أحمد عزيز الحسين – الناس نيوز :
حـول مفهـومِ الكذِب
حينَ نزعمُ أنّ الأدبَ أو الشِّعرَ (كذِبٌ) فهذا يعني أنّه مُتخيَّلٌ قام كاتبُهُ باختلاقه، وإنشائه من العدم، وزعمَ أنّ وقائعه حدثتْ، أو يمكن أن تحدث، وللكذِبِ، هنا، مفهومٌ إبداعيٌّ لا مفهمومٌ أخلاقيٌّ، ومن يزعمُ أنّ (الكذبَ)، يتعارض مع (الحقيقةِ)، ويجانبُ (الصِّدقَ) في هذا السّياق فهو يخلط بين (علم النّصّ) الذي ينهض على التّخييل، و(علم الأخلاق) الذي يبحث في الأخلاق القيميّة التي تنصبّ على الأفعال الإنسانيّة، كما أنّه يطابِقُ بين مفهومٍ مُحدَّدٍ يُحِيلُ إلى الواقع الموضوعيّ ومفهومٍ آخر يُحِيلُ إلى الشّعريّة أوالتّخييل، وشتّانَ بين المصطلحين والمفهومين !!!
وحين نذهب إلى أنّ (أجملَ الأدبِ، أو الشِّعرِ، أكذبُهُ)، فنحنُ نعني أقدرَهُ على تشكيلِ واقعٍ تخيُّليٍّ، أوجماليّ، يوازي الواقعَ الموضوعيّ، ويقف على قدميه مستقلًّا عنه، ولا يحتاج إلى المطابَقة معه، أو التّماهي به لكي يُقنِعَ المتلقّي بصدقيّته، أو قدرته على الإقناع. ومثلُ هذا الأدبِ يُصنَعُ من الورق أو اللُّغة، كما يقول بارت وتودوروف، ويُكوِّنه الكاتبُ من الوقائع أوالعناصر المُتَخيَّلة التي يحتاج إليها لكي يكتملَ انفصالُهُ عن مرجعه المُتوَهَّم، وحين يتواصَلُ المتلقّي أوالنّاقدُ معه فينبغي أن يتنبّهَ إلى هذا الانفصال، ويعلمَ أنّ صدقيّته تكمنُ في داخله، أو في بنيتهِ الفنّيّةِ لا في واقعهِ المرجعيّ أو محيطه الخارجيّ، مع أنّ إدراكَ المتلقّي لواقعه الخارجيّ قد يُفِيد في فهمه، وإنْ كان لايُفِيد في تقييمه، أو الحُكْم عليه.
وما أكثرَ ما قُرِئ مثلُ هذا الأدبِ في ضوء اتّصالِهِ بواقعهِ الموضوعيّ، وحُكِم عليه في ضوء هذا الاتّصال، ونُظِرَ إلى الشّخصيّاتِ التي تتحرّك في فضائه على أنّها حقيقيّةٌ من لحمٍ ودمٍ، وليستْ مصنوعةً من الورق أو اللُّغة، وتمّتِ المطابقةُ بين بنيته المُتخيَّلةِ والبنية الواقعيّةِ التي يُوهِمُ بها، وخلُصَ المتلقّي، أو النّاقدُ الذي يقرؤه، إلى أنّ قيمته تكمنُ في ضوء (إحاليّته) إلى واقعه الموضوعيّ لا في ضوء انفصاله عنه.
أعـذبُ الشّعــر أكذبُـه
وقد ذاعت بين النّاس العبارةُ الشّهيرة التي تنصّ على أنّ (أعذبَ الشعر أكذبُه)، وقيل : إنّ قائلها هو زياد بن أبيه (634- 673) الذي كان يردّد: ” إنّ الشّعر كذبٌ وهزْلٌ، وأحقُّه بالتّفضيل أكذبُه”، واقتدى به في ذلك قدامة بن جعفر(873- 948) الذي فاضَل بين الصّدق والكذِب في الشِّعر، وقدّم الثّاني على الأوّل إدراكاً منه لأهميّته في كتابة النّصّ الشعريّ، وتبعهما حازم القرطاجنّي (1211- 1284) الذي جعل الكذبَ أداةً في صناعة الشّعر، وإن كان قد اشترط على الشّاعر أن يُلبِسه ثوب الصِّدق، ويُخفيه في ثنايا نصّه لكي يظهر بمظهر الصّادق. أمّا صدقي إسماعيل (1924- 1972) فقد ذهب إلى أنّ هذه العبارة لا تدلّ على احتفاء النّقد العربيّ بالكذب مقابل الصِّدق، كما يقول خلدون الشّمعة، بل تدلّ على أنّ الكذب هنا يعني التّعامُل مع الواقع بواسطة المُخيِّلة، أي (التّخييل)، وإن كان هو نفسه قد طابق بين الشّخصيّة الفنّيّة للشّاعر العربيّ وشخصيّته الاجتماعيّة والواقعيّة، وبين الـ(أنا الشّعريّة) و(الأنا الذّاتيّة الموضوعيّة) ورأى في بيت المتنبّي :
الخيلُ واللّيلُ والبيداءُ تعرفني والسّيفُ والرُّمح والقرطاسُ والقلمُ
قولا مُلزِماً دفع بالمتنبّي إلى تطبيقه؛ ممّا أدّى إلى مقتله. وليس هذا ببعيد عمّا انتهى إليه بودلير (1821- 1867) بشأن آليّة الخلق الفنّيّ في الشّعر حين قال: ” الشّعر هو ما يكون فيه على الدّوام” أكثر من الواقع والحقيقة”.
وليس ما قام به سربانتس (1547- 1616) في رائعته (دون كيخوته) سوى إيمانٍ منه بأنّ الأدب التّخييليّ الذي ينهض على الكذِب المجازيّ، أوالتّخلُّق الفنّيّ ما هو سوى دعوةٍ لتغيير العالم من حوله، وإنْ كان قد اكتنز في نصّه المتّشح بالخيال والتّوهُّم أنّ هذه الدّعوة محكومٌ عليها بالإخفاق، لأنّ الفكر والأداة اللذين امتلكهما بطله (سانشو بانثو) لايصلحان لفعل ذلك؛ فقد ولّى زمنُهما وغبر، ولم يعد ممكناً تحقيقهما في الواقع المرجعيّ الذي تُحِيلُ إليه الرّواية.
حـول خلـود النّـصّ
ومع ذلك كلّه فبعضُ النُّقادِ يحكُمُون على نصٍّ أدبيٍّ أو أثــرٍ فنيٍّ بأنّه خالِـدٌ رغم اتّكائه على الكذب (التّخييل) ومفارقته للصّدق الواقعيّ، وهذا الحُكمُ، في رأيي، يرشحُ بمصادرة الزّمن، ويشِي بقدرة النّصّ على تجاوُز السِّياق التّاريخيّ المتحوِّل. وفي ظنّي أنّ أهميةَ أيّ نصّ تنبثق من تفاعُله المستمرّ مع المتلقّي، واستجابته لحاجاته الفكريّة والوجدانيّة، أمّا الحكمُ عليه بأنّه سيبقى نضِراً، أوخالداً، فهو مصادرة لآليّة التّلقّي نفسِها، ولحركة الزّمن الموّارة التي تحتضنه حتّى لوكان يشتمل على قيم إنسانيّة عامّة تخصّ البشريّة جمعاء؛ لأنّ هذه القيم ليست ثابتة، بل متغيّرة، كما أنّ الثّقافة التي تتمثّلها ليست ثابتة بل متغيِّرة باستمرار أيضاً.
ماركـس وخلـود الفـنّ الإغريقـيّ
ماركس
وقد حيّر ماركس (1818-1883) السُّؤالُ عن السّبب الذي جعل الفنَّ الإغريقيَّ يحتفظ بـسحْـرٍ أبـديٍّ لا ينفَدُ، على الرّغم من أنّ الشُّروطَ التي أنتجتْهُ قد انقضتْ منذ زمنٍ بعيد، وهذا ما جعل بعضَ النُّقادِ ومنهم تيري إيجلتون في كتابه (نظريّة الأدب) يُثيرون التّساؤل الآتي: كيف نعلم أنّ نصّاً ما سيظلّ ساحراً بصورةٍ أبديّة مع أنّ التّاريخَ لم ينتهِ بعد ?!.
وفي ظنّي أنّ المجتمعات الّتي تقرأ النّصوص الأدبيّة تُعِيدُ كتابتَها وإنتاجَها بصورة غير واعية، وتُحمِّلها همومَها ورؤاها في كلّ عصر، وأنّ قُرّاءها يكتشفون فيها ما لمْ يكتشفه غيرُهُمْ في عصور سابقة؛ ولذلك فإنّ (دون كيخوتَنا) قد يكون مختلفاً عن (دون كيخوت) الإسبان، و( هوميروسَنا) قد يكون مغايراً لـ(هوميروس) الإغريق، وقد يُفضي بِنَا هذا إلى القول: إنّه ليس هناك قراءةٌ لنصٍّ ما لا تُعِيدُ إنتاجَهُ وفق رؤيتها الجماليّةِ الخاصّةِ؛ وحاجاتها المتجدِّدة؛ وبناءً عليه فإنّ بنية النّصّ الأدبيّ لا تستقرُّ على حال، بل يُعَادُ إنتاجُها في كلِّ مرحلةٍ بطريقة مغايرة لما قُرئت به من قبل؛ وهو ما قد يُفضِي بالقارئ إلى الوقوع في وهْمِ أنّ النّصّ الأدبيّ نفسه هو (الخالد) مُقصِياً دورَ المتلقّي في إعادةِ إنتاجه وتشكيله بما يتناسب مع وعيه الجماليّ وحاجاته المتغيِّرة باستمرار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد سوريّ