زينة يكن – الناس نيوز ::
مرّ زمن طويل لم أزر فيها مدناً متوسطية، كانت آخر زيارة لي إلى اليونان مع بدايات الجائحة، لكني لم أبقى قريبة بما يكفي من المتوسط، حيث لم أطل في أثينا أكثر من ليلتين، وكنت بدلا عنها أقرب إلى ضفاف إيجه والسيكلاديس، محاطة بالزرقة والبياض.
عدت إلى حوض المتوسط بعد غياب، زرت جزيرة مالطا، حيث تجتمع الأصالة والعراقة بالتاريخ والجمال. لقد احترت فعلاً على من أطلق لقب “عروس المتوسط”، فكل مدينة ألتقيها على هذا الحوض تخفي وتظهر جمالاً فريداً في آن معاً.
في بداية وصولي، شعرت أنني أزور مدناً على الساحل السوري مثل طرطوس، أرواد، صور، صيدا مع اختلاف المزاج والأناقة والترتيب وباقي متطلبات الذوق العام لصناعة السياحة، فمالطا غربية المزاج، شرقية الهوى، لاتينية الأحرف، عربية المفردات.
تعاقبت الكثير من الحضارات على هذه الجزيرة الجميلة، المنحوتة على تلة، تنافس عليها الفينيقيون والقرطاجيون وغيرهم، ثم أصبحت محط أنظار الرومان والإغريقيين، ثم حكمها العرب الأغالبة حيث أضافوا إليها الكثير، فهناك مدن بأسماء عربية مثل “المدينة والرباط وسليمة” وغيرها، ولكن من المؤسف أنّه تم تلطيخ بعض الإنجازات العربية، فعند زيارة أحد المتاحف في “المدينة الصامتة” كما يطلق عليها، يشعر المرء بكراهية الشعب المالطي ضد العرب (الفكرة دوماً على طاولة السجال مع وضد، وهل هذا صحيح أو خطأ، ربما الواقع يحتمل صفتي الحقيقة)، المفردات المستخدمة في أسلوب الشرح لم تخلو من كلمات السلب والتدمير والقتل والتشريد.
الطراز العمراني للمدينة هو طراز غربّي باروكي بالعموم، يشهد عليها الكاتدرائيات البديعة، ولا عجب طبعاً، إذا أخذنا في الحسبان أشهر فرسان جزيرة مالطا الذين أبدعوا في الفن والزخرفة على حد سواء مثل Caravaggio، تلميذ ميكائيل أنجلو هو من أسهم في إضافة لمسته الخاصة في كاتدرائية القديس جون بالعاصمة فاليتا، حيث اعتمد على الظل والضوء وانعكاساتهما على لوحاته منذ ذلك الحين، أي قد يكون أول من استخدم مفهوم “الفلاتر” آنذاك.. لا أذكر بالمقابل، أنني وجدت أي علامات تدل على تواجد العرب أو العثمانيين مثل جوامع (يوجد شواهد غير دينية، ويوجد جامع في جزيرة صغيرة تابعة لمالطا بنى فيها القذافي جامع كلفته أكثر مئات ملايين الدولارات الخ).
فقط المشربيات التي حتى في فنها اندمجت بالطراز الغربي، فأصبح لها طابع سياحي من حيث الألوان، هناك أيضاً الشوارع الضيقة المرصوفة التي تشتهر بها معظم الدول المتوسطية كلها محشية بالمقاهي والبارات، نظيفة جذابة مريحة ترخي بظلال رونقها على روح معظم الزائرين.
لقد تفاجأت كثيراً بالنفوذ البريطاني الذي كان مهيمنا، إذ كنت قد قرأت أن مالطا كانت محمية البريطانيين في الحرب العالمية الثانية، ولكنني لم أتصور أن يصل التأثير إلى حد قيادة السيارات، فالعربات هناك تقاد من جهة اليمين كما هو الحال في لندن وأستراليا، حتى “الكولبات” الحمراء للهاتف، تراها عينها في مالطا.
لم تتح لي الفرصة التواصل مع الشعب المالطي، إذ كان صعباً التفريق بينهم وبين السياح، أصبحت أوروبا معولمة بشكل كبير، فضلاً على أنّ شعوب حوض المتوسط لهم تقاسيم مشتركة في الشكل، وربما لصغر حجم الدولة الجزيرة، وكثرة السياح تزاوج الشعب فيها كثيراً، إلّا أنّ الملفت هو اندماج المهاجرين في المجتمع، الكثير من الهنود والأفارقة ممن قابلتهم يعملون يداً بيد إلى جانب المالطيين.
ليس هذا فقط، لأول مرة، أرى بريطانيا يعمل سائق حافلة خارج حدود بلاده، لقد اعتدت على رؤية الإنكليز يعملون بمناصب عالية خارج بلادهم، وإن كانوا دون التحصيل المطلوب.
بالرغم من هذا، كان يتصرف السائق وكأنه حاكم حقيقي، يصرخ في وجه الركاب، يطلب منهم الجلوس أو التباعد (لا أعرف إن صادف ذلك وجودي كحالة فردية أو أنها تتكرر)، لقد أثار دهشتي، لم أفهم مغزى عمله كسائق مع كل هذه القوة التي لا داعي لها.
أود أن أسجل نجاح الغرب في ضم هذه الجزيرة الصغيرة إليهم، ثقافياً وروحياً وجمالياً، وإلى اتحادهم وعملتهم … .
أما نحن العرب، وكما الكثير من المقولات الخالدة، قد نكون وصلنا للقمة ذات مرة أو مرات، لكننا لا نعرف الاحتفاظ بها وذلك يصبح مبرراً لجلد الذات، لكن في نفس الوقت قدرتنا على النهوض والمواكبة ليست مستحيلة إذا تصورنا أن التشاركية هي لغة التصالح والمصالح في العالم المعولم.