ميشيل سيروب – الناس نيوز :
رواية ثرية عن يوميات حلب، حكايات تُناجي الأمل تنتهي نهايات درامية لعائلة”فردوسة” القادمة من تخوم الجزيرة السورية، تتشظى العائلة بعد استقرار مؤقت في مكان لم يصلح كوطن بديل بعد هجرة قسرية. الرواية تلامس فترة الانتداب الفرنسي، ثُم تركز على مرحلة الاستقلال والتغييرات الحاصلة في بنية العائلة الحلبية مروراً بمرحلة الانقلابات حتى نهاية السبعينيات من القرن المُنصرم.
تندرج رواية”روائح عنبرية” كنوع أدبي من أنواع أدب السرد والتداعي اللاشعوري في وصف العائلة والمرأة والأمكنة والمهن والأذواق ومواد عطرية، والوقوف على أطلال شريان الحياة لمدينة حلب آنذاك: نهر قويق، النهر الذين كان جزءاً من ذاكرة الناس ومحور أحاديثهم ومُسامراتهم وخلافاتهم وآلامهم.
تُصيب لعنة الهجرة عائلة”فردوسة” وتتشتت في المدن المدارية وتتقطع أوصالهم في جهات مُختلفة: سلمى تتزوج للأرجنتين، المُهلب يُسافر لبيروت بعد تعثر حرفة المشغولات القطنية، الحارث يُهاجر إلى فنزويلا وذلك للخوف من سوق أبنائه للخدمة العسكرية.
مدينة حلب، مدينة أممية بامتياز. ليس من السهل تكثيف حياة عشرات الشخصيات في لوحات مُنفصلة تنسجُرواية عن الحنين، تدور أحداثها على مدار عقود من الزمن(الأحداث في الرواية تتوقف عند تخوم السبعينيات من القرن المنصرم.).تَعبرُ الرواية مطبات وسهوب القرن الأكثر إثارة على مدار التاريخ على جانبي النهر: في العزيزية، وباب الفرج، والصيرفة، والزراعة، ومحطة بغداد. في القرن العشرين: انزاحت السلطنة العثمانية، نهضتْ أمم وعانتْ شعوب من المجازر والاضطهاد،استوطنتْ روح تلك الشعوب بفضل التآخي والعيش المشترك في مدينة شرق أوسطية والتي كانت مسرحاً لأحداث دامية ومثيرة ذات يوم. يرصد الكاتب في الرواية حياة الأرمن ومختلف مكونات المجتمع الحلبي، حيثُ يَغلب على المَشاهد الطابع الإنساني والحزن في صيرورة الشخصيات ومعاناتهم.
تختلط رائحة القرفة وجوزة الطيب وحبة البركة والشمرا كروائح عطرية في طعام الأسرة، كما تستقر تلك العطورفوق شفتي الطفل وهو أحد ضحايا الرواية في مشهد درامي مؤلم، يسأل الطفل رفاقه في غيبوبة الموت وهو يغرق: لماذا تركتموني!! صورة من صور الموت العبثي الذي تكرر على جانبي نهر قويق منذ أن شُيدتْ المدينة الأقدم في التاريخ.
اللغة في مدينة الشهباء، حصيلةُ تفاعلاتٍ بعيدة في الزمن وعميقة في الأرض، إنها لحن الخلود… لها أجنحة، هي ضد الجغرافيا، وعنوانٌ للتآخي. أما الخمرة فهي بوابة السمِّيع الحلبي بتفتح الروح نحو القدودوالأندلسيات والموشحات لإحياء تُراث قرطبة.
بتفكيك النص بمراقبة سلوك الشخصيات، تبدو التفسيرات المادية، عاجزة عن فهم الواقع وصراعاته. هُناك ارتداد إلى الماورائيات والارتماء في أحضان الحواسوالتخمينات العاجزة أصلاً عن شرح الوقائع والأحداث. هل هو اعتراف من الروائي بعجز الفكر المادي بتقديم تفسيرات منطقية للمنعكسات السياسية-الاجتماعية لمدينة حلب ومكوناتها؟
يعود البكاء والنحيب إلى جنبات المدينة في ستينيات وسبعينيات القرن المُنصرم، يعود البكاء استعداداً للزمن الآتي والقاتم، حاملاً سمات الماضي بحتميِّة المجاعات والمنافي. تشهد حلب أوسع هجرة مسيحية سريانية وأرمنية معاكسة إلى الخارج، تتبعثر العائلات، وتتمزق الروابط الاجتماعية، وتتبخر الأحلام في الوطن البديل.هل فقدت حلب خصوصيتها بعد أن توطدت السلطة للانقلابيين؟ يستعين عزيز تبسي بأدوات الكوميديا السوداء للاستهزاء من تلك السلطة ومن بطولاتها الدونكيشوتية. المطربة كروان تُهدد شاهرةً سيفها بوجه العدو، والمُذيعان مهران يوسف وخلدون المالح يتوعدان العدو وكل من يُسانده، ثُمَّ تستقر البلاد على حالة اللاحرب واللاسلم بعد أن بُحت حناجر القيادة وهي تهتف : الغضب الساطعُ آتٍ.
المرأة ونمط الحياة الأمريكية
المرأة مرآة المجتمع، وجمال المدينة من حضورها وعطرها وموسيقاها. ما المكانة التي حازت عليها المرأة؟ أمحافظةٌ هي أم مُتحررة؟ يرصد الروائي عزيز تبسي ازدياد عدد السيارات الفارهة في شوارع حلب وهو مؤشر على تنامي الثراء غير المشروع والفساد المُنظم. ويُراقب كثرة محلات العطور والألبسة الفاخرة المستوردة النسائية والرياضية وتناول الوجبات السريعة في المطاعم كنوع من رفعة المنزلة والمكانة الاجتماعية واستبدال صابون الغار بالشامبو المستورد. يبدأ تدمير اقتصاد حلب في ميدان صناعة الألبسة والأغذية والمنظفات،ويحل النمط الاستهلاكي في جنبات المدينة.
أما بخصوص النساء فقد”وقعن في حيرة إيديولوجيا مفتعلة، كانت صدى لهستيريا دولية همجية، هل يلبسن الميني جيب أم المكسي جيب أم البنطال أم يتحجبن”ص115.
*روائح عنبرية صادرة عن دار الخيال في بيروت عام 2018. وهي الرواية الثانية للمؤلف. صدر للمؤلف أيضاًعن دار الفارابي في بيروت مجموعة قصصية بعنوان”يوم كل يوم”. عن دار الفارابي عام2015. عزيز تبسي من مواليد حلب عام 1962،كتب أبحاثاً في غير صحيفةعربية. رواية”روائح عنبرية” مُهداة لجميل حتمل(1956-1994)، جدير بالذكر بأن الأديب جميل حتمل يُمثل أيقونة لجيل مكسور في سوريا.