ينتشر في سوريا عشرات آلاف المقاتلين في صفوف قوات من مختلف الجنسيات، تُعد الميليشيات العراقية من أبرزها. ويصعب الوصول إلى إحصاءات دقيقة، لا سيما أن الأعداد متغيرة باستمرار تبعاً لجملة معطيات، مثل تغير كتلة التمويل، واشتداد أو انخفاض وتيرة المعارك، وتباين الظروف السياسية الإقليمية بين فترة وأخرى، فضلاً عن حركة الانشقاق والمغادرة والانضمام المستمرة داخل الميليشيات نفسها. المؤكد وفق إحصاءات حديثة نسبياً أن عدد الميليشيات العراقية في سوريا راهناً يتجاوز 15 ألفًا.
يتوزع هؤلاء المقاتلون في دير الزور وحلب وريف دمشق وحمص والجنوب السوري، وحول المراقد الشيعية في مختلف المدن. يتقاضى المقاتل مبلغًا لا يقل عن 300 دولار شهرياً، وهو مبلغ جيد قياساً بالدخل في سوريا.
“الاصطياد في الاقتصاد العكر”
بشكل عام تلعب الظروف الاقتصادية المتردية، وإغراءات نفوذ العرسان دوراً أساسيّاً في إقبال سوريّات على مثل هذه الزيجات، بموافقة، وأحياناً بدفع من أسرهنّ. تقول فوز جحجاح، وهي محامية وناشطة مجتمعية مقيمة في اللاذقية حيث سُجلت حالات زواج عديدة من هذا النوع: “في حالات كثيرة تعامى الأهل والعروس عن الاستعلام عن الزوج بسبب إغراءات المال والهدايا، ثمّ الأهم، احتمال بناء الأهل أو الذكور منهم، علاقات مع الميليشيات نفسها، لأن هذه العلاقات تفيد في ظل الظروف السورية الراهنة وخاصة مع الوضع الاقتصادي المنهار للسوريين”.
“تختلف دوافع أفراد الميليشيات في بحثهم عن هذه الزيجات، ولكن الواضح أنها في قسمها الأكبر، ولدى مختلف الميليشيات، تجارة فيها سلعة وعرض وطلب، أكثر من كونها حالات حب عابرة للحدود، وهناك طلب عليها بشكل ترفضه الأعراف المجتمعية السورية المعلنة”.
فوز جحجاح
محامية وناشطة مجتمعية مقيمة في اللاذقية
في حالات أخرى، وهي الأكثر أهمية لنا، يبحث هؤلاء الرجال عن “بضاعة جديدة مرغوبة في سوق اللحم الأبيض ينقلونها إلى العراق لتحقيق أرباح على حساب النساء السوريات، أو يتزوجونهن طيلة فترة وجودهم في سوريا، ثم يشمّعون الخيط في ليلة ليلاء، أو يأخذون زوجاتهم معهم إلى العراق إلى المجهول فعلاً”، كما تقول رولا، وهي محامية تقيم في دمشق.
تشير المحامية إلى أنّه “مع طول مدة مشاركتها بالصراع السوري، أنشأت الميليشيات علاقات مختلفة مع الناس، تنوعت بين المصالح الاقتصادية والاجتماعية وصولاً للبحث عن زوجات أو عشيقات، لأن الميليشيات غريبة عن الأرض والناس والتقاليد، وهو ما يدفعها لسلوك المسالك القانونية عادةً”.
يساعد في تنامي الظاهرة التداخل بين سوريا والعراق “لجهة الفقر والتضخم الاقتصادي، وانتشار النزوح والمعارك، وانتشار تجارة الجنس في العراق بكثافة بعد الحرب، ما عزز الطلب على النساء في مختلف الجغرافيات، باعتبارهن السلعة الأسهل والأكثر قيمة في هذه التجارة، إضافة إلى فساد السلطات الأمنية والسياسية في البلدين وضعف التعاون بين جهات الدولتين المعنيتين بالأمر”، كما ترى المحامية فوز جحجاح.
زواج عابر للحدود بنسب صاعدة
علاوة على مقاتلي الميليشيات، تُسجل أعداد العراقيين الذين يعبرون الحدود بشكل رسمي إلى سوريا تزايداً ملحوظاً، مع توقعات بتضاعفها في ضوء التسهيلات السورية المقدّمة، وآخرها منحُ سمة الدخول مباشرة عند المعابر البرية والبحرية والجوية، وفق السفارة العراقية في دمشق.
سافرت ندى إلى العراق بعد تسجيل معاملة الزواج في المحكمة الشرعية في اللاذقية عبر محام سوري بشكل قانوني، إذ “يجب تسجيل زواج السورية من عراقي في المحكمة المدنية والشرعية، وفي السجل المدني الذي تتبع له عائلة الفتاة، ويسجّل الزواج أيضاً لدى مختار الحي المكلّف قانونياً بفتح سجل للسوريات المتزوجات من أجانب وعرب، مع توثيق معلومات الزوج بناء على وثيقة شخصية حديثة له، وترسل المعلومات إلى فرع الأمن الجنائي لتثبيتها” وفق كلام أحد معقبي المعاملات في مدينة اللاذقية.
يتابع المعقب، “ﻷجل الحصول على الفيزا، يجب تصديق عقد الزواج من وزارة الخارجية حتى يعطي العراق فيزا للسورية المتزوجة من عراقي، ويحصل الأولاد على الجنسية العراقية ولا يحصلون على السورية”.
حاول مُعدّ التحقيق التواصل مع السفارة السورية في بغداد عبر تطبيق واتس آب الخاص بها للسؤال عن الأرقام الرسمية لحالات التزاوج الموثقة بين الجنسيتين، ولم يتلقّ ردّاً.
اللاذقية نموذجًا
توجب التعليمات الأمنية على مخاتير الأحياء في سوريا الاحتفاظ بسجل لحالات الزواج من أجنبي أو أجنبية، لتقديمها للسلطات المحلية والأمنية، ويتيح السجل متابعة تقريبية لعدد حالات الزواج من أجانب المسجّلة رسمياً.
يفيد مختار أحد أحياء اللاذقية الشعبية (يبلغ عدد سكانه حسب إحصاء جرى عام 2022 قبل الانتخابات المحلية، ثلاثين ألف نسمة) بأنّه بين العامين 2016 ـ 2022 سجّل 85 حالة زواج رسمي مع أجانب، من بينها 65 حالة زواج لعراقي من سورية، أي ثلاثة أرباع الحالات، بمعدل عشر إلى إحدى عشرة حالة زواج سنوياً، أي تقريباً حالة زواج واحدة كل شهر.
أما مختار حي الدعتور الشعبي في اللاذقية (عدد سكانه نحو 60 ألفاً) فقد سجّل على مدار الفترة ذاتها 135 حالة زواج لأجنبي من سورية، منها 90 حالة زواج عراقي من سورية، أي أننا إزاء حالة زواج واحدة كل شهر تقريباً.
إذا طبقنا القياس ذاته على محافظات دمشق وريفها وحلب، حيث يعيش العدد الأكبر من العراقيين تكون النسبة التقريبية ثمانين إلى مئة حالة زواج سنوياً.
“الزواج البرّاني”
من المتوقع أن العديد من حالات الزواج لا تُسجل رسميّاً، في ما يُعرف باسم “الزواج البرّاني”، وهو عقد قران شرعي وفق الشريعة الإسلامية، لكن بلا توثيق مدني، وقد ازدادت نسبة شيوعه في ظل الحرب، مع أخذه في بعض الحالات شكلاً يقارب زواج المتعة. تقول المحامية سماهر أحمد من اللاذقية، إن الزواج “البرّاني” قد “يبدأ وينتهي دون أن يعرف به أحد، ويلجأ إليه بعض المقاتلين كونه وسيلة مشرعنة للهرب من تهمة الزنا، وأكثر من يلجأ إليه المتزوجون بالنظر إلى قصر وقته وعدم ديمومته وعدم وجود أولاد، أما الشريكة في الزواج فقد تكون مطلقة أو أرملة”.
فيما يقول المحامي سعد الدين الغانم من اللاذقية، إنّ “العقد البراني هو ما يعرف باسم الزواج الشرعي عند المسلمين عادةً، ويُجرى بواسطة أئمة المساجد، كل على مذهبه، وهذا العقد قد يتم إكماله في العراق بعقد زواج رسمي في حال سفر الزوجة إلى العراق مع زوجها”.
يرى المحامي أنّ “غبناً يلحق الأزواج العراقيين الذين ترفض زوجاتهم السفر معهم للعراق، وينشأ خلاف بينهما لأنه لا يوجد ما يجبر الزوجة على السفر، وتكون الزوجة هي المستفيدة مادياً عادةً من مقدم أو مؤخر صداق، ولذلك أضاف بعض العراقيين شرطاً على عقد الزواج يُسقط ما نسبته النصف من حقوق الزوجة المادية عند تمنعها عن السفر”.
“ثمن البكارة”
إيمان (32 عاماً) حالة نموذجية لمصير صعب ينتهي بالسيدة أو الفتاة إلى الغرق نهائياً في تجارة الجنس.
تروي إيمان قصتها عبر تطبيق واتس آب لمُعد التحقيق الذي تحقق من هويتها. “أصْلي من ريف جبلة، ولكنني عشت حياتي في سلمية (ريف حماة)، درست للتاسع. تعرفت على شاب عراقي في نهاية الثلاثينيات من عمره من جماعة “عصائب الحق”، وتطورت علاقتنا وصولاً للوعد بالزواج”. حين عرف أهل إيمان بالقصة لم يمانعوا، لكنهم طلبوا ضمانات للزواج. “سجّلنا زواجنا بالمحكمة في اللاذقية عام 2020، ثم سافرت معه إلى العراق”.
في بغداد اكتشفت إيمان أن زوجها كان متزوجاً من سيدتين قبلها، وأجبرها على السكن معهما. تقول: “كنت عذراء، ما أثار استغرابي أنه لم يقترب مني أبداً، وبعد أسبوع من وصولي أحضر إلى البيت أحد الأشخاص مدّعياً أنه صديقه وقد دعاه إلى العشاء. في صباح اليوم التالي استيقظت عارية بين يدي الصديق، وأنا لا أذكر أي شيء”.
وتضيف: “كان زوجي قد وضع منوّماً في شرابي دون أن أنتبه. صرخت وتصارعت معه، ولكنه غلبني وهدّدني بقوله إنه صوّرني مع الرجل وإنني في حال فتحت فمي فسينشر مقطع الفيديو للعموم ويسلمه للشرطة إثباتاً لخيانتي، ويخفيني عن وجه الأرض”.
تكررت الحكاية مرات ومرات، “بقيت في الشقة محبوسة ثلاثة أشهر لا عمل لي سوى انتظار عودة زوجي مع شخص جديد”، بحسب رواية إيمان التي فهمت لاحقاً أنّ ما فعله “زوجها” يعني أنه “قبض ثمن البكارة”، الذي قد يصل إلى خمسة آلاف دولار أميركي. تولت شرح هذه المسألة لها صديقتها الجديدة التي دلّتها على طريق العمل في الدعارة لحسابها الخاص. تشرح إيمان: “هربت من بيتو لعند صديقة سورية تعرفت عليها سابقاً على الفيسبوك، هي الصديقة اخدتني على الشغل تبعها، بمنطقة اسمها البتّاوين”. تشيع بيوت البغاء في تلك المنطقة، وقد وجدت إيمان أن العمل هناك “أريح وبطريقة محترمة، انغمست بهي الشغلة ﻷن ما في محل رحت عليه إلا وكشّر سنانو عليي، صرت طلّع بالأسبوع حوالي مئتي دولار كانوا كافين آكل وأشرب وفكر كيف أرجع ع سوريا”. بعد عامين، عادت إيمان إلى دمشق، لم تُخبر أهلها بما عاشته، واكتفت بالقول إنها تطلقت، وستجد عملاً في دمشق. توضح أنها رفعت دعوى طلاق، ولا تزال في انتظار صدور الحكم.
في العديد من الشهادات نقل الزوج زوجته الجديدة إلى العراق بهدف تشغيلها في الدعارة باستخدام طرق عديدة للوصول إلى الزبائن، منها التعارف الواقعي، ومنها الإعلان على صفحات “فيسبوك” أو “تلغرام”، إذ توجد صفحات تختص بتأمين الفتيات حسب طلب الذكور، “سوريات وعراقيات”، تقول “الشيخة أسما” وهي مقيمة في العراق إنها تفعل ذلك “بالحلال”، ومقابل كل “تبياته (نوم لليلة واحدة) أو زواج مؤقت أو سهرة أو مشوار بالسيارة تتقاضى رصيداً على هاتفها الخليوي من قبل المستفيد يتراوح بين 15 و25 دولاراً”.
وسائل “جذب” أخرى
فضلاً عن الزواج، هناك طرق عديدة تُستخدم لاستدراج السوريات إلى العراق، منها اصطيادهنّ خلال زيارتهنّ المقامات الشيعية في دمشق أو مناطق أخرى، وهناك طرق افتراضية باستخدام منصات التواصل الاجتماعي، من “فيسبوك”، و”إنستغرام”، إلى “تلغرام”.
في أحد اﻹعلانات على موقع فيسبوك طلب صاحب اﻹعلان “فتيات للعمل في العراق براتب ثمانية ملايين ليرة شهرياً (600 دولار) مع اﻹقامة والسكن والأكل”، وهو إغراء لا أحد يعرف ما يخفي وراءه.
وفي إعلان ثان كان العمل “مدبرة منزل” براتب جيد، وفي إعلان ثالث طلب شاب عراقي مقيم في بغداد زواجاً مباشرةً من سورية.
ضحايا البحث عن الرزق
كانت ليلى (39 عاماً، خريجة جامعية) إحدى ضحايا البحث عن مصدر رزق في العراق، تُعين به نفسها وعائلتها. تقول: “أنا من ريف جبلة، نحن ست بنات وتلات شباب نصهم عاطل عن العمل، ضاقت الدنيا فينا كلنا. تقاعد أبي من الجيش وبلشت المشاكل كرمال المصروف، لقيت رجال عن طريق أحد معارفي بيشتغل مع مجموعة عراقية شيعية بالشام، عرض علي أتعلم مهنة الكوافيرة ويطلعني ع العراق”.
بعد تردد، تعلمت ليلى مهنة تصفيف الشعر خلال ستة أشهر، وقد سدّد “صديقها” العراقي الكلفة (نحو مليوني ليرة). تقول: “طلعلي جواز سفر، وفيزا على أربيل، وكل شي وصلني قدام بيتي، ومع عقد عمل”. بعد وصولها العراق ساعدها الرجل في استئجار شقة، وعرض عليها الزواج لكنها لم تقبل. تقول: “صار بيناتنا علاقة جنس، فهّمته إني بضل معه بس ما بدي أتزوج، للحق والشهادة لله ما أذاني. عرضت عليه رجع اللي دفعهم، أخد الجزء الأكبر، وتركني بحالي، الدنيا ما خليت من الأوادم”. لم تكن خاتمة القصة سعيدة، إذ تردت أحوال العمل. تقول: “لما صارت كورونا تراجع الشغل، وحتى لما خلصت كورونا ضل الشغل عنا بطيء”، وتضيف: “عندي صديقة نصحتني أشتغل معها نادلة بملهى ليلي بعد دوامي. بعد تردد وافقت لأن ما بدي أرجع ع سوريا. بعد فترة انتقلت للعمل بالرقص بنفس الملهى من عام 2021”. تقول السيدة إن أهلها لا يعرفون شيئاً عن عملها الحالي. “ببعتلهم حوالات كل شهر شهرين مية ميتين دولار. أظن لو شافوني عم أرقص كانوا دبحوني خاصة إني بلبس بدلة رقص وخرز وهي القصص” تقول، وتضيف “بهيك مكان ما فيك تزعل الزباين. أحيانا بيتغالظ (إشارة إلى التحرش) حدا بمرقله ياها مقابل المصاري، بصراحة ما عاد عندي مشكلة.. بيهمني جمع مصاري وسافر ع أوروبا بأسرع وقت (…) بيطلبوني بالاسم وبرجع الصبح ع الشقة، وعلى فكرة بطلت شغل الكوافيرة وانتقلت إلى مكان جديد”.
أما منار (37 عاماً) فكانت تعمل مساعدة طبيب تخدير في مشفى جبلة الحكومي، ومسؤولة عن رعاية أسرتها. بسبب الوضع الاقتصادي المتردي وتقاعد أبيها سعت للحصول على عقد عمل في العراق عبر أحد مكاتب التوظيف، وقد وُعدت بالعمل في مجال التمريض.
عند وصولها إلى مطار بغداد دقّق مسؤول التوظيف العراقي جواز سفرها، واحتفظ به بعد خروجهما من المطار، ليجبرها لاحقاً على العمل مُقدّمةَ رعايةٍ لوالدته المُسنة، مقابل مئتي دولار شهرياً، مع الإقامة والأكل في بيت والدته. حاول شقيق مسؤول التوظيف “الاعتداء عليها مرات عديدة”، ما دفعها للتفكير بالهرب بعد الحصول على جواز سفرها بأية طريقة كانت.
أخيراً؛ تُوجت محاولاتها بالنجاح، وهربت بالفعل، ولكن انتهى بها الأمر بالتشرد عندما لم تتمكن من العثور على عمل أو مكان للعيش فيه. التقت منار أثناء تجوالها بين فنادق بغداد الرخيصة امرأة استغلّت ظروفها ودفعتها إلى ممارسة الجنس مع أشخاص كانت تحضرهم إلى الفندق، وتسرق أجورها. في نهاية المطاف، لجأت منار إلى أشخاص سوريين ساعدوها بالعودة إلى بلادها بعد تأمين مال كاف.
ماذا يقول القانون السوري؟
يقع ما يفعله هؤلاء، وفقاً للمحامي أنور محمد من اللاذقية تحت قانون “الإتجار بالأشخاص” أو “الإتجار بالبشر”، وهما مصطلحان “يُستخدمان بالتبادل للإشارة إلى جريمة يستغل فيها المتاجرون الأشخاص ويستفيدون على حساب البالغين أو الأطفال عبر إجبارهم على ممارسة الجنس ﻷجل المنفعة الشخصية، وعندما يستخدم شخص يقل عمره عن 18 عاماً لأداء فعل جنسي تجاري، فإنه يعد جريمة بغض النظر عما إذا كان هناك أي قوة أو احتيال أو إكراه ولا يعتد هنا بموافقة الضحية بأي شكل كان”.
حدّد مرسوم “مكافحة الإتجار بالأشخاص” السوري الصادر العام 2010 أشكال الإتجار “باستدراج أشخاص أو نقلهم أو ترحيلهم أو إيوائهم أو استقبالهم لاستخدامهم في أعمال أو لغايات غير مشروعة مقابل كسب مادي أو معنوي، أو وعد به، أو بمنح مزايا، أو سعياً لتحقيق أي من ذلك”، ويقع ضمن هذه الأعمال الخطف، والدعارة، وتكمن الصعوبة هنا في تحديد ما إذا حصلت استفادة لشخص ما مقابل تسهيل تلك الجرائم أم لا، فلا يوجد مقياس موحد للجرائم ولكل حالة خصوصيتها التي يدرسها القاضي.
صادقت أكثر من 180 دولة ومنها سوريا على “بروتوكول الأمم المتحدة لمنع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص” وهو يحدد مفهوم الاتجار بالأشخاص، ويتضمن التزامات الحكومات المنضمة بمنع الجريمة ومكافحتها، ومنها استحداث أقسام خاصة لمكافحة التجارة في الجهات المكلفة منعها، وفي سوريا هي الأمن الجنائي ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
كذلك، ينص قانون العقوبات السوري على أن “البغاء مخالف للقانون”، ويُفصل في العقوبات تبعاً لعوامل عديدة منها السن، والإكراه، والاستدراج، والخداع، والحض على الفجور، والتكسب من الدعارة.
هناك بعض “الناجيات”
بعد مقتل زوجها في إحدى معارك العام 2014 في ريف حلب، فكّرت سماح (28 عاماً) بالانتقال إلى بلدتها في الساحل السوري، خاصة أنه لم يمض على زواجها سوى عامين لم ترزق خلالهما بأولاد.
بعد انتهاء مدّة العدّة الشرعية فوجئت سماح بزيارة غير متوقعة إلى بيت أهلها “من شخص عراقي يعرف زوجي الراحل، جاء لتقديم مبلغ مالي من طرف قائد جماعة “النجباء” التي كان زوجي يعمل معها بعد أن تلقى تدريباً في إيران، حدث هذا بحضور أخي الأكبر”.
تكمل السيدة: “بعد فترة عرض عليّ أخي فكرة الزواج من ذلك الشخص، وشرح أنه متمكن وعلاقاته جيدة مع الأمن والدولة، وهو يبحث عن زوجة بالحلال ويريد السكن في حلب”. بعد أن التقت به مرات عديدة بحضور شقيقها بغرض التعارف وافقت السيدة على الزواج، مدفوعة بضغط الظروف الاقتصادية في الدرجة الأولى. تقول: “لم يكن لدي عمل ولا شيء ليساندني، ووضع أخي وأهلي سيئ، أجرينا معاملة الزواج عبر محام، واتفقنا أن أتحجّب، وأن نسكن في بيت يستأجره لي في حلب، ويزورني كل أسبوعين لبضعة أيام ثم يعود إلى مقر عمله في جبل عزّان ـ طريق مطار حلب الدولي ـ واستمر هذا ثلاث سنوات أنجبت فيها طفلين”.
في العام 2018 غادر زوج سماح البيت، ولم يعد حتى الآن. تقول: “أحسست يومها أنها آخر مرة أراه فيها. ظل هاتفه خارج التغطية أسبوعاً، ذهبت إلى مكان عمله بحثاً عنه، فقال لي الحاج المسؤول إنه “غادر إلى العراق بعد انتهاء عقده معنا”، وأعطاني عنوانه في بغداد”. بعد أن استشارت شقيقها نصحها بعدم السفر إلى العراق، وبرفع دعوى طلاق، وهذا ما فعلته. تقول: “بالطبع لم أحصل على أية نفقة وعدت إلى أهلي مع ضيفين جديدين هما ولداي”.
الجريمة مستمرّة
رغم انقطاع أخبار كثير من السوريات عقب سفرهن إلى العراق، فإن “حالات الزواج مستمرة، والفتيات لسن ناجيات بأي حال”، كما تؤكد المحامية فوز جحجاح التي تشير إلى تجربتها الشخصية حين عملت في العراق بصفتها القانونية، ومع جهات دولية وعراقية، ورغم ذلك “تعرّضت لأشياء مقرفة، ﻷنني سورية قادمة من الجوع والحصار والحرب، (ويظنون أن) لدي استعداد للمساومة على أي شيء ﻷجل المال، يتعلق الأمر هنا بصورة الجنسية السورية المستهان بها”.
ما يساعد أيضاً رجال الميليشيات في هذه التجارة البغيضة أن النساء في البلد المضيف محرومات في الغالب من أنواع الحماية المجتمعية، والوافدات هنّ سلفاً من وجهة نظر المجتمع المضيف “عاهرات” وإلا ما الذي دفعهن لترك أهاليهن وأزواجهن وعائلاتهن؟ وهذه الصورة النمطية متبادلة بين العديد من الدول والمجتمعات.
لا يوجد في سوريا خط ساخن للتبليغ عن حالات الإتجار بالبشر، أو عن حالات تُجبر فيها النساء على ممارسة الجنس خارج البلاد، ومن الصعب والنادر لجوء السوريات في العراق إلى جهة مدنية أو حقوقية للتبليغ عن حالات الإجبار على البغاء، وحتى في سوريا نفسها هناك خوف من اللجوء إلى القضاء أو حتى البوح بما يتعرضن له، تحت وطأة الضغط المجتمعي الميّال إلى تجريم الأنثى تلقائيّاً، والخوف من رد فعل الأهل الذي قد يصل في حالات مماثلة حدّ قتل أية أنثى “ثأراً لشرف العائلة”.