فاديا دلاّ – الناس :
كوّنت لواء يازجي نفسها من خلطة ثقافية خاصة بها، تتداخل فيها روح القصيدة وشفافية الصورة وجنون الممثل وغيرة المترجم …وتغيب معهم وبهم كلهم كل يوم لتعود كل صباح لتستعيدهم جميعاً في خصوصيتها التي تضج بالحركة والفعل الإبداعي …
من بوابة المعهد العالي للفنون المسرحية خرجت لتقصّ لنا سيرتها مع المسرح ومع أشياء أخرى …
وربما وجدنا فرصة الإعلان عن بدء تصوير عملها التلفزيوني الجديد قيد مجهول للحديث معها في هذه الفسحة وضمن فضاءات مختلفة من الإبداع..
تنقلت بين كتابة المسرح، كتابة الشعر وكتابة الدراما التلفزيونية وإخراج الأفلام السينمائية، أيضاً الترجمة ، أيّهم أقرب إلى قلبك ومزاجك الإبداعي؟
لكل نوع من الأنواع التي ذكرتها مكانة خاصة لدي، أظن هذا هو الجواب المتوقع.. لكن هذه هي الحقيقة أيضا، فعندما تخطر ببالي فكرة ما قلما يتباطأ النوع الفني بمرافقتها مباشرة. فالقصيدة لا يمكن أن تكون إلا قصيدة حتى لو تسربت روحا في نوع فني آخر، ربما من الأسهل الخلط بين الأنواع الأدبية والبصرية الأخرى -لا سيما أننا حالياً أمام زمن الحدود المفتوحة والاحتمالات والتجارب المنفلتة من التسميات… الأمر الذي يشكل بالطبع تحدياً أكبر للفنان وللمتلقي، فمن الأسهل أن يكون للمنتَج الفني عناوين واضحة تسهل عملية التلقي والنقد ضمن الإطار المتعارف عليه. لكن أظن أنه من الممتع أيضاً أن نمسك بخيط الشعر ونحن نتابع فيلماً وأن تتسرب المسرحية حيث لا يتوقع لها ذلك.
يمكنني رغم ذلك القول إن الشعر هو المنبع بالنسبة لي، قد يكون ذلك صعباً في نص تلفزيوني على الأغلب لكنه ليس مستحيلا كذلك. النظرة الشعرية هي أساس – بالنسبة لي- خزان الصور والكلمات التي تتجمع ببطء، هي ما يحول المعاش اليومي لمادة تستحق الكتابة والتصوير. وقد يبدو وصفي لهذه العلاقة مبالغاً به عند مقاربة هذا الكلام بما أنشره من شعر لكن الحقيقة هي أني”أكدّس” وأخمّر المسودات الشعرية كثيرا قبل أن أتجرأ على إقرار انتهائها ومشاركتها مع قراء مقربين فما بالك بالنشر!
بالنسبة للترجمة، أنا لست مترجمة بالمعنى “الاختصاصي” للكلمة، لكنني في كثير من الأحيان أقع في هوى نصوص أشعر حيالها بالمسؤولية والحب الكافي لتقديمها لشريحة أوسع من القراء. ربما في بعض الأحيان هي رغبة دفينة بكتابة ذلك النص مجددا بالعربية… أن تُخلق تلك الكلمات والمعاني بلغتي. أتمنى لو لدي الوقت الكافي لترجمة الكثير من دواوين الشعر والنصوص المسرحية التي أظن أنها حتى على المستوى التعليمي ( وهنا أتكلم عن المسرح) مهمة لتوسيع مكتبتنا الأكاديمية المتباطئة في نقل آخر ما وصلت إليه الكتابة المسرحية الجديدة. وهنا العتب يمتد للمؤسسات والجهات الممولة وليس على المترجمين والأفراد الذين يسعون جاهدين لتخطي محددات الرقابة والتمويل.
لا يمكنني أن أحدد نفسي بنوع واحد، ولا أجد سبباً لذلك أصلاً غير بعض الأمثال الشعبية.. لكن سيرة الكثير من المبدعين تؤكد لي أنه يمكن للمرء أن يرسم عصفوراً ويمزق طرف الورقة ليتركه يطير..
لديك تجربة تمثيل وحيدة هل هذا يعني أن هذا المجال لم يرق لك؟
أولاً تنقصني الكثير من الأدوات لأقول إنني ممثلة بالطبع، ولكن قلة الإنتاج السينمائي كانت السبب الرئيسي وراء “فردانية” التجربة.. إذ يستوهيني التمثيل السينمائي أكثر منه التلفزيوني وطبعاً هذا ليس بحكم قيمة وإنما تعبير شخصي عن الأهواء. وأظن ربما تشاركني الكثيرات والكثيرين هذا الهوى لو كان للإنتاج السينمائي كثافة مرضية. تلقيت بعض العروض للمشاركة في أفلام سينمائية لم تكن مقنعة أحياناً وفي أحيان أخرى لم يكن الظرف ولا التوقيت سانحاً.. لكن الرغبة موجودة ويمكن لاجتماع الظروف المناسبة أن تحييها. شكرا عبد اللطيف عبد الحميد، لا بد من قولها في هذا السياق.
كيف كانت دوافعك عندما أنتجت فيلمك الأول (مسكون)..بل ما هي الصعوبات التي واجهتها في إنتاجه داخل سوريا؟
الأسئلة الشخصية الملّحة بالرحيل، كل ما كان يدور في رأسي ورأس كل شخص أعرفه ولا أعرفه… تلك الحقائب الاحتياطية والافتراضية التي حضرها البعض، وتلك الحقائب التي لم يتسن للبعض الآخر أن يحضرها… الصور الفوتوغرافية المتروكة للأبد… التي اختفت.. أشياؤنا التي هي نحن أحياناً، هي سيرتنا.. بيوتنا كل ما نملك أو ما لم نملك.. أهالينا الذين انتظروها لتكتمل وتركوها لتختفي… كان الفيلم محاولة لمعرفة الجواب، ما يختاره الآخرون وهل كلمة “الخيار” هنا إرادية.. وهل الخيار الإجباري خيار أصلاً!
صعوبات إنتاج الفيلم كثيرة.. توقيت الإنتاج، مصادر التمويل وتأمين احتياجات التصوير، أريحية الحديث أمام كاميرا في ظل تلك الظروف.. كثيرة كثيرة هي الصعوبات، ربما لم يكن هناك سوى الصعوبة والرغبة الحقيقية لمتابعة العمل، وشجاعة الشخصيات وإيمانهم.. عدا ذلك كان كل شيء صعبا ومستحيل التحقيق.
كل مشاهدة للفيلم تضيف ملاحظة لما كان يجب أن أقوم به، وكيف كان يمكن أن يكون الفيلم أفضل. لكن من الجيد أن لا مدخل لي الآن لعالمه المغلق على نفسه.
لقد حقق الفيلم سيرة حياة مرضية حتى الآن، أجده خطوة أولى إيجابية، ودافعاً مهماً للمتابعة، والنقاشات التي دارت حوله وبعد عرضه مع الجمهور ستشكل على الدوام حافزاً لليالي الإحساس بلا جدوى ما نقوم به أمام طاحونة الموت والحرب وقلة الحيلة أمام ما وصلت إليه الحال في سوريا والشتات… وأمام حملات تقييم الأعمال الفنية كأنها مانيفستو سياسي فقط وليس عملا فنياً … تلك المفرزات الطبيعية للفن المترافق مع الأزمات الكبرى.
تلك النقاشات التي رافقت الفيلم أكدت في عديد المرات أن هذا ما علي أن أقوم به وهذا هو دوري الأساسي في ما يجري.
ماهي التحديات التي تواجهينها الآن في إنتاجك الإبداعي بشكل عام ؟
هل لديك محظورات في إنتاجاتك الإبداعية عموماً..؟
استمتع بكتابة السيناريو فعلا، ببناء الأحداث في فراغ كأنه مجسم هندسي فراغي تتلاقى فيه الخطوط وتتضح فيه المعاني مع مرور الوقت. بالطبع الكتابة التلفزيونية لها بعد “مالي” مريح لا يمكن إنكاره، لكن هذا لا يمكن اعتباره فقط محفزاً بقدر ما هو محدد من محددات تلك الكتابة. للكتابة التلفزيونية أيد وأرجل تتجاوز ” ما نريد أن نكتبه وكيف نريد أن نقول ما نريد قوله” فالسوق، وجهات الإنتاج وجهات العرض، والمعلن.. وجارتي.. وعمتي.. وصهر جارتي وصاحب الدكان.. ربما كلهم عوامل لابد من أخذها بعين الاعتبار.. كل ذلك على هامش متابعة أين وصل النص التلفزيوني والمسلسل التلفزيوني على المستوى العالمي الذي أعتبره هو المعيار والعتبة التي يجب الحياكة حولها.
أتوقف هنا لأسألك بشكل مباشر عن (مسلسل الأخوة ) إلى أي حدّ ينتمي لمشروعك ككاتبة محترفة ؟
بالنسبة لمسلسل الأخوة.. إنه مسلسل طُلب منّا العمل عليه من جهة الإنتاج وبالطبع لم يكن مشروعاً شخصياً. كان لدى المنتج “فورمات” معين ويريد إنتاج مسلسل عربي مقارب لهذا الـ “فورمات” وتم استكتابنا بشكل واضح. كان النوع التلفزيوني المطلوب “السوب أوبرا” يشكل لي ولشريكي في الكتابة محمد أبو لبن تحدياً كبيراً.. فنحن أولا لسنا من هواة هذا النوع وثانياً لم يسبق لنا أن عملنا على نص “سوب أوبرا” من قبل. قمنا بالتحضير له دون استخفاف، قرأنا عنه وعن أسباب نجاحه وما يدفع الجمهور العريض لمتابعته والتعلق به وأظن النتيجة التي ظهرت على الشاشات كانت تماما هي المطلوب من هذا النوع. إنه نوع لا يحضّ على التفكير ولا على تقديم مقولات، وأرى أن النجاح الذي حققه مسلسل الأخوة كان مشابهاً لما يجب أن يكون عليه مسلسل الـ “سوب أوبرا” الناجح. هذا هو تقييمي للتجربة بكل بساطة، أنا لا أتبنى النوع لكنني لا أستخف بالتجربة ولا بما قمنا به. فالمسلسل حقق شرطه الفني، ولأننا لم نستخف بصعوبة المهمة كان لدينا ككتاب مهام وقراءات ومراجعات جعلت من فترة كتابته المتعبة- فنحن نتحدث عن ما يقارب 120 حلقة! ممتعة ومفيدة لنا أيضاً، فهو أيضاً امتحان لاحترافية كاتب السيناريو وقدرته على التنويع.
كيف يؤثر فيك فعل الكتابة..ماذا تفعل الكلمة بعوالمك وكيف تعيد تشكيلك ككاتبة …كإنسانة ..حالة التأثير والتأثر ..يعيشها الكاتب في تفاصيل نصه..كيف تصفين هذا الأمر معك ؟
في مسرحية “ماعز” التي قدمتها في مسرح الرويال كورت في لندن عام 2017.. شخصية أبو فراس في نهاية أحد المشاهد يعرف حقيقة استشهاد ابنه فراس ويحاول بناء على ذلك إنقاذ شاب آخر من الموت.. ينده له ليهرب ثم تختلط عليه الكلمات ويبدأ بالصراخ لابنه كي يهرب..
كلما وصلت لكتابة هذا المقطع كنت أتوقف وأبكي. ولا أتمكن من المتابعة.
هذا ما انعكس على الورق.. وعلى الخشبة لاحقاً..
( مازحةً) “وبكى المشاهدون جميعاً.. والمحافظ ووزير الداخلية وأنا عيّط” على حد تعبير الفنان عادل امام ..!
طبعاً تؤثر في الكتابة… كلها، والأفلام… كل مشروع أقوم به هو نتاج تأثري به ومعايشتي له.. واختباره على مستوى شخصي. أتمنى أن يكون له تأثير على المتلقي، فهذا أمر لابد من مساءلته على الدوام، لكنه ليس شرطاً لأتابع ما أقوم به. وإلا تشككي سيوقف ما أقوم به.
ككاتبة.. هل كان لديك وجهة نظر محددة مما يجري في بلدك سوريا ؟
كأي شخص آخر، حتى بعيداً عن الثقافة والإبداع، لدي وجهة نظر لما يجري وما جرى.. لدي معتقداتي وأخلاقياتي وأولوياتي.. وقدرة أخلاقية “موضوعية أو مشخصنة” على تحديد الجاني والضحية، لكن لا يمكن لي أن أقول إنني أعرف كل ما يجري وما جرى، لا أملك الحقيقة… كل ما أملكه – حسب ما أتمنى- هو حسّ أخلاقي وحدس يحاول فكّ طلاسم الأخبار اليومية القادمة من أرض الواقع وبلاد العجائب.
منذ فترة قريبة علمنا عن بدء تصوير مسلسل بعنوان “قيد مجهول” إذا أردناه قيد معلوم من خلال ما ستخبرينا عنه …ما العوالم التي يجول في تفاصيلها ؟
المسلسل هو تتمة لمشروع ورشة الكتابة التلفزيونية مع الكاتب محمد أبو لبن، “قيد مجهول” من إنتاج شركة iProduction محمد مشيش ومن إخراج سدير مسعود. المسلسل miniseries مؤلف من 8 حلقات ليتم عرضه على منصات العرض الإلكترونية. وكون المسلسل مسلسل تشويق وإثارة سأكتفي بالقول عن حكايته”مش حتقدر تغمض عينيك!” كما نتمنى كفريق عمل.
أنا لست ماهرة في طرح كلمات أول وأفضل وأقصر… لكن عرفت مع مسار العمل أنه أول مسلسل سوري يعرض على المنصات الإلكترونية، سوري الحكاية والكوادر… علها فاتحة خير.
هي تجربة العمل الأولى لنا مع المنتج محمد مشيش وكانت بمثابة شراكة حقيقية، فمن المفيد التعامل مع منتج مطّلع على الإنتاج التلفزيوني العالمي وصاحب معايير جودة عالية وخيارات فنية مغامرة، أتمنى أن تكون بداية لشراكة تشهد استمراراً وتطوراً، فنحن نتفق على جودة وجدية ما آلت له صناعة التلفزيون العالمية والتي بدأت تسحب كثيراً من عناصر السينما وكوادرها عالمياً. وكذلك أنا متفائلة وسعيدة بالتعرف على مخرج واعد ومجتهد مثل سدير مسعود الذي كان هو الآخر شريكاً حساساً ووفيا للنص، وصاحب رؤية إخراجية أضافت للنص وأضفت عليه حيوية حسية وبصرية خاصة.
وصلني وأنا في ألمانيا أن الممثلين الأصدقاء كانوا مستمتعين – رغم كل الصعوبات- أثناء تصوير المسلسل، وكذلك الكادر الإبداعي والفني، وهذا أمر مسرّ للغاية. أتمنى أن تكون تجربة ممتعة لهم أيضاً وأشكرهم على العمل في ظروف الجائحة هذه ، وغيرها من الجوائح التي ألمت بهم ريثما انتهوا من تصوير العمل.
ماذا عن المستقبل والطموح كيف تنظرين إليه وماذا تفعلين من أجله؟
أتمنى أن يتسع الوقت والظروف لكل تلك المشاريع الأفكار لترى النور والهواء ولا تظل تنظر لي بعينين مفتوحتين كالتماثيل البابلية.
المستقبل هو اليوم، وكان البارحة وسيكون غداً أيضاً..
وأنا مسكونة بمشاريعي، وبأفكاري المتناقضة.. وبسعادة قضاء وقت مع ابنتي الصغيرة ماشا التي تُغنّي وتمزّق كل الأوراق لنلعب بها.