حكيم مرزوقي – الناس نيوز :
لا يختلف اثنان في أن كل عمليات القرصنة والتفجير واستهداف السفن والناقلات البحرية في مياه الخليج بالأيام الأخيرة، تحمل بصمات إيرانية في عمليات استفزاز مستمرة، اختير لها التوقيت بعناية، وكان آخرها ما حدث شمال بحر عمان.
وتهدف هذه الاستفزازات الإيرانية إلى إيصال رسالة مزدوجة الاتجاه : نسخة نحو الداخل لامتصاص الغضب وتخفيض الاحتقان وتصدير الأزمة بعد انتفاضة الأحواز، وأخرى نحو الخارج للضغط نحو رفع العقوبات واستعادة الاتفاق النووي في شكله السابق، والذي سحب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بلاده منه العام 2018، فيما تخلت إيران تدريجياً عن التزاماتها في إطاره.
ليس اعتباطا أن يتزامن هذا التصعيد الإيراني مع حفل تنصيب إبراهيم رئيسي، المتشدد الذي يدين بحياته المهنية وشرعيته السياسية للمرشد الأعلى علي خامنئي، منذ ضلوعه العام 1988في جرائم قتل وتصفية معارضين من حركة مجاهدي خلق.
ومهما يكن من أمر فإن نظام الملالي في طهران لا يحتاج إلى البحث عن مناسبة أو ذريعة لتبرير سلوكه العدواني في المنطقة، ظنا منه أنه يؤكد بذلك حضوره كقوة إقليمية ينبغي أن تهاب ويحسب لها ألف حساب على طاولات المفاوضات، في حين أنه يزيد من الهوة بينه وبين المجتمع الدولي من جهة، وبينه وبين شعبه الذي يزداد فقراً وبؤساً وغضباً مما أوصله إليه حكامه من جهة ثانية.
السياسة الإيرانية التي تتسم “بالعنف والإرهاب ” ضد جيرانها تستند إلى عقيدة مبنية على الأوهام والمغالطات التي تحشو بها رؤوس أتباعها وأذرعها العسكرية في اليمن ولبنان والعراق وبعض جيوبها في المنطقة. وتمكّن هذه الأيديولوجيا الحاقدة حكام طهران من قضم ثروات تلك البلاد مقابل التسليح الدائم للمليشيات الموالية وزعزعة الاستقرار في المنطقة عبر إشعال نار الفتنة والاقتتال الداخلي.
نموذج الدولة المستقرة هو العدو اللدود للنظام الإيراني، لذلك تسعى دولة ولاية الفقيه إلى الاستفادة من حالة الدولة الفاشلة سلفاً أو الإمساك بدولة ما، ومن ثم التعهد بإفشالها. وهذا ما حصل مع لبنان وسوريا واليمن والعراق.. ويحصل الآن مع أفغانستان بعد خروج القوات الأميركية، إذ تسعى لموقع قدم عبر احتضان جماعة طالبان كما فعلت من قبل مع بعض قيادات داعش التي ثبت تورطها معها رغم ادعائها ببطلان ذلك.
كأن إيران دولة وجدت لتعبئة الفراغات والانتعاش من الأزمات، فحيثما مرت عصابات الحرس الثوري حل الدمار وسالت دماء الأبرياء ودموع الأرامل، لذلك كان قتل الأميركيين لقائد فيلق القدس في هذا التنظيم الإرهابي الخطير قاسم سليماني، في 3يناير/كانون الثاني 2020 بالقرب من مطار بغداد، بمثابة الضربة الوقائية التي لا بد منها، والتي ستنجر عنها سلسلة من ردات الفعل الإيرانية مازلنا نعيشها اليوم، لما للرجل من هالة تقديسية في المؤسسة الاستخبارية الإيرانية، وفي صفوف أتباعه ومريديه.
ولأن السياسة الإيرانية مبنية على ذهنية الثأر، فإن النشاط الإرهابي لنظام طهران يبرر في كل مرة فعلته على أنها جاءت انتقاما لتعد سابق مثلما قال الإعلام الرسمي الإيراني أخيراً، بأن استهداف السفينة الإسرائيلية جاء نتيجة الغارة التي استهدفت قواتها في مطار الضبعة بمنطقة القصير في سوريا.
ردود الفعل المزعومة هذه، لم تأتِ مرة واحدة على الأراضي أو المياه الإقليمية الإسرائيلية، بل في مناطق دولية وضد أهداف غير عسكرية، ما يوسع دائرة المشكلة ويشتت انتباه العالم في آن معا.
تأتي ألاعيب واستعراضات إيران لعضلاتها في خليج عمان في الوقت الذي تتلقى فيه الضربة تلو الأخرى على أراضيها وفي صلب مؤسساتها الأمنية ومنشآتها النووية، عن طريق مجندين في الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، فلماذا “تتشاطر” وتستقوي إيران على شعوب متعبة ومنهكة في لبنان وسوريا واليمن، وتجعلها بمثابة الدروع البشرية.
تتلقى هذه الدول المستضعفة الضربات والعقوبات وتعاني الأزمات والكوارث بسبب ما تفعله إيران على أراضيها عن طريق عملائها ومجنديها مثل ميليشيات الحشد الشيعي في العراق، الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان الذي يحيي الذكرى الأولى لمأساة انفجار ميناء بيروت، وعلاقته بالجهة المستفيدة من تخزين نترات الأمونيوم المستخدمة في تصنيع العبوات الناسفة، وكذلك الأسماء المتسترة على هذه القضية ضمن الدولة المرتهنة لإيران وميليشياتها المعربدة في المنطقة.
محاولات التغلغل الإيراني داخل العالم العربي لا تقتصر على الدول التي أنشأت فيها ميليشيات صريحة تأتمر الحكومات بإمرتها وترهب كل من يسأل عن غياب الدولة بل تعدتها إلى دول خليجية مثل السعودية والإمارات والبحرين، لكن قادة وحكومات هذه البلدان تمكنوا من التصدي لهذه الأطماع عبر حالة من اليقظة الدائمة صنعها تنسيق أمني وسياسي، ودعّمها وعي اجتماعي وتاريخي بضرورة التصدي إلى ثقافة عنصرية وطائفية وافدة على المنطقة.
لم تتوقف الأطماع الإيرانية على دول المنطقة بل تعدتها إلى مصر ودول المغرب العربي، ففي مصر مازلنا نتذكر زيارة أحمدي نجاد أيام حكم الإخوان عام 2013، وكيف رافقها زخم إعلامي كبير من قبل إيران يستنطق المشاعر الدينية ويستنهض حب بسطاء المصريين لآل البيت في سبيل التسويق لنظام ولاية الفقيه.
أما في المغرب العربي فلقد استغل النظام الإيراني حالة فوضى الحريات التي أعقبت 14يناير 2011 في تونس لأجل دعم أحزاب تقول بأنها شيعية وتحاول محاكاة حزب الله اللبناني، لكن سرعان ما انطفأت تلك المحاولات ووئدت في مهدها لانعدام مبررات وجودها.
ويذكر أن العلاقات كانت قد وصلت إلى الانقطاع التام في ثمانينات القرن الماضي حين اتهم الزعيم بورقيبة إيران بدعم القوى الدينية والإسلامية في البلاد ومحاولتها تصدير الثورة الخمينية، أما في الجزائر فلا تزال حركات التشيع نشطة على وتيرة عالية وقد أعطاها التقارب السياسي بين البلدين نوعاً من الضوء الأخضر، لكن التباعد الجغرافي والطبيعة المجتمعية للمنطقة المتمسكة بالمذهب السني المالكي في أغلبها، منحها نوعاً من الحصانة رغم السعي الإيراني الحثيث على التغلغل في الساحل الأفريقي واستمالة قادة الإسلام السياسي هناك.
“العربدة ” الإيرانية اليوم في المنطقة أشبه بحالة ذلك ” البلطجي” ( فترة الحارة أو المافيا ) الخارج عن القانون وهو يرهب المارة في حارته، لكنه لا يتجرأ على المضي بعيداً.. وسوف تكون أسرته هي أول من يبلّغ عنه رجال الشرطة.