للرسام الفلسطيني الشهير ناجي العلي قول شهير: “أخشى ما أخشاه أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه الخيانة وجهة نظر”.
يمكننا أن نضيف اليوم، وبالإذن من ناجي العلي: “….والتطرف أيضاً لا يمكنه أن يكون وجهة نظر”. وعليه نسأل: لو عاش ناجي العلي إلى اليوم، ماذا سيكون موقف “حنظلة” مما يجرى الآن في أفغانستان؟ هل سيهلل لفوز طالبان كما فعل إسماعيل هنية وحركة حماس، أم أنه سيُدير لهم ظهره غضباً واستنكاراً واحتجاجا؟
أثبتت الأحداث الأخيرة في كابل أننا أبعد ما يكون عن أمة واحدة، نظراً للانقسام الكبير بين من يؤيد حركة طالبان ويعتبرهم مسلمين أبطال وفاتحين، ومن ينظر إليهم على أنهم برابرة من العصر الحجري، لا يمتون إلى الحضارة…أو الإسلام…بشيء. من يهلل لطالبان اليوم هم نفس الأشخاص الذين لم يزعجهم ظهور نصّاب يُدعى أبي بكر البغدادي في الموصل قبل سبع سنوات، ليقول للناس أنه خليفة للمسلمين وأمير للمؤمنين، فقد تعاملوا معه وكأنه أبو بكر الحقيقي (الصديق)، متناسيين أن الفارق بينهما هو مثل اختلاف الشمس عن القمر، والليل عن النهار. الصديق، أو العتيق كما كانوا يسمونه في صدر الإسلام، كان وجيهاً في قومه، عالماً في الأنساب، فقيهاً ومشرعاً وصحابياً جليلاً، وليس خريج سجن البوكا في العراق. لم يرعبهم ضرب الرقاب، طالما أن الهدف هو أعناق الكفار والمرتدين، من مسيحيين ويهود وعلويين وشيعة.
بدايات الانقسام قديمة حول حركة طالبان جداً وهو تعود إلى مرحلة تسليح المجاهدين الأفغان للوقوف في وجه الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات. يومها كان العالم العربي مشغولاً بقضاياه الكبرى، مثل حرب لبنان وحرب الخليج الأولى والانتفاضة الفلسطينية الأولى. الحدث الأفغاني كان بعيداً عن السواد الأعظم من العرب، ومختصراً على الجهاديين فقط، من أمثال الشيخ الفلسطيني عبد الله عزام، ونظيره السعودي أسامة بن لادن والسوري مصطفى الست مريم (أبو مصعب السوري). أما غالبية العرب والمسلمين، فكان همهم في مكان أخر تماماً، في صبرا وشاتيلا حيث كانت مجزرة عام 1982، وفي داخل الأراضي المحتلة حيث رُفعت الحجارة في وجه الجيش الإسرائيلي. المقاتل الفلسطيني يومها كان يُسمّى “الفدائي” وليس “الجهادي” وكان مصطلح “الفدائي” عابر للأديان والمذاهب، ينطبق على المسيحيين والمسلمين معاً. والجدير بالذكر أن الانتفاضة الأولى كانت بدايتها علمانية وليست إسلامية، وقف خلفها أناس من الحركة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن فتح ومن الحزب الشيوعي، قبل أن تخطفها حركة حماس. وقد يكون أشهر “فدائي” في النصف الأول من القرن العشرين هو جول جمّال، ضابط البحرية السوري الشاب من مدينة اللاذقية، الذي فجر نفسه في بارجة فرنسية خلال حرب السويس سنة 1956. كان مسيحياً وليس مسلماً ولكن سلك طريق الشهادة الذي كان يسلكه المسلمون الجهاديون. وكان سورياً وليس مصرياً ولكن مات من أجل “أمة عربية واحدة”، وليس من أجل أمة إسلامية.
ظلّت قضية أفغانستان محصورة بالجهاديين، ولم تتخطى تلك الحدود، حتى بعد وصول طالبان إلى الحكم سنة 1996. وعندما بدأت الحرب الأمريكية سنة 2001 تعاطف معها العرب (مسلمون ومسيحيون) من وجهة نظر إنسانية وليس دينية، متسائلين كيف لمقاتلين عزّل يعيشون في الجبال والكهوف أن يقاوموا أقوى جيش في العالم.
حتى أن هذا التعاطف لم يستمر طويلاً فقد وجدت الأمة الإسلامية ما هو أقرب إليها لكي تثور وتنتفض عندما قررت أمريكا غزو العراق سنة 2003. ومع سقوط بغداد سقطت قضية أفغانستان بالتقادم والنسيان، ومعها حركة طالبان، لتُعاد إلى أذهن الناس خلال الأيام القليلة الماضية. ولكن وفي هذه الفترة الفاصلة بين 2001-2021، حصل تغير جذري على السايكولوجية العربية الجماعية، بسبب حروب الربيع العربية وظهور التنظيمات الجهادية المسلحة في سورية والعراق، التي أسست حكماً لنفسها في الموصل وتكريت وفي الرقة وإدلب، وقالت أنها تمثل نموذجاً جديداً ومختلفاً من الحكم، ينبغي اتباعه والتعامل معه بجدية بعد فشل وانهيار الأنظمة العلمانية.
والتف الناس حول أشخاص مثل أبي بكر البغدادي في العراق وأبي محمد الجولاني في سورية، واليوم حول الملّا عبد الغني برادر في أفغانستان. وجدوا فيهم قادة لعدم توفر أي بديل أخر في هذه البلاد. ففي العراق لم تظهر شخصية سنة بعد مقتل صدام حسين، وفي لبنان لا وجود لقائد سني بعد رفيق الحريري، وفي سورية لم يُنتج الحراك القائم منذ 2011 إي شخصية واحدة استطاعت أن تجمع الناس حولها، إلا أبي محمد الجولاني. وفي أفغانستان، هرب الرئيس العلماني المثقف أشرف غني، وترك الساحة مفتوحة أمام مقاتلي حركة طالبان.
السلسة واضحة لمن يريد أن يراها. في الثمانينيات، ظهرت حركة حماس الإسلامية لتنال من حركة فتح العلمانية، وبقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. مهدت لهم الأرضية عبر سلسلة من الانتصارات الجهادية في العالم العربي، ومنها مقتل أنور السادات في مصر سنة 1981، والهجوم على المارينز الأمريكيين في لبنان عام 1983. بدا وكأن الإسلام السياسي ناجح وفعال، تماماً كما حدث بعد العام 2011، بعد نجاح الإخوان المسلمين في تونس وليبيا مصر، وصولاً إلى سقوط كابل في أيدي الطالبان قبل أيام. ولكن وبعيداً عن كل التحليلات السياسية، لا خلاف في الجوهر بين طالبان وحماس أو داعش أو بين القاعدة والإخوان المسلمين، فجميعهم ينادون بدولة إسلامية لا مكان فيها لا للديمقراطية أو الحكم الدستوري، ولا للمسيحيين بالمطلق. ومن يتعاطف مع طالبان اليوم هو شخص متطرف بالفطرة، يصعب علينا العيش معه أو أن يكون شريكنا في المستقبل.
أمير سعادة