د . ممدوح حمادة – الناس نيوز :
من عادة هدى أن تجلس كل يوم عند حافة النافذة عدة مرات، تحتسي فناجين قهوتها وتنفث دخان سجائرها إلى الخارج وبنفس الوقت تستمتع بمراقبة المارة في ذلك الشارع المزدحم تحت بيتها، رأت هدى الكثير من المشاهد التي جعلتها تحزن، ورأت الكثير من المشاهد التي جعلتها تفرح والكثير من المشاهد التي جعلتها تقهقه، وهي لن تنسى أبدا ذلك الرجل القروي الذي كان يحمل على ظهره كيسين من الإسمنت، وينتظر عبور عدد من السيارات لكي يقطع الشارع إلى دراجته النارية ذات الصندوق المتهالك.
العجلات الثلاث المتوقفة على الجانب الآخر عندما افلتت دكة شرواله وانزلق الشروال إلى الأسفل، فقام بإبعاد ركبتيه لمنعه من السقوط إلى الأرض، وأخذ يتلفت حوله، حتى اقترب رجل ورفع له الشروال، وربط له العقدة، فشكره وتابع سيره قاطعاً الطريق حتى وصل إلى دراجته ذات الصوت المزعج، الذي جعل ملامح هدى تتشنج عندما أقلعت.
لن تنسى هدى أيضاً ذلك الولد الذي كان يقطع الشارع بسرعة فصدمته سيارة، جعلته يرتفع في الهواء ثم يسقط على الأرض، لينهض بعدها ويتابع الركض قاطعاً الشارع، ولكنه يسقط من جديد بعد عدة خطوات، بينما تولي السيارة التي صدمته الأدبار بسرعة في الشارع الذي كان خالياً من المارة في تلك اللحظة. كم تمنت هدى لو أنها تمكنت من تسجيل رقم تلك السيارة، ولكن الزاوية التي تقف فيها لم تكن تسمح برؤية الرقم.
خلال لحظات تحلق الجمهور حول الولد، وكانت تسمع همهماتهم غير المفهومة من هناك، وبعد مرور وقت حضرت سيارة إسعاف، وبعد أن قام الطبيب بمعاينته، رفعه ممرضان إلى الحمالة، وأخذاه إلى السيارة، وبما أنهم لم يرفعوا الشرشف الأبيض إلى فوق وجهه فهذا يعني أنه لا يزال على قيد الحياة، تمنت هدى أن يكون الولد قد نهض من كبوته وتابع حياته، ولو أنها تعرف عنوانه لذهبت لتتأكد من ذلك، لتشعر بالراحة فقط رأت الولد بعد ذلك في الحلم أكثر من مرة، ولكنها لا تعرف من هو ولا تعرف عنوانه، وهو الآن على كل حال لم يعد وجوده قوياً، في ذاكرتها وفي لا وعيها، ولكن ذلك الشاب الجامعي لن يخرج من ذاكرتها أبداً، وسيبقى وجهه الطفولي وخده الملتصق بالرصيف الذي ترتسم على ملامحه علامات الرعب في ذاكرتها ولا وعيها حتى تموت.
كان الشاب يعبر الشارع حاملاً معه أدوات دراسته، التي تتشكل من مصنف أزرق بمقبض وأسطوانة بنية تطلّ منها مسطرة تنتهي بحرف “ت ” إنكليزية كبيرة، مما يشير إلى أنه كان يدرس الهندسة، فجأة انقض عليه أربعة إلى خمسة رجال، يبدو أنهم كانوا في كمين قد نصبوه له، وطرحوه أرضاً ثم جلس اثنان منهم فوق ظهره. أحدهم أخذ يكبله والثاني وضع ركبته اليمنى بين كتفي الشاب، وضغط برأسه على الإسفلت، بينما كان الشاب يحاول معرفة من الذي يهاجمه، ثم سرعان ما حضرت سيارة ذات ماركة يعرف الجميع لأي جهة تعود ملكيتها، فرفعوه وقام أحدهم بوضع طماشة سوداء على عينيه، ورموه في السيارة كما يرمون كيساً من البطاطا، ثم انطلقت السيارة مغادرة المكان بعد أن صعد الجميع إليها.
أدركت هدى أن الشاب ليس لصاً ولا قاتلا فهؤلاء لا يضعون على عيونهم طماشات سوداء، فقد سبق وشاهدت ذلك من قبل من نفس هذه النافذة، عندما كانت مجموعة من الرجال تقود جارهم الذي يسكن في الطابق الثالث خارجين به من البناية، وقد قيدت يداه خلف ظهره، ووضعت على عينيه طماشة سوداء، ثم زج به بسيارة تشبه تلك التي رمي في قلبها الشاب، وجارهم هذا كان ينتمي إلى أحد الأحزاب الممنوعة، هذه النافذة تصلح لتكون شريطا سينمائيا تعرض عليه بدايات لقصص كثيرة ونهايات لقصص كثيرة أخرى.
واليوم ليس استثناءً، فقد وصل شاب يحثُّ الخطى للتو إلى زاوية الشارع، يحمل في يده باقة تحتوي على سبع وردات حمراء، يمسك بها من وسطها وأزرارها مرفوعة إلى الأعلى، وفور وصوله ألقى نظرات قلقة سريعة إلى جميع الجهات، وعندما اطمأن وضع باقة الورد تحت إبطه، وأشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها بعمق وهدوء يوحيان بثقة بالنفس، ولأن هدى لم ترغب بترك أحداث القصة تتطور في غيابها فقد أشعلت هي الأخرى سيجارة جديدة وسكبت فنجانا آخر من القهوة.
لا بد أن الفتاة التي ينتظرها هذا الشاب جميلة جداً، فهو في مقتبل العمر له قوام رشيق وعضلات بارزة ووجه وسيم، ولا شك أن الكثيرات يرغبن أن يكون حبيبهن فالمرأة تؤخذ بهذه الملامح التي تدل على حيوية وقوة الرجل، لا بد أنه اختارها من بين الكثيرات، وانتقى أجملهن، فهذا الأمر متاح الآن، ولم يعد كما في السابق عندما كان لقاء الفتاة مع الشاب أمراً شبه مستحيل، ويدخل في عداد الكبائر بحيث يقع الشاب في غرام أول فتاة يراها، فينطبق عليه المثل (عديم وقع في سلة تين)، الأمر الآن مختلف تماما، ولكن من قال أن الرجال لا يقعون إلا في حب الفتيات الجميلات؟ هذا الأمر نسبي ولا يمكن اعتباره قاعدة، فهناك رجال أثرياء وذوي سلطة ولا يقلون رشاقة وجمالا عن هذا يعشقون نساء قبيحات، قبيحات جداً، طبعا ربما كن في أعين محبيهن جميلات، فالقرد كما يقولون بعين أمه غزال، والجمال ليس في الشكل فقط، هناك نساء يكمن جمالهن في أرواحهن، وهناك أشياء لا يراها إلا المحب، وهناك نساء جمالهن في الفراش، فربما كانت المرأة جميلة كدمية، ولكنها في الفراش باردة كدمية أيضا، وربما تكون قفة عظام، ولكنها أكثر تأججاً من الجمر المتأجج في لب الحطب.
الكلام طبعاً ينطبق على الرجال، أضافت هدى ، لكي لا تشعر أنها قد جارت على بنات جنسها، ولكن من قال أن هذا الشاب ينتظر امرأة أصلا؟ ما كل الرجال الذين يحملون في أيديهم الورد في هذا الزمن يريدون تقديمه لامرأة، تذكرت هدى ذلك الشاب الأنيق مفتول العضلات الذي انتظر ذات ليلة عند الزاوية نفسها التي يقف عندها عاشقنا الآن، وقد انتظرت هدى بدافع الفضول لترى صاحبة الحظ السعيد التي ستأتي لمقابلته، ولكنها في النهاية صدمت عندما حضر شاب وسيم بملامح أنثوية، قدم له الشاب المنتظِر باقة الورد وبادله قبلة يتبادلها عادة الرجال مع النساء، ثم تأبط الشاب الوسيم ذراعه وانطلقا في اتجاه ما، غير أن شكل هذا الشاب لا يوحي بذلك الأمر هو بالتأكيد ينتظر فتاة، عندما كانت هدى مراهقة كانت تحلم بشاب يشبه إلى حد ما هذا الشاب يقدم لها الورد، ويذهبان إلى الحديقة وهي لا زالت إلى الآن تحلم بذلك، أحيانا تتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء ويخرج حسام زوجها الحالي من حياتها، ومن ذاكرتها كلها، وأن تركض إلى موعد تخشى أن تتأخر فيه على شاب مثل هذا يحمل باقة ورد وينتظرها على مفرق ما، فهي لا تعرف كيف أصبحت زوجةً لحسام، لا تتذكر تفصيلاً واحداً يجمعها به قبل الزواج فيه ورد، كان دائما ينتظرها ويديه في جيبيه أو بين يديه آلة حاسبة، قبل أن تظهر أجهزة الهاتف الخلوية، كان الناس يحملون في جيوبهم آلات حاسبة، أو فلنقل قسم منهم كان يفعل ذلك، كانت لقاءاتهما أشبه باجتماعات عمل، فقد كان يدعوها إلى مكان ما ويطلب منها الإسراع في احتساء القهوة، أو في تناول البوظة، لأن لديه عمل ما لا يستطيع التأخر عنه.
بعد الزواج كانت تتمنى أن يشتري لها عقداً أو حتى سلسلة ويقوم بوضعها على رقبتها، كانت تشتهي أن تشعر بأصابعه تلامس رقبتها، وهو يقفل السلسلة من الخلف، ولكن حسام كان يرمي العلبة فوق الطاولة ويقول لها: “انظري إليها كي أعيدها إلى الصائغ إن لم تعجبك”.
وبسبب عدمية هدى التي تشكلت على مر السنين فإنها حتى لم تكن تفتح هذه العلب، وكانت ترميها في صندوق مجوهراتها في الخزانة، ثم في مرحلة مر فيها حسام بأزمة مالية قام كما معظم الرجال ببيع كل مجوهراتها، حتى تلك التي ورثتها عن أمها ولم يعد بعد ذلك يقدم لها الهدايا. الآن هي تشعر بأنها موظفة عند حسام لديها عدد من المهام التي تقع على عاتقها، تقوم بتنفيذها وتعيش بقية حياتها تتابع المسلسلات أو تراقب المارة من النافذة.
الشاب الذي في الأسفل يضع باقة الورد تحت إبطه ويشعل سيجارة جديدة، ثم يحمل باقة الورد من وسطها ويجعلها بشكل أفقي مما يدل على انخفاض حرارة الانتظار، لا تعرف هدى كم من السجائر أشعل العاشق أثناء تداعياتها، ولكن التوتر أخذ يظهر عليه، إنه يدخن بشراهة وينفث دخانه بعصبية وقد أصبحت الفترات التي تباعد بين السيجارة وأختها قصيرة، وبدلاً من رمي الأعقاب في حاوية القمامة التي بجانبه، أخذ يرميها على الرصيف ويسحقها بنعله، هذه الفتاة ليس لديها أدنى درجة من الأخلاق وإلا فكيف تسمح لنفسها بتعذيب مثل هذا العاشق الولهان الذي تقطر الرومانسية من كل مساماته. ومرة أخرى شعرت هدى أنها تجور على بنات جيلها فمن يعرف ما هي ظروف تلك الفتاة؟ البنت في مجتمعنا ليست كالشاب تخرج متى تريد إلى أين تريد، عليها إن رغبت بالذهاب إلى موعد مثل هذا أن تسوق عشرات المبررات المقنعة، لكي تخرج وبطبيعة الحال كلها بعيدة عن الحقيقة، ربما كان هذا سبب تأخر حبيبة هذا العاشق، كما أنه ليس من المستبعد أن يكون هذا الشاب مخادعاً، وقد كسر قلبها عدة مرات، ولذلك فهي تتجاهله هكذا، فالشبان الوسيمون على وجه التحديد هم الأكثر غطرسة وتلاعباً بقلوب البنات، وباقة الورد هذه ربما تكون مجرد طعم لا أكثر لجر الفتاة إلى سلوك ما، فالفتيات رومانسيات وتجعل باقات الورد وقطع الشوكولا مواقفهن تلين شيئاً فشيئاً إلى أن تقع الواقعة.
ثنى الشاب ركبته اليمنى واستند بقدمه إلى الحائط، وأصبح يقف على رجله اليسرى فقط، ربما يشعر بالتعب بعد كل هذا الانتظار، إنه الآن يدخن سيجارته ربما العاشرة، أو الحادية عشرة، وباقة الورد التي يمسك بها من ذنبها تتدلى أزرارها إلى الأسفل، وإحدى ورداتها خرجت قليلاً عن باقي وردات الباقة، وأخذ مطر خفيف على شكل رذاذ يسقط على الأرض، مشكلاً على الإسفلت الجاف المغطى بطبقة من الغبار بقعاً دائرية، بدت من الأعلى كأنها ثقوباً سوداء في الأسفلت، قبل أن يشتد المطر تدريجياً ويمحيها كلياً، محولاً الإسفلت إلى صفحة سوداء لامعة.
وضع الشاب الباقة فوق رأسه، مستخدماً إياها كمظلة وحاول أن يشعل سيجارة، ولكن المطر ضرب سيجارته وكسرها، فرمى الشاب السيجارة وأعاد علبة الثقاب إلى جيبه، وقرر متابعة الانتظار دون سجائر، ثم اشتد المطر وأخذ يهطل بغزارة غير طبيعية بللت العاشق، لدرجة صار يبدو فيها وكأنه خرج من البحر للتو، أشر العاشق لسيارة تكسي عابرة، فتوقفت، وقام هو بشك باقة الورد في حاوية القمامة، ثم رمى بنفسه داخل السيارة التي انطلقت به مبتعدة.
أغلقت هدى النافذة التي أخذت الريح ترسل المطر عبرها، ورمت فنجان القهوة في المجلى، وأعقاب السجائر في سلة القمامة، ثم توجهت إلى غرفة أخرى، لتتابع أحداث مسلسل توشك حلقته التي تعرض اليوم على الانتهاء.
توقف المطر في الخارج وانتهت الحلقة، وكانت هدى تفكر بماذا تسلي نفسها عندما قرع جرس الباب، وذهبت لفتحه فوجدت زوجها حسام وقد دبت فيه الرومانسية على حين غرة، يقف مبتسما مخفيا يده اليمنى خلف ظهرة ثم يحني رأسه إجلالاً، ويركع على ركبة ونصف فتبدو وارء صلعته بعض أزرار الورد التي سرعان ما يخرجها من خلف ظهره، ويقدمها لهدى التي تقف غير مدركة لما يجري أمامها من قبل حسام، الذي لا يتحلى بهذا السلوك، ولكنها لم تجد أية صعوبة في التعرف على باقة الورد التي تكسرت بعض سيقانها، ولا تزال على وريقاتها بعض قطرات المطر، وعقب سيجارة عالق بين أوراق أحد أزرارها، خيبة العاشق الذي طرده المطر آلت إليها كاملة دون نقصان.