الناس نيوز
لم تثر وفاة نائب السوري الأسبق عبد الحليم خدام كثيرا من الضجة الإعلامية، فالحكومة السورية وإعلامها تجاهلا الحادثة كلية، كأن الرجل لم يكن جزءا أساسيا من النظام السوري. وأيضا تجاهلت الوفاة المعارضة السورية وكأنها لم تتمسح بأهداب الرجل حين كان واعدا أو موعودا بالعودة على دمشق كالرئيس المخلص. ولم يأبه السوريون العاديون له وهم مشغولون بالقصف والتهجير والوباء الجديد الذي يثير ليس رعبهم فحسب بل ورعب كبار قادة العالم.
ومع ذلك لفتت وفاته عددا من المعلقين الصحفيين فكتبوا جملة من الأعمدة والمقالات التي اتفقت في معظمها على أن نائب الرئيس مات ميتة غير لائقة بسياسي لعب دورا على مدى عقود في حياة سوريا ولبنان والمنطقة عموما.
وكتب المعلق اللبناني حازم صاغية بمقالة في جريدة الشرق الأوسط اللندنية رأى فيها ان اسم عبد الحليم خدام ارتبط دائما بكلمة «الملف». فنائب الرئيس السوري السابق هو، في وصف الصحافة اللبنانية المتعجل والتلخيصي، مَن عهد إليه حافظ الأسد بـ «الملف اللبناني». وينبهنا الكاتب «الملف اللبناني» المقصود لا يعني سوى “إدارة النزاعات بما يجعلها أصعب على الحل، وحمل اللبنانيين على التكيف مع أوضاع يصعب على الفرد الحر أن يتكيف معها.”
ولا يفوت من يراجع تاريخنا الحديث، يضيف صاغية، أن يلاحظ محطة بارزة، إن لم تكن تأسيسية، في مسيرة الملف: إنها عهد حافظ الأسد المديد (1970– 2000) الذي حُولت فيه، وللمرة الأولى، منطقة المشرق العربي وشعوبها إلى «ملفات»: ملف لبناني، وآخر فلسطيني، وثالث عراقي، وهكذا دواليك.
هذا التحويل كان بالطبع ضرورة حيوية لبقاء النظام المذكور، وتحول سيده إلى «كبير اللاعبين» في الشرق الأوسط. زمع ذلك ينسى اللبنانيون – بالنسبة لصاغية – أنهم “هم أنفسهم، صاروا ملفاً: حياتهم وموتهم وحرياتهم واقتصادهم وصحتهم وتعليم أبنائهم… كلها صارت إضبارة كبرى يتحكم بها عبد الحليم خدام. وما دام ‘الملف’ قاموسياً هو ‘اللحاف الذي يُلتَف به’، غدت فكرة الإحاطة والسيطرة ملازِمة لـ ‘الملف’. لقد تم «لَفنا»، أي توضيبنا.”
ويتابع الكاتب أن “هذا الإفساد المعمم اتخذ أشكالاً كثيرة أخرى: فخدام المعهود له بـ الملف؛ بل بـ«الملفات»، لم يلقَ من ساسة وصحافيين كثيرين إلا المبالغة في إبداء الزلفى، فحين كانوا يذكرونه كانوا يغنجونه بـ أبو جمال؛ حيث توحي الكنية إنشاء صلة ما بمن يمسك بالملف. هكذا بات الملفوف مولعاً بمن لفه، متوهماً أنه يرفع كعبه حين يخاطبه بـ أبو جمال، ساهياً عن أن هذا التواصل كله إنما يحصل تحت خط الكعب.”
وأهم من ذلك كله، يقول صاغية، أن الممسك بـ«ملفات» الخارج لم يصدر عن داخل مشهود له بالنجاح أو بحسن إدارة المجتمع. وما تعيشه سوريا منذ عقد هو من ثمار الآلة التي كان خدام واحداً من مساميرها.
ثم يخلص إلى نتيجة مؤسية: “ولئن لم ينتبه لبنانيون كثيرون إلى أنهم صاروا «ملفاً»، تماماً كما لم ينتبه سوريون كثيرون إلى أنهم صاروا «قطراً»، فإن «سيادة النائب» ظل، حتى 2005، بين الأكثر ولاء لهذا الخط التأديبي والأشد حماسة في تطبيقه. ولا تكفي 15 سنة في قصر باريسي لمحو 42 سنة من النشاط «القومي» لجعلنا مجموعة من «الملفات».”
***
مقاول النفايات
أما الكاتب السوري صادق عبد الرحمن فنشر في موقع الجمهورية الذي يشرف عليه الباحث السوري ياسين الحاج صالح تقريرا مطولا بعنوان “ما لا نعرفه عن عبد الحليم خدّام”.
وقال عبد الرحمن في تقريره إن المؤكذ أن انشقاق خدام ل يكن لسباب مبدئية بقدر ما كان بسبب تراجع موقعه السياسي وحصته من النهب الاقتصادي لصالح صعود المخلوفية.
وبينما ذكر الكاتب بدور خدام المعروف في لبنان، لم ينس دوره في الثمانينات كمقاول “لتصريف النفايات النووية برتبة نائب لرئيس الجمهورية، وهي مهنة تتطلب براعة استثنائية بدورها؛ تحتاج أن يكون المرء مجرماً، وأن يكون قادراً على تفريغ النفايات النووية في موانئ بلده ثم نقلها ودفنها كيفما اتفق، دون أن يجرؤ أحد مُساءلته. وهو ما قام به خدّام فعلاً عام 1987، إذ أنه بالتعاون مع رجل الأعمال السوري محمد طبالو قد رتبّ استقبال شحنة نفايات نووية عبر ميناء طرطوس، تم نقلها كي تُدفَنَ في مواقع في بادية تدمر. وقد عرف سوريون كُثُر بهذه القضية، وتداولوا الحديث بشأنها على نحو هامس، إلى أن تحدَّثَ عنها نزار نيوف عبر قناة الجزيرة عام 2001، فصارت حديث كل بيت في سوريا. لا نعرف من هم المتورطون الآخرون مع خدّام وطبالو في هذه الجريمة، لكن أمراً كهذا ما كان يمكن أن يمرّ دون لمسة شخص واحد على الأقل من عائلة الأسد. لم يتم فتح أي تحقيق في المسألة، باستثناء التحقيق مع نيوف نفسه ومقاضاته لنشر معلومات كاذبة، أما السوريون الذي أصيبوا بالسرطان، أو أنجبوا أطفالاً بعيوب خلقية، نتيجة عدم اتبّاع الإجراءات التي ينبغي اتّباعها عند التخلص من النفايات النووية، فلم يكن ثمة عزاء لهم.”
***
لم يرثه أحد
وبعنوان “كيف ينظر السوريون إلى عبد الحليم خدام” نشر الكاتب السوري وائل السوّاح مقالة في جريدة العربي الجديد اللندنية قال فيه إن عبد الحليم خدام “لم يمت كرجل دولة، ولا كسياسي معارض معتقل وهارب من بطش نظام بلده، بل ذوى شيئا فشيئا وزال عنه بريقه، ثمّ غاب عن الذاكرة في غياهب النسيان. وجاء تفشي جائحة كوفيد-19 ليقلّل من عدد مشيعي خدام، ما سيجعل جنازة الرجل أكثر تفاهة وضآلة.”
وأضاف أن “مأساة خدام أنه خسر الدنيا ولم يكسب الآخرة، خسر مركز قوّته ودوره في النظام السوري، ولم يكسب تعاطف السوريين ولا قواهم المعارضة. والسبب أنه تعامل مع السوريين بعد انشقاقه كما كان يتعامل معهم حين كان في السلطة. لم ينظر إليهم أبدا كأنداد، كذَوَات، كمواطنين، بل كأرقام، كقطيع من المؤيدين. ولذلك لفظه النظام كنواة بلح، ولم يحتضنه الشعب كمنقذ أو مخلّص أو حتى معبّر عن بعض تطلعاتهم.”
وذكر الكاتب بالحرب التي شنها خدام على المعارضة السورية من مدرج جامعة دمشق قبل سنوات قليلة من انشقاقه، وبموقف الأخير من الانتفاضة السورية التي لم يحاول خدام أن يستفيد منها فيقدّم “نقدا ذاتيا لنفسه ولحزبه ولنظامه، ويمدّ للمنتفضين يدا صادقة، وإنما حاول أن يلعب على الوتر الطائفي البغيض، ما جعل المنتفضين الشباب لا يلتفتون إليه ولا يأبهون له.”
لذلك كلّه، استنتج المعلق السوري، “مات خدام وحيدا ومعزولا وكئيبا. لم يعلن الحدادَ عليه أحد من السوريين، فلا النظام نعاه، ولا المعارضة رثته، ولا السوريون المحبوسون في بيوتهم بسبب الخوف من الوباء والخوف من القصف شعروا نحوه بأي نوع من العطف أو الرثاء، فلم يترحّم عليه أحد.”