عندما انزلقت عجلات الدراجة النارية للرقيب أول في سلك الشرطة زياد العبد الله، وارتطم ظهره بعمود الكهرباء نهض وأخرج من جيبه علبة المحارم المعطرة بسائل يحمل رائحة التفاح وسحب منها محرمة وأخذ يمسح طبقة الوحل التي التصقت ببنطاله بسبب زحفه فوق الأسفلت ثم ركب دراجته وانطلق من جديد متابعا طريقه باتجاه السجن الذي كان يعمل فيه سجانا، كان يعتقد أن الأمر قد انتهى عند هذه النقطة ومارس عمله بشكل طبيعي مع شعوره ببعض الألم الذي كان يعتقد أنه سيزول تدريجيا كما هي العادة، ولكن الألم لم يزُل وكان يتصاعد تدريجيا يوما بعد يوم حتى أصبح في اليوم الخامس ألما لا يطاق ومع ذلك كابر على نفسه وفضّل تحمل الألم مقابل عدم حرمانه من متعة إقفال أبواب مهاجع السجن بعد عودة المساجين إليها من ساعة التنفس في باحة السجن، كان يشعر بمتعة كبيرة عندما يقول لشخص يعرف أنه طبيب جراح مشهور:
– أسرع يا دكتور يا حمار.
أو عندما يقول لممثل مسرحي:
– أتمشي على بيض.. خف رجلك يا ممثل يا دابة.
وتتضاعف المتعة عندما يركل الممثل على مؤخرته، ويقهقه عندما يتعثر الممثل ويسقط على الدرج المؤدي إلى المهجع الذي يقع نصفه السفلي تحت الأرض ويصفه وهو يضحك وكأنه يداعبه :
– خروق.
ويبتسم الممثل تحاشيا لإثارة غضب زياد ويتابع طريقه يعرج باتجاه مكانه في المهجع.
سعادة زياد كانت لا توصف عندما قبع خلف قضبان أحد المهاجع ذات مرة وزير طالت إقامته لشهرين ثم نقل إلى مكان آخر ويقال إنه مات قهرا، كان زياد يحدق في عينيه وهو يدخل إلى المهجع ويرحب به قائلا :
– احترامي سعادة الخنزير .. عفوا الوزير.
ثم يصفعه على رقبته من الخلف ويقهقه وكانت الدموع تنهمر من عيني الوزير آنذاك فيقدم له زياد محرمة ويطلب منه تجفيف دموعه ممثلا دور المشفق على الرجل ويختم تعاطفه بجملة نابية يشعر بلذة لا توصف وهو يوجهها للوزير، ومع أن صوت زياد كان الأعلى بين أولئك الذين يهتفون :
– بالروح بدم نفديك يا فلان.
إلا أن رغبة عارمة كانت تعتريه بأن يحدث انقلاب ويتم زج الرئيس الحالي في السجن لكي يقفل عليه الباب ويستمتع بإذلاله وكانت تراوده أحلام يقظة ومنامات يرى فيها الرئيس في السجن في الزنزانة رقم سبعة، حيث كان يقفل عليه باب الزنزانة ويطلب من الرئيس أن يمشي على أربع ويركب على ظهره ويطلب منه حينا أن ينهق وحينا أن يطلق عواء وأشياء أخرى كثيرة وكانت أثناء ذلك ترتسم على شفتيه ابتسامة حالمة غالبا ما يقفز بعدها مرتعبا أن يوقظه من تلك الخيالات شخص ما يخشى أن يكون قد تسرب من مخيلته إلى أمام عينيه شيء، وينظر نظرة ملؤها الذل وطلب المغفرة وينظر نظرة ملؤها الذل وطلب المغفرة إلى صورة الرئيس المعلقة على الجدار والذي كان يركب على ظهره قبل قليل، أشياء كثيرة كان يتخيلها زياد وأشياء كثيرة كان يتمنى حدوثها وكان يفضل مهنة السجان هذه على كل المهن ولا يتمنى أبدا أن يتم ترفيعه وأن يُعهد إليه بمهام أكثر أهمية من مهنة السجان وهذا عمليا ما كان يحدث في حين أن أحدا لم يفكر بنقل زياد من هذا المنصب.
في اليوم السابع لم يعد زياد قادرا على المشي دون أن يحني ظهره وكل حركة من حركاته كان يرافقها ألم كبير، مما اضطره للذهاب إلى رئيسه في العمل المساعد جلال لكي يحصل منه على إجازة في اليوم التالي يذهب خلالها إلى الطبيب، والمساعد جلال لم يعترض أبدا فوقع له إجازة لمدة أربع وعشرين ساعة واعتذر منه زياد كثيرا لأنه مضطر للتغيب في اليوم الثاني وأن ذلك خارج عن إرادته وما شابه من ذلك الكلام الذي يشبه كلام عاشق مضطر لترك حبيبته في محنة بغيابه، ولكن رد المساعد كان صادما، فقد قال له:
– لا تقلق يا أخي، فأي حمار يستطيع ممارسة هذا العمل، إنه مجرد فتح قفل وليس اختراع قنبلة ذرية .
ولكن زياد اعترض على ذلك وأكد له أن فتح وإغلاق القفل ليس مجرد حركة ميكانيكية وأنه يحتاج إلى الكثير من المشاعر الخاصة التي لا يملكها أي سجان واسترسل في وصف أهمية إرتاج الأقفال حتى أشار له المساعد جلال بحركة من قفا يده تأمره بالخروج عندما رن جرس الهاتف، فخرج زياد حانيا ظهره واضعا راحة يده اليمنى فوق أسفل عموده الفقري حيث كان يشعر بالألم على الأغلب .
الطبيب الذي عاينه وبعد مشاهدة التحاليل والصور الشعاعية قرر أن يمنحه نقاهة لمدة شهر وأن يعرض حالته على لجنة طبية اعتقدَ زياد أنها ستقوم بعلاجه ظنا منه أنها أهمية تمنحه إياها الدولة عرفانا لما يقوم به من خدمات للدولة، هكذا كان زياد يظن نفسه، خادما للدولة ضد هؤلاء السفلة الذين يقبعون خلف القضبان، ولكن اللجنة في الحقيقة كانت ستقرر مستقبل زياد الوظيفي.
فترة النقاهة كانت جحيما لا يوصف بالنسبة لزوجة زياد وأولاده في البداية أخذ زياد يعاقب الأولاد بحبسهم في الغرف وإغلاق الأبواب عليهم لأي خطأ يرتكبونه من وجهة نظره، ثم اشترى أقفالا للمرحاض والحمام وقبو المنزل وأخذ بناء على مستوى الذنب يحبسهم في هذه الأماكن، وذات مرة انقطع التيار الكهربائي عندما كانت ابنته سمر البالغة من العمر خمسة عشر عاما قد قضت من محكوميتها ساعتين في القبو وبقي عليها أن تقضي خمس ساعات حيث إن زياد كان قد أصدر حكمه عليها بالسجن لمدة سبع ساعات، أخذت سمر تصرخ بسبب الرعب الذي سيطر عليها في الظلام في القبو الذي تحول إلى مملكة للجن والغموض وكانت متأكدة أنها تسمع هناك وقع خطوات وهمسا وحركة ما، تخرشت حنجرتها وبح صوتها بسبب الصراخ وتوسلت سوسن زوجة زياد زوجها أن يفك أسر ابنتها ولكنه نظر إلى ساعته وقال :
– بقي عليها خمس ساعات، لن يصدر أي عفو بسبب انقطاع التيار.
خاضت زوجته معه معركة حامية تمكنت خلالها من انتزاع المفاتيح وتوجهت إلى القبو لإطلاق ابنتها فورا ولكن زياد الذي لحق بها قام بدفعها إلى الداخل وأغلق خلفها الباب بالمفتاح الذي كان لا يزال في ثقب الباب.
وكما تعودت الجماهير على ظلم أجهزة السلطة الديكتاتورية تعودت أسرة زياد على ظلمه، وكم كانت سعادتهم كبيرة عندما انتهت النقاهة وارتدى زياد بدلته المكوية المنشاة وتوجه إلى العمل.
– مبروك.
قال له المساعد جلال الذي توجه زياد إليه ليحصل على المفاتيح ويعود لأمجاده التي فقدها لشهر كامل ويشتاق لمعاودة ممارستها الآن بعطش.
– على ماذا ؟
سأل زياد وقلبه يرقص فرحا ظنا منه أنه حصل على مكافأة ما تقديرا لخدماته وقد كان ينتظر ذلك منذ زمن بعيد.
– لقد صدر قرار تسريحك من الخدمة لأسباب صحية، يا للسعادة.
– أي سعادة هذه التي تتحدث عنها ؟ إنها خيانة، خيانة عظمى، أبعد كل هذه السنوات من الخدمة بكل إخلاص يتم طردي بجرة قلم؟
– لا تكن أحمقا منحت هذه الهدية احصل على راتبك التقاعدي واعثر على عمل في القطاع الخاص احصل منه على راتب ثان.
قال المساعد جلال فصرخ زياد الذي اختل تحته عكازه بسبب الانفعال فمال قليلا:
– وهل هناك سجون في القطاع الخاص؟ ما الذي سأفعله في القطاع الخاص؟
ثم انصرف دون أن يسمع ما كان يقوله جلال في إثره.
في عيادة الطبيب في المشفى العسكري تصرف زياد كالمجنون، في البداية توسل الطبيب كرجل لرجل ولكن ذلك لم يقنع الطبيب الذي أكد له أن حالته ستسوء إذا عاد لمزاولة العمل، ثم انكب محاولا تقبيل يديه أولا لكي يجعل اللجنة تغير قرارها ثم انكب على قدميه محاولا تقبيل حذائه ولكن الطبيب رفعه مستاء وصرخ به:
– كفى، قرار اللجنة لا يملك القدرة على تغييره أحد، أنت تعاني من إعاقة ونحن نتحمل المسؤولية إن حدث لك شيء بسبب هذه الإعاقة.
– أؤكد لك أنه لن يحدث شيء، لن يحدث شيء إطلاقا.
– هذا هراء، لست أنت من يقرر إن كان سيحدث شيء أم لا، بل عمودك الفقري الذي كان سيلعنك لو كان يسمع ما تقول .
التوسلات لم تجلب نتيجة، فكر زياد وبحث في رأسه عن طريقة أكثر جدوى فقرر أن يعرض على الطبيب رشوى وأسر له وكأنه عثر على المفتاح المطلوب:
– دكتور أنا مستعد لدفع المبلغ المطلوب، قل لي ما هو الرقم وأنا مستعد لدفعه لك ولكل أعضاء اللجنة .
جن جنون الطبيب وطرد زياد خارج العيادة ولكن زياد تمكن قبل أن يخرج من التلويح بيده مهددا:
– لن أموت قبل أن افضح هذه المؤامرة على الكوادر الخبيرة في الدولة، ما أنتم سوى جرذان دسها العدو في صفوفنا لكي تقضي على الكوادر الهامة في بلدنا.
كانت هذه عبارة سمعها من أحد المساجين ذات يوم واستخدمها اليوم ضد الطبيب، أما الطبيب فاكتفى بالقول :
– انقلع سافل.
راجع زياد الوزارة وقدم تقريرا تحدث فيه بإسهاب عن احتمال تورط الأطباء واللجنة الطبية بعلاقة مع العدو تهدف إلى إفراغ السلك من كوادره المخلصة وغير ذلك من التهم وضرب على ذلك مثالا عن جاسوس دسته دولة أجنبية في صفوف موظفي دولة معادية تلخص عمله بوضع الرجل غير المناسب بالمكان غير المناسب وتحدث بعد ذلك عن الضرر الذي يلحقه هذا بالأمن الوطني، ولكنه رغم كل هذه الديباجة المتقنة لم يحصل على رد من الوزارة فقرر أن يتواصل مع شخص يستطيع أن يوصله إلى الرئيس، ولكن الشخص اعتذر نظرا لعدم أهمية الموضوع فضمه زياد إلى العناصر المشاركة بالمؤامرة التي اخترقت حاشية الرئيس.
استسلم زياد أخيرا لقدره (أحمق الخطى)، واستمع إلى أغنية عبد الحليم هذه كثيرا وتساقطت من عينيه دموع ولكن لم يعد هناك بالإمكان أكثر مما كان، ولذلك فقد عاد إلى أهل بيته ينكل بهم، وصارت كل غرف المنزل زنزانات والجميع يقضون محكومياتهم البعض في الحمام والبعض في القبو والبعض في الغرف وحتى المرحاض تحول إلى زنزانة انفرادية، ولهذا فقد أصبحت الحياة مستحيلة في البيت وعندما طلبت سوسن من أبيها أن يتدخل في الموضوع قام زياد بحبسه في القبو عندما جاء ليصلح ذات البين ولهذا السبب هجرت سوسن زياد هي وأطفالها وقررت العيش عند أبيها.
بذل زياد عدة محاولات للتخلص من عاهة المفاتيح والأقفال وعادت سوسن والأطفال ولكن صموده لم يكن يستمر لأكثر من أسبوع في أفضل الحالات مما تسبب أخيرا بطلب الطلاق من قبل زوجته وانتقالها مع الأولاد إلى منزل والدها، عانى زياد بعد ذلك طويلا من الوحدة وانتقاما من زوجته ذهب ليلا إلى منزل والدها يحمل معه حقيبة الأدوات وقفل قام بتركيبه على الباب ثم انصرف وهو يتخيل مشهد والدها يحث الخطى صباحا للذهاب إلى عمله فيكتشف أن بوابته مقفلة من الخارج وقهقه زياد بعد تخيله المشهد، ولشدة ما أعجبه الأمر قرر أن يمارس عاهته هذه على الأبواب دون تمييز وكان يذهب كل يوم إلى حي ينتقي باباً ويركب له القفل من الخارج، وكان في بعض الأحيان يراقب في الصباح ما الذي يفعله أصحاب البيوت الذين أغلق عليهم ويشعر بسعادة لا توصف وهم يحاولون التخلص من إقفاله، ولكن بسبب حمله لحقيبة المعدات أخذ يشعر بألم ظهره يشتد كما أن السهر حتى ينام الناس أنهكه وذات مرة كادت دورية للشرطة تلقي عليه القبض، كل ذلك جعله يقلع عن هذا الأمر ويفكر بطريقة جديدة يمارس فيها عاهته.
وقد اهتدى إلى حل عندما كان يتجول في سوق الطيور حيث توقف طويلا أمام قفص فيه طائرين (عاشق ومعشوق) ثم قرر شراء القفص بما فيه وقفص آخر فارغ وتوجه إلى البيت ففتح القفص الذي فيه الطَّيْران وأخذ من هناك الأنثى ووضعها في القفص الآخر الذي أسماه (سجن النسوان) حاكما إياها بأربع وعشرين ساعة حبس بعيدا عن حبيبها وعندما انتهت المدة نقلها إلى قفص حبيبها ولكنه حكم على الحبيب بالحبس ونقله إلى القفص الثاني، وسرعان ما امتلأ بيته بالأقفاص والعشاق الذين كان يتلذذ في فصلهم عن عاشقاتهم ويمكن القول إن بيت زياد تحول إلى مكان لإذلال العصافير الذين أخذ يطلق عليهم أسماء المشاهير والشهيرات فكل نجوم ونجمات السينما والتلفزيون كانوا في أقفاصه، كل أعضاء الوزارة ورئيس الوزراء، وأعضاء البرلمان كانوا في تلك الأقفاص أيضا، وكان في الصباح يتلذذ بإهانتهم ويخاطبهم بكلام ناب ويشعر بالسرور لذلك، الرئيس كان في قفص لوحده وكان قفصه مغطى على الدوام بقطعة قماش سوداء حفاظا على سرية وجوده هنا، هذا لم يكن زياد ينطق اسمه وكان يكتفي بعد أن يتلفت حوله للتأكد من عدم وجود أحد، بإبراز إصبعه الوسطى له وكان يحرمه تارة من الطعام وتارة من الشراب إلى أن جاء يوم نزع فيه زياد القماشة السوداء فوجده في أرض القفص جثة هامدة ظهره على الأرض ورجليه مرفوعتين إلى الأعلى فسحب جثته المغطاة بالريش الأصفر من هناك وألقاها في القمامة ووضع في القفص ملك دولة مجاورة كان يجهر في شتمه كون ذلك لا يشكل خطرا على الفرد بل على العكس يعتبر واحدا من أركان الوطنية المتعارف عليها في البلد.