د . محمد حبش – الناس نيوز ::
كان من أفظع ما نشر عن الزلزال وكل مانشر فظيع!!! مشهد الطفلة عفراء في جنديرس التي ولدت تحت الأنقاض فيما كانت أمها تلفظ أنفاسها الأخيرة، في مشهد يحبس الأنفاس ويضع الإنسان أمام وعي صادم بخفايا الأقدار وحقائق العجز الإنساني وقدرة الله.
وعلى الفور وصلت نداءات كثيرة لأسر ترغب بتبني هذه الطفلة في موقف إنساني يأخذ بالقلوب، وأصبحت عفراء حديث الإعلام خاصة بعد أن شاهدها الناس وهي تنتشل من تحت الحطام وحبلها السري موصول بأمها الشهيدة التي أسلمت هذه الطفلة للحياة واستسلمت للموت.
ليست قصة المولودة عفراء (كما سماها كفيلها) إلا واحدة من عشرات الآلاف من الأطفال الذين تركهم الزلزال بدون أبوين، ولا يقل عددهم في أقل التقديرات عن مئة ألف طفل بعد هذه النكبة الفظيعة، وعاد طرح السؤال من جديد هل التبني عمل إنساني نبيل أم عدوان على الشريعة؟؟
ومن المحزن أن تستمع إلى أصوات متعصبة تواجه هذا الشعور النبيل الإنساني باتهامات تفتقر إلى المنطق والرحمة، حيث تعتبر التبني عدواناً على الأسرة والشرع والدين في حين أنه يقع في أنبل مشاعر الإنسانية البيضاء وتكافل الإنسان مع الإنسان. وأرجو من القارئ الكريم أن يسامحني في المسارعة إلى طرح هذا الأمر على الرغم من أن المشهد لا يزال عند صدمة الهول وفرق الإنقاذ لا تزال يسابق الزمن للعثور على بقية من أطراف الحياة، ولكن التبني هو أيضاً سؤال اللحظة وهو يحتم علينا الشروع في مناقشة المسالة بدون تأجيل.
وخلال جدل قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية تم اعتبار التبني نظاماً مرفوضاً، وتم حشد سلسلة من الأدلة النقلية التي تضعه في دائرة المحرمات على الرغم من أنه يعتبر في الدولة المتحضرة نشاطاً إنسانياً نبيلاً تدعمه الدولة وتحميه وينفق على نجاحه دافعو الضرائب برضا وقرة عين.
أما الدليل النصي الذي يساق هنا فهو زيد بن حارثة الذي تعرض للرق في الجاهلية وكان في بيت النبي الكريم، وحين حضر والده حارثة بن شراحيل ليتسلمه أصر زيد على البقاء في بيت النبوة، إيثاراً لجانب الرسول الكريم، وهنا اجتهد الرسول الكريم وقال لأبيه لا تقلق، إنه حر وسأسميه زيد بن محمد!
ولكن هذا الاجتهاد النبوي الكريم تبين فيما بعد أنه غير مناسب لمقاصد الشرع وشرائع العرب وعاداتها التي كانت تقيم علاقاتها على أساس النسب، وبالفعل فإن القرآن جاء بمنع هذا الاجتهاد، وقال: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله.
وبالفعل استجاب الرسول الكريم لمطلب العرف العربي الذي جاء به القرآن، وفي موقف ديمقراطي ملفت تراجع عن رأيه وأمر بأن يكون انتساب المرء لأبيه وأن العبث بالأنساب لون من الضياع الاجتماعي.
كانت هذه القصة كافية ليتخذ الفقهاء موقفاً شبه موحد في رفض التبني واعتباره حراماً في الشريعة، وبات هذا المصطلح يثير حساسية كبيرة في المجتمع الإسلامي، وأوقف قانون الأحوال الشخصية في كل البلاد العربية مبدأ التبني واعتبره حراماً، واقتصرت المساعدة على مبدأ كفالة اليتيم المعروفة، وهي في الواقع تحقق كثيراً من أهداف التبني ولكنها لا توفر له جو الأسرة المحمية بالقانون.
وفي الكوارث تتجدد المطالبات بالسماح بالتبني باعتباره حلاً حقيقياً للمنكوبين وهو في جانب آخر حل لكثير من العائلات التي لم ترزق بأولاد ولكنها تستطيع تبني أولاد منكوبين في غمار تأسيس أسرة يعترف بها القانون.
في الواقع لا يستطيع هذا المقال أن يواجه تنمر المسلمين العارم ضد التبني ولكننا نقترح هنا بديلاً بين نظام الكفالة وبين نظام التبني وهو نظام الضم، وفي نظام الضم يمكن للكفيل أن يضم إليه طفلاً او أكثر وينعم بتسجيل حكومي يحمي الطرف الضعيف وهو الطفل والطرف القوي وهو الكفيل، ويوفر للمكفول جو الأسرة الحقيقية الذي ينسيه آلامه وعذاباته، ويوفر له له فرصة القرابة والرحم والأم والأب، ولكنه يحترم قيم الصدق والمكاشفة ويأمر بتسجيل الواقعة الحقيقية في سجلات النفوس.
وزيادة على النص فقد تعرض التبني للتنمر الشديد من الفقهاء لسببين اثنين الأول لأنها اعتبرت عبثاً بنظام الإرث والثاني اختلاط الأنساب وكلاهما منهي عنه شرعاً، وسنجيب عن كل منهما:
أما الإرث فإن نظام الضم الذي تطرحه هذه الدراسة يعالج مسألة الإرث بالوصية، وهي أسلوب شرعي معروف وهو سار في الإرث بالصيغة التي يريدها المورث وهو ملزم للجميع، ويحميه القانون إذا كانت الوصية في حدود ثلث التركة، وهذا يغطي أكثر من تسعين بالمئة من حالات التوريث
حتى إن الوصية لو زادت عن الثلث فإنها تقع صحيحة بشرط موافقة الوارثين، وهذا هو المعمول به في قوانين الأحوال الشخصية العربية.
أما اختلاط الأنساب فإن نظام الضم يلزم بتسجيل الواقعة الحقيقية في وثائق التسجيل وبذلك لن يكون هناك أي ضياع للانساب، وبالفعل فإن كثيراً من الدول المتحضرة أدخلت على نظام التبني إلزامية تسجيل الواقعة الحقيقية، وهذا هو بالضبط مطلب الشرع، ويعتبر قيام هذه الدول بإصلاح نظام التبني خطوة في الاتجاه الصحيح لتحرير هذه الممارسة الإنسانية النبيلة من تهمة الخداع والتضليل غير المقصود.
إن تسجيل الواقعة الحقيقية في سجل قيد النفوس يمثل استجابة أساسية لمطلب الشريعة في حماية الأنساب، ويشكل أيضاً شرطاً أخلاقياً لتحقيق نظام كفالة حيوي يحقق غايات التبني كلها من توفير الأسرة والاستقرار العائلي على أساس من الصدق والمكاشفة ويمنع الاستمرار في ممارسة الزيف على المضموم الذي سيعرف ذلك بعد حين وسيشكل له صدمة قاتمة بكل تأكيد.
ومع أن فرق الإنقاذ ما زالت في المواقع ولا زال الحديث أكبر من أن يحتمل جدلاً قانونيا ً وإصلاحاً تشريعياً، ولكنني أدعو بحماس كل القادرين إلى تبني الأطفال المنكوبين في الزلزال وفق نظام الضم الشرعي، وأدعو الحكومات لتأمين صيغة استجابة سريعة لهذه الغاية الإنسانية النبيلة وفق المتاح من أدوات التكافل وصولاً فيما بعد إلى إصلاح تشريعي جوهري لحماية الطفولة البريئة، وحماية الأسرة النبيلة، وسيكون ذلك بكل تأكيد أفضل عمل إنساني نتضامن به مع الطفولة المنكوبة