حاورته غادة بوشحيط – الناس نيوز :
صدر في الجزائر عن دار نشر “فرانز فانون” كتاب مهم عن بدايات الحرب الأهلية في الجزائر، والتي استمرت طيلة تسعينيات القرن الماضي، حيث يعود فيه عامر واعلي، كاتبه والصحفي، السابق بوكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب) وجريدة “ليبرتي” الجزائرية الناطقة بالفرنسية على الأحداث التي عايشتها الجزائر منذ الانتخابات المحلية وحتى انتقال حزب “الجبهة الإسلامية للإنقاذ“، الذي حل بقرار نهائي من المحكمة العليا نحو العمل المسلح. “الانفجار” هو عنوان الكتاب الذي جاء في شكل وقائع عن المرحلة التي شهدت بروز الحزب على الساحة السياسية الجزائرية، وحيثيات ذلك البروز. يقدم الكاتب معلومات حصرية أحيانا كما يعيد تسليط الضوء على أخرى، مركزاً على وضع الأحداث في سياقاتها الوطنية والدولية. الكتاب الذي سيصدر في نسخة معربة قريباً، يؤكد “واعلي” أنه الأول في سلسلة كتب سينجزها عن عشرية الذبح التي عايشها كصحفي والتي قرر أن يقدم قراءته لها للتاريخ وللأجيال التي لم تعش المرحلة، إضافة لسد الطريق أمام التلاعب والتضليل الذي طال الذاكرة الجمعية. في هذا الحوار الذي أجرته جريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية الإلكترونية ، سألت الكاتب مجموعة أسئلة عن فحوى الكتاب، وتأثير تلك الفترة في الراهن الجزائري.
– واعلي صدر لك كتاب “الانفجار” من فترة قريبة، يعالج موضوعاً لا يزال حساساً اليوم في الجزائر. ظهور وصعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس)، اعتمدت فيه على تجربتك كصحفي. ما الذي دفعك للاحتفاظ بهذه المعلومات طيلة هذه المدة؟ ولماذا انتظرت كل هذا الوقت لتخرج هذا الكتاب؟
من الجيد أن يرى الكتاب النور الآن على ألا يراه أبداً، أليس كذلك؟ إنها مسألة فرص. لقد كنت في الصفوف الأولى لتغطية إطلاق الوعد الديمقراطي سنة 1989، والذي سرعان ما أفاض على مأساة. انشغلت لسنوات في تغطية الأحداث المتسارعة، والتي توجب عليَ متابعتها لحظة بلحظة، منشغلا في الوقت ذاته بالحفاظ على حياتي أمام التهديدات بالتصفية، لم يكن لدي الوقت الكافي لرؤية الأشياء بشكل واضح، ولا اتخاذ مسافة كافية عن الأحداث. أردت أن أكتب حين بدأت الأمور تهدأ قليلا لكن حدثان رئيسان لم يكونا في الحسبان حالا دون ذلك، الأول ذهابي واستقراري خارج الجزائر في إطار عملي سنة 2002، تبعه في السنة التي تلت خسارتي لكل أرشيفي تقريبا في زلزال 2003، إذ هدم مكتبي حيث كنت أحتفظ به. لكن الفكرة عادت لتشغل ذهني في السنوات الأخيرة وأنا أستمع إلى بعض الوجوه الإسلاموية (قادة سياسيين وزعماء جماعات مسلحة) متحدثين عن تلك المرحلة. قدموا إجابات عن أسئلة كثيرة لطالما طرحتها وقت وقوع تلك الأحداث، إضافة لما كتبه آخرون أفكر تحديداً في الرئيس السابق بن جديد ووزير دفاعه خالد نزار (اللذين أصدرا مذكرات) ولكن أيضا بعض الجنود وعناصر من الشرطة البسطاء عايشوا تلك الفترة، وقدموا شهادات مهمة، ثم جاء الحراك (سنة 2019)، وساعدني كثيرا في الربط بين كل الأفكار المنفصلة التي أملكها عن التاريخ القريب للجزائر، فسارعت للكتابة وقد أدركت أنها الذكرى الثلاثون لإطلاق المسار التشريعي الذي أجهض سنة 1991.
–ما هي القراءة التي تقدمها لما غدا مأساتنا الوطنية، مأساتنا نحن، وأنت على مسافة من الأحداث؟
يعلم الجميع أن المسار الانتخابي قد أجهض بعد نجاح “الفيس” في الدور الأول لتشريعيات 1991، ولكن لا أحد يخوض في الأسباب التي أدت إلى تلك النتائج والمأساة التي تلتها. حاولت تفادي كتابة محاولة فكرية حول الموضوع، وركزت على إعادة بناء تسلسل الأحداث ووضعها في سياقات المرحلة تلك، الوطنية والدولية. لا أتخذ موقفاً، ولكن أقدم عناصر كافية حتى يتمكن القارئ من الحكم على الأشياء. بالمناسبة وصلتني ردود أفعال مهمة جداً من قراء شباب لم يعايشوا تلك المرحلة. يمكننا اليوم أن نرى بوضوح أن المأساة قد بدأت فعليا سنة 1989 بسبب حسابات سياسية وطموحات السلطة آنذاك، والتي أخذت الشعب كله كرهينة. أذكر أن طالبا سأل الشيخ نصر الدين الألباني إن كان مباحاً أمر المشاركة في الانتخابات في ذلك الوقت؟ فكانت إجابته مروعة: “أنا خائف أن يحدث لكم مثلما حدث في مصر، وحتى في أماكن أخرى، لن تحصدوا سوى القمع، الموت والدمار دون أدنى فوائد”، في النهاية لم يكذب.
–يبدو أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ “الفيس” لسنوات التسعينيات تسعى للتدخل في الشؤون السياسية الوطنية، بعض قدماء “الفيس” يواصلون تلاعبهم بالرأي العام ولا زالوا يريدون التموقع كقادة سياسيين، كالوجوه الفعلية للمعارضة السياسية،ما هو وزنهم على الساحة السياسية اليوم؟ وما سيكون مستقبلهم فيها؟
حاولت أن أشرح أن تشريع الفيس بضرب القانون عرض الحائط كان توظيفاً من طرف السلطة في ذلك الوقت، فقد كان لكل جناح أهداف وطرق عمل. بسبب هذا الحزب تم وأد الوعد الديمقراطي لسنة 1989. لم تتوانى دولة كتركيا مثلا عن حل حزب “رفاه” الإسلامي سنة 1998، ولم يتسبب ذلك في إطلاق حركة تمرد، على الرغم من أن ذلك الحزب قد ظهر سنة 1983 وتحول إلى القوة الأولى للبلاد سنة 1995.
أن يحاول الآن مسؤولون سياسيون لـ “الفيس” العودة إلى الميدان السياسي ليس بالأمر المفاجئ. فهم يعتمدون على الكوارث التي خلفها التضليل الإعلامي ومن ثم يحاولون الإعلان عن عودتهم بلعب دور الضحية، ولكن يبدو لي أمرا مستبعداً، فالإطار القانوني حاليا أكثر صعوبة مما كان الحال عليه مع دستور 1989، إضافة إلى القانون حول الأحزاب، ثم قانون المصالحة الوطنية يستبعد أي عودة للمسؤولين عن الحزب، حتى فرضية النيوفيس “فيس جديد” بوجوه جديدة لا تبدو لي ممكنة، على الرغم من حضورها في الحراك. هناك أحزاب إسلامية متجذرة داخل اللعبة السياسية في الجزائر، لا أظن أن السلطة ستخاطر بالسماح بنيوفيس حتى ولو تحت مسمى آخر ولكن بنفس المشروع.
– تستعرض الكثير من المعلومات التي تبدو حصرية، فمن خلال كتابك نفهم أن اغتيال بوضياف لم ينقل على المباشر في التلفزيون بل مسجلاً، وأن مسألة الاعتراف بالفيس كانت نتاج حسابات ضيقة من طرف أشخاص في السلطة، لماذا ظلت مثل هذه المعلومات مجهولة للقسم الأكبر من الجماهير لسنوات طويلة؟
الملاحظة الأولى ممتعة. أنا لا أقدم معلومة جديدة، فهي حدث واقع، التلفزيون لم يبث مباشر وفاة محمد بوضياف، تم تسجيل الصور سجلت ثم عولجت وبثت ساعتين بعد الحدث، كغالبية الجزائريين شاهدنا المأساة وتصورنا أنه بث حي، فقط تقنيو التلفزيون بالعاصمة شاهدوا الصور على المباشر. أذكر أنه من عاداتنا الراسخة في مكتب وكالة الأنباء الفرنسية بالجزائر ترك جهاز التلفزيون شغالاً، لا أذكر تحديداً أي برنامج كان يذاع وقتها، وصلتنا المعلومات الأولى حول ما حدث بالهاتف ساعة بعد حدوثه بفضل مصادرنا. بدأ التلفزيون ببث القرآن إشارة إلى حالة حداد، قبل الإعلان عن وفاة الرئيس. فيما يتعلق بأمر تشريع الفيس، لا أظن أنني أقدم معلومة جديدة، أنا فقط أعيد كلاماً سبق وتم تناوله، لكنني أدرك الآن أنه تم تجاهله.
– تقدم رسما لرئيس جمهورية ضعيف، خائف، أرعبته صور مقتل “شاوسيسكو“، وموظفون سامون في الجيش ترعبهم فكرة أن يحظوا بمصير مشابه لما عرفه موظفو جيش الشاه بهلوي السامون بإيران، رئيس حكومة لا يعرف بدقة وزن الحزب الجديد في الميدان، والقارئ سيلاحظ حتماً سيطرة مناخ تكاد تنعدم فيه المعلومات ولكن أيضاً بلد متأثر بالوضعية الجيوسياسية للعالم؟
-هنا يمكنني القول إن هذه المعلومات ليست معروفة. إنه دوري في البحث عنها. مهمتي أن أوصلها للجمهور القارئ. أعلم يقيناً أن الكثير من الصحفيين يمتلكون الكثير من المعلومات الحصرية التي تستحق كتباً ولكن للأسف لا نمتلك هذه الثقافة في الجزائر، أتمنى أن يتغير الأمر.
–كملخص بسيط: الجبهة الإسلامية للإنقاذ “الفيس” حزب تيوقراطي، ضد الدستور، بمليشيا يحاول لعب اللعبة الديمقراطية أو يقترب من ذلك، من خلال التزوير في الانتخابات المحلية والدور الأول من التشريعيات، قادر على فعل أي شيء ويرى نفسه على رأس جميع السلطات. ثلاثون سنة بعد ذلك هناك أشخاص لا زالوا يؤمنون بـ ‘”جنة مفقودة“، خصوصا مناضلوه القدماء، بل أبعد من ذلك، الأجيال الجديدة تعتقد فعلياً بأن العشرية السوداء كانت مسرحية قامت بها من يسمونها بـ “الدولة“، بمعنى الجيش والقوى الفعلية المسيطرة على البلاد آنذاك. لماذا وصلوا إلى هكذا قناعات برأيك؟ وهل ربح إسلاميو “الفيس” معركة الوعي اليوم؟ وماهي مكانتهم في مستقبل الجزائريين؟
-هناك أمر مرعب حقا، ربح الإسلاماويون معركة الاتصال بدعم من المؤسسات غير الربحية الدولية ووسائل الإعلام الأجنبية، خلفت أطروحة المؤامرة كوارثا وعكست الأدوار. راهن كلاهما على سقوط النظام الجزائري لكن تبين زيف نبوءاتهم، فقد استمر هذا النظام الذي تصوروا أنه انتهى، جعلوا منه هدفهم، إضافة أن السيطرة التامة على المعلومات التي قامت بها السلطة حتى لا تعكس صورة دولة فقدت السيطرة على الأوضاع، لكنها تركت انطباعا بأنها هي من تتلاعب وتضلل.
– خلال جنازة عباسي مدني أحد أهم قادة الفيس شاهدنا استعراضاً حقيقياً لداعميه ومناضلي الحزب القدامى، خرجوا دون خوف، حتى أن بعض الأصوات ترتفع من وقت لآخر لتقول بأنه توجب منحهم فرصة. ماذا كان ليحدث لو وصلوا لسدة الحكم؟
-أظن أن مواجهات 1992 كان من غير الممكن تجنبها، حتى لو وصل الفيس إلى السلطة. السؤال الوحيد الذي يجدر طرحه هو هل كانت نتائجها لتكون أوخم، بالنظر إلى الوعود بالتطهير التي قدمها الفيس وردود الأفعال المتوقعة من خصومه. أظن أن الحصيلة كانت لتكون أثقل. كان لهواري عدي الباحث السوسيولوجي من المدافعين عن المسار الانتخابي اعترف بأن قادة الفيس عاجزون غير أكفاء، هو الذي أطلق تسمية “التقهقر المثمر”، هذا يعني أن الفيس كان سيقود البلاد إلى الهاوية قبل أن يطرد بانتخابات أخرى لكن “الفيس” كان قد وعد أنه لن تكون هناك انتخابات بعده. نبوءات الجيش كانت أكثر سوداوية وقد حوتها وثيقة تحدثت عنها بالتفصيل في الكتاب وتعود لسنة 1990.
– شاهدنا من فترة قصيرة علي بلحاج (الرقم اثنان في حزب الفيس المحل) يقرأ الفاتحة على قبر معطوب لوناس. لو ظهر الفيس اليوم هل كان ليحظى بالشعبية التي حظي مطلع التسعينات، وهل كان لينجح في انتخابات ديمقراطية؟
-في الجمهورية التي أرادها علي بلحاج، لم يكون لمعطوب الوناس الحق في التواجد مثلما الحال بالنسبة لأي فنان آخر. ألبومه الأخير الذي أصدره قبيل اغتياله كان بمثابة وصية يوضح فيها مواقفه من التطرف، وإذا أراد بلحاج الاستيلاء على ذاكرته فالأمر لا يعدو كونه خبراً عابراً.
أذكر أن الـ “فيس” قام بتجمع شعبي بعين طاية بعد الانتخابات المحلية التي فاز بها في يونيو/حزيران 1990. دعا بلحاج بنفسه مناضلي حزبه للقيام “بفتوحات” بمنطقة القبائل والتي لم يتمكن من السيطرة عليها في الانتخابات. هذا ما يقودني إلى الجزء الثاني من السؤال حول ما ستكون النتيجة لو تقدم الفيس اليوم للانتخابات. من الصعب القيام بإسقاطات في السياق السياسي الحالي. فسنة 1990، صعد الفيس على حساب السقوط المدوي للأفلان وضعف الخندق التقدمي. بدا القوة الوحيدة القادرة على تغيير النظام. لا توجد الحيوية الديمقراطية ذاتها اليوم ولا قوة سياسية كبرى لتجعل أمر إسقاط النظام ممكناً. لكن بالمقابل هناك مؤشرات. لاحظي كيف قل جمهور علي بلحاج، لاحظي أيضاً كيف يندد اليوم أعضاء مجلس شورى الفيس بأفعال الثنائي بلحاج ومدني، مصرحين بالخوف الذي شعروا به وقتها مضاعفاً بالإحساس بالذنب أمامهم، “الفيس” بنى شعبيته على وعد بأحداث تحولات لن يتمكن من فعلها في السياق الحالي والتي دونها سيكون حزبا كأي حزب آخر.