محمد نجيب بربور – الناس نيوز ::
السلطة ليست حكراً على الحاكم، فالمتسلّط قد يكون مديرمؤسسة، أو مسؤولاً ثقافياً، أو أباً، أو حتى معلمًا في صفٍ دراسي.
كل من يُمنح سلطة على الآخرين، ثم يغريه المقام فيعلو صوته فوق صوت العقل، هو في الحقيقة واقع في فخّ السلطة، وإن لم يدرك.
الفخ لا يُنصب فجأة، بل يُنسج خيطاً خيطاً، من الإعجاب بالذات،ومن تصفيق المحيط، ومن غياب النقد، ومن نشوة السيطرة.

حين يبدأ المتسلّط في اعتبار موقعه امتيازاً شخصياً لا مسؤولية عامة، يصبح أعمى عن الآخرين، أصمّاً لأصواتهم، غارقاً في صورته عن نفسه.
المدير الذي يقتل الإبداع خوفاً من أن يبرز أحد مرؤوسيه، والمثقف الذي يحتكر المنبر ولا يحتمل سؤالاً، والأب الذي يغلق باب الحوار باسم التربية، والشيخ الذي يفرض تفسيره وكأنه وحي لا يُناقش.
كلهم- في درجات متفاوتة – أسرى لهذا الفخ العميق.
الفخّ هنا ليس في الكرسي فحسب، بل في الذهنية، وأعني هنا الطريقة التي يُفهم بها الدور، وفي الرغبة الدفينة بالتحكّم لا التنظيم، بالإخضاع لا بالإقناع.
المتسلط لا يشعر بالقوة إلا حين يُضعف من حوله، ولا يطمئن إلا إذا عمّ الصمت.
يتحدث كثيراً عن الانضباط والطاعة، لكنه نادراً ما يتحدث عن العدالة أو الثقة.

يخشى من النقد، ويتعامل مع أي اختلاف بوصفه تهديداً، لا ثراءً.
تراه محاطاً دائماً بالضعفاء أو بالمنافقين، لأن القويّ الصادق يقلقه.
ولأن السلطة تورث هذا الإغراء، فإن أعظم امتحان أخلاقي إنساني ، ليس حين يُظلم، بل حين يُعطى سلطة.
هل سيبقى إنساناً ؟
هل سيذكر أن الآخر له كرامة، وله رأي، وله حدود؟
أم سينسى، ويقع في الفخّ مثل الذين سبقوه؟
الفارق الجوهري بين القائد والمتسلّط، أن الأول يحرّر من حوله،والثاني يستعبدهم.
الأول يرى موقعه تكليفاً، والثاني يراه امتيازاً.
الأول يُرشد، والثاني يُخيف.
الأول يُشعل شمعة، والثاني يُطفئ كل الأنوار ليبقى وحده مرئياً.
عندما تكون السلطة فخاً، فإنها تفسد حتى النوايا الطيبة.
تغري صاحبها بأن يصدّق نفسه أكثر مما يصدق الناس، وتجعله يتوهم أن الهيبة تأتي من التخويف لا من الاحترام، ومن البطش لا من العدالة.

النجاة من فخّ السلطة تبدأ من وعيها، من معرفة أن ما تملكه اليوم قد يُسلب غداً، وأن القيمة لا تُقاس بكمّ الأوامر التي تصدرها، بل بكمّ القلوب التي تثق بك، وأنك حين تحترم من تحتك، فأنت ترفعهم، وترتفع معهم.
نحن لا نحتاج إلى مزيد من المتسلطين، بل إلى مزيد من القادة ،إلى من يفهم أن السلطة مسؤولية أخلاقية ، لا امتيازاً طبقياً، وأن المكانة لا تصنع الاحترام، بل السلوك، وأن من يحكم الناس – في أي
موقع يجب أن يتقن أولاً كيف يحكم.
ولأن الكلمات كثيراً ما تنام في القلب حتى يوقظها صوت صديق،فإن هذه السطور ما كانت لتستيقظ لولا يد صديقي الأديب الشاعر السوري نوري الجراح، الذي لمح في خيالي فكرة، وأعطاني لها اسماً، وقال لي بهدوء العارف:
أكتب، فالمعنى لا يحتمل الصمت.
كان هو من اقترح العنوان: “عندما تكون السلطة فخّاً”، وكان هو من أشار إلى الوجع القديم في ثيابٍ جديدة.
له أرفع هذه الكلمات، لا بوصفها مقالاً، بل امتناناً لصوتٍ يعرف كيف يفتح الأبواب المؤصدة في الروح، دون أن يُحدث ضجيجاً.

الأكثر شعبية

الضمير الثقافي…

نموذج سوري: الخلاف حول اتحاد الكتاب العرب

واشنطن تعُين ميشيل عيسى سفيراً لها في لبنان

