[jnews_post_author]
عشرات الاتصالات والرسائل كانت تردنا يومياً يطلبون منّا أن نسأل عن أسماء أقاربهم في سجلات المحاكم، وكنّا نتوزع قائمة الأسماء فيما بيننا نحن فريق الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير، وكانت تضم القائمة أكثر من 50 اسماً، حيث كنّا نجددها باستمرار، نحذف منها أسماء الذين تمت إحالتهم من الفروع إلى القضاء وكذلك المفرج عنهم، ونضيف إليها الأسماء الجديدة التي تردنا يومياً، لتستمر رحلة البحث عن الأسماء والتي ازدادت صعوبة مع اشتداد الحملات الأمنية التي كانت تستهدف كل من يتعاطف ولو بكلمة مع الثورة السورية ضد بشار الأسد، والتي بدأت تأخذ منحى تصاعديا وبوتيرة متسارعة بدءاً من نهاية عام 2011 وبداية 2012.
أذكر من بين مئات الأسماء التي كنّا نترصدها كان اسم نور عبد الرحمن حلاق الشاب المتخرج حديثاً من كلية الآداب – جامعة دمشق في 1 أغسطس ٢٠١١. كان اسمه ضيفاً دائماً في قائمة الأسماء التي نبحث عنها منذ اعتقاله بتاريخ 11/2/2012 وحتى تاريخ إحالته للمحكمة، وبالرغم من تزايد الحديث عن مقتله تحت التعذيب في فرع التحقيق التابع للمخابرات الجوية، إلا أن اسمه بقي في رأس القائمة لقناعتنا أن كل ما اُشيع حول مقتله يبقي مجرد إشاعة دون أي دليل.
وفي إحدى جولاتي اليومية على محكمة الإرهاب وتحديداً في 26/3/2013 وبينما أتصفح أسماء المحالين من الفروع الأمنية في “سجل الموجوداً ” وقعت عيناي على اسم نور عبد الرحمن حلاق وقد كتب بجوار اسمه “إيداع سجن عدرا لصالح محكمة الإرهاب”، كدتُ أصيح من الفرحة يا إلهي نور ما زال حياً يُرزق، لم أصدق في بادئ الأمر أن اسمه مسجل فعلاً في السجل، سألت الموظف عن إضبارته فقال لي أن إضبارته عند قاضي النيابة من أجل دراستها والادعاء عليه، وإحالتها لقاضي التحقيق المختص، ثم سألته مجدداً، وأين هو الآن، أجابني الموظف لقد تم إيداعه في سجن عدرا بانتظار أن يأتي دوره في الاستجواب.. خرجتُ مسرعاً خارج المحكمة، واتصلت بالأستاذ أنور البني الذي كان جالساً في قاعة المحامين بالقصر العدلي ينتظر أي خبر عن أي معتقل، أخبرته بأن “نور حلاق” حيٌّ يرزق، وقد أودع اليوم في سجن عدرا، وأن ملّفه أصبح في نيابة محكمة الإرهاب بتهمة تمويل أعمال إرهابية.. لم يصدق الأستاذ أنور بداية، وقال لي أنت متأكد من ذلك؟ قلت له نعم متأكد جداً، وهنا صاح الأستاذ أنور “نور حلاق حيّ، نور حلاق حيّ”، وأعتقد أن صوته غطى على أصوات المحامين الجالسين في القاعة.
وفي المساء وردتني رسالة على الفيسبوك من والده السيد عبد الرحمن حلاق المقيم في الكويت، يشكرني فيها على الجهود التي نبذلها من أجل المعتقلين، وطمأنته ان” نور بخير” وسأهتم بأمره حتى يطلق سراحه. وفي اليوم التالي ذهب أحد زملائي إلى سجن عدرا ليطمئن على “نور”، فلم يستطع زيارته لأنه كان مريضاً ووضعه الصحي كان صعباً، وبعد حوالي أسبوع تمكّن زميلي من زيارته والاطمئنان على صحته وأخبره بأن أهله يسلّمون عليه، وإننا سوف نكون إلى جانبه وندافع عنه. وعندما سأله عن سبب منع الزيارة عنه لمدة أسبوع تبين أنه كان يعاني من جرثومة بالأمعاء بالإضافة إلى إصابته بالجرب، مثل بقية المعتقلين الذين كانوا يصابون بالجرب في المعتقلات نتيجة انعدام العناية الصحية والنظافة. وأخبرنا أنه تم اعتقاله من قبل عناصر تابعين للمخابرات الجوية على حاجز الدحاديل على طريق المتحلق الجنوبي جنوب دمشق، وبحوزته كرتونتين من الأدوية، حيث كان يعمل مع العديد من النشطاء على تجميع كميات من الأدوية لإرسالها إلى الأهالي المحاصرين في مدينة حمص.
لم يتسن لي التعرف على” نور” إلا بتاريخ 29/10/2013 عندما أحضره الشرطي إلى مكتب قاضي التحقيق الرابع في محكمة الإرهاب، حيث بدا لي شامخاً رغم قسوة السجن والاعتقال، دخلتُ إلى مكتب القاضي وأبرزت وكالتي عن “نور”، ثم طلب القاضي منّي الجلوس وعدم التحدث إلا بإذنه، بينما ظل “نور” واقفاً بانتظار الإجابة على أسئلة القاضي.
بعد أن تلا القاضي اتهام النيابة على نور، سأله القاضي عن صحة الاتهامات، أجاب نور بإنكار كافة التهم الموجهة إليه، وهنا قال له القاضي يوجد هنا في الملف صور لموقع الفيسبوك العائد لك تهاجم الدولة السورية والقيادة السياسية وتحرض ضدها، أليس موقع الفيسبوك لك؟ أجاب نور بارتباك نعم سيدي إنه لي، وهنا شعرت أنه من واجبي التدخل وتنبيه” نور بأن يعدل من أقواله، فطلبت إذناً من القاضي لتوضيح نقط مهمة تتعلق بالفيسبوك، سمح لي القاضي بالحديث، بدأت حديثي أن الموكل ليس عنده موقع على الإنترنت، بل مجرد صفحة يستطيع أي شخص إنشاءها، وصفحة الفيسبوك تتضمن قسمين، قسم خاص ينشر فيه المرء أشياء خاصة تخصه وتخص أصدقاءه وعائلته، كنشر صور العائلة أو حفلة عيد الميلاد وشيء من هذا القبيل وهو ما فعله الموكل، وهناك قسم عام لا يستطيع صاحب الصفحة التحكم فيه ولا يسأل عما ينشر فيه، لأنه يتعلق بما ينشره الآخرون في صفحاتهم الخاصة. وهنا فهم نور عليّ ما أردت منه أن يشرحه للقاضي. ثم تابع القاضي أسئلته لنور بالقول:” هل عندك موقع على الإنترنت أم صفحة على الفيسبوك؟، أجاب نور: صفحة سيدي صفحة، ثم سأله القاضي وماذا تكتب فيها؟ أجاب نور: “أكتب في صفحتي الشخصية أخباري الخاصة، وأنشر صوري وأصدقائي واحتفالات عيد الميلاد”. سأله القاضي مجدداً يعني ما هاجمت القيادة، ولا حرضت على الدولة؟ أجاب نور إطلاقاً يا سيدي. وعندما سأله القاضي عن الأدوية التي ضبطت معه، أجاب نور أنه كان يعمل في توزيع الأدوية على الصيدليات من أجل تأمين مصروف دراسته الجامعية، وهنا أنهى القاضي استجواب نور وقرر تركه، أي إطلاق سراحه.
وبعد أربعة أيام جاء نور إلى قاعة المحامين ليتعرف على المحامين الذين وقفوا إلى جانبه في محنته، وقد بدا في شكل مختلف تماماً شاباً أنيقاً وفارع الطول والبسمة لا تفارق وجهه. وقد كانت آخر مرة أراه فيها، وقد علمت فيما بعد أنه استقر في مدينة إعزاز شمال حلب مواصلاً عمله في الهيئات والمنظمات الإغاثية العاملة في المنطقة.
المحامي ميشال شماس


الأكثر شعبية

روبيو وبن فرحان: ضرورة القضاء على الحوثيين

سوريا توقع مع كوريا الجنوبية على إتفاقية علاقات دبلوماسية…

