د.غادة بوشحيط – الناس نيوز :
فرضت جائحة “كوفيد-19″ اهتماماً من نوع خاص بشؤون الصحة عموماً، وأعادت إلى الواجهة الأهمية الاقتصادية والسياسية للصحة العامة من خلال نماذج واقعية أكدت ما كان مجرد تنبؤات –بعيدة الحدوث- قبل ذلك بسنوات.
من بين شؤون الصحة العامة التي برزت بانتشار الفيروس المشاكل المرتبطة بالصحة العقلية تحديداً بعد أن عرفت نوعاً من “الديمقراطية” (يا للسخرية) في التوزع على البشر في الوقت الذي كانت تؤخذ قبلاً بكثير من الاستسهال، على الرغم من أن التحذير من مشكلات التحول نحو العمل عن بعد مثلاً والعالم الافتراضي عموماً قد بدأت منذ فترة طويلة.
في الجزائر كانت الجائحة فرصة لصدور كتاب اتخذ منها مطية لمراجعة تاريخ الصحة العقلية والنفسية في البلاد من طرف أحد المؤسسين الأوائل للخدمات الطبية في هذا المجال البروفيسور “فريد كاشا”، بروفيسور جزائري بدرجة الاستحقاق وخبير دولي.
الكتاب الذي صدر عن منشورات “كوكو” بالعاصمة الجزائرية السنة الجارية حمل عنوان “كلام طبيب أمراض عقلية”.
الحقيقة أن الهم العقلي والنفسي يشهد اهتماماً ثانوياً في جميع بلدان العالم تقريباً، بدرجات متفاوتة طبعاً، مقارنة مع تخصصات طبية أخرى تعتبر “أنبل” أو أكثر “رقياً” من مسائل الصحة العقلية، على الأقل ذلك ما سنكتشفه مع الأستاذ “كاشا” الذي سيحكي محطات من حياة الجزائر المستقلة، وسياساتها الطبية انطلاقاً من تجربته الخاصة.
يعيد الصحة العقلية والنفسية لسياقاتها الأساسية، والحقول التي تأثرت بها، يحكي علاقتها بالسياسي والاجتماعي في بلد شاهده يستقل، ثم يبني مؤسساته، متأسفاً للمشاريع التي لا ترى النور، مقارناً إياها بأسطورة “سيزيف” الذي كلما وصل إلى القمة سقطت صخرته واضطر لرفعها مجدداً، هو الذي ولع بهذا التخصص دوناً عن غيره .
وشاهد الكثير من مشاريع المستشفيات تحول لصالح تخصصات طبية أخرى على حساب المسألة النفسية التي يعمق من مشكلاتها العدد القليل من الأطباء والمعالجين النفسيين مقارنة بإجمالي عدد السكان، إضافة إلى الطابوهات التي تحيط بالعلاج النفسي والعقلي، ومعها مزاحمة الدجل والدجالين للاستطباب في المجال، ممثلة في ما صار يشهد انتشاراً شعبياً واسعاً كالمسماة “رقية شرعية” وغيرها من التفسيرات التقليدية التي تعمق مآسي مرضى مغلوبين على أمرهم، وأطباء أمثال صاحب الكتاب وتكبح مساعيهم خصوصاً أن للبلد تاريخاً مع الرعاية الاجتماعية والطبية.
يحكي الجزائري “ياسمينة خضرا” (1955-) في إحدى رواياته “ملح النسيان” (الصادرة عن دار جوليارد سنة 2020) قصة تغريبة بطله “آدم” الذي هجرته زوجته، فهام على وجهه بعدة مناطق في الجزائر، يعيش شيئاً من التشرد، قبل أن يجد نفسه نزيلاً بمستشفى للأمراض العقلية في إحدى المدن الجزائرية، يجعل من السنوات التي تلت الاستقلال زمناً للرواية، مقدماً وصفاً لشخوص آخرين يلتقيهم “آدم” ويصف أمراضهم وما قادهم إلى ذلك المستشفى. تتقاطع كلمات “خضرا” الروائية مع التوصيفات والتحليلات التي يقدمها طبيب الأمراض العقلية “كاشا”، خصوصاً أن البلد ارتبط اسمه بكثير من المحطات بهذا التخصص الطبي من دون غيره.
فمطلع القرن الماضي ذاع صيت مدرسة أو تيار في الصحة العقلية وعلم النفس سمي “مدرسة الجزائر العاصمة” وهي مدرسة من المدارس الثقافية في المجال، ذات أبعاد كولونيالية استعمارية، قادتها زمرة من الباحثين الأوروبيين ذوي الطروحات العنصرية، استلهمت من أبحاث الإيطالي “لومبروزو” الذي حدد أسباباً جينية للعنف، وكذلك فعلت هذه المدرسة.
لكن قدر الجزائر مع هذا التخصص لم يتوقف عند هذا الحد، فمصير الأهالي الذين كانوا يصلون المستشفيات خضع هو الآخر لتقسيم عنصري مقيت، حيث كانوا يوضعون بعنابر خاصة بهم، معزولة عن ذوي الأصول الأوروبية، ويخضع تقييم حالاتهم ومداواتهم لعلاجات مختلفة بحسب الانتماء الاثني تحديداً، في الوقت الذي كانت طروحات “سيغموند فرويد” ومدرسة التحليل النفسي تشق طريقها بنجاح في مجال الصحة النفسية والعقلية.
سياسة ال”أبارتهايد” الصحية هذه هي ما سيتسبب في بلورة موقف من سيتحول من طبيب إلى أحد أعظم المفكرين التحرريين الأفارقة المارتينكي (نسبة إلى جرز المارتينيك وهي مستعمرة فرنسية في المحيط الأطلسي الشمالي) “فرانز فانون” (1925-1961) متأثراً بتجربته الميدانية في مستشفى “البليدة” (45كلم جنوب الجزائر العاصمة) نحو خيار الكفاح المسلح بجانب أول المناضلين الذين انتقلوا نحو العمل العسكري ضد المستعمر في الجزائر، المستشفى الذي سيحمل اسمه بعد استقلال البلاد ولا يزال كذلك حتى اليوم، بعد أن تم فصله عن العمل.
يسقط “كاشا” في كتابه الكثير من الأساطير حول العديد من القضايا التي كان شاهداً مباشراً عليها، كقضية مقتل الرئيس الجزائري الأسبق “محمد بوضياف” على يد مجند اسمه “محمد بومعرافي”، ناسفاً فكرة المؤامرة، محملاً للقاتل المسؤولية المنفردة لمقتل أول رجل في البلاد آنذاك، على الرغم من عدم التصديق الشعبي، والتشكيك الرسمي.
قضية “بومعرافي” ليست الوحيدة التي يتناولها الطبيب بالذكر بل يعود على حيثيات قضية تحرير الرهائن الأمريكيين في طهران سنة 1980 والتي تمت بوساطة جزائرية، بعد سنة من احتجازهم من طرف حرس الثورة الإيرانيين عقب سقوط نظام الشاه، وفشل التدخل العسكري الأمريكي في سفارة بلاده بالعاصمة الإيرانية لإنقاذهم.
لا يخرج كتاب “فريد كاشا” عن إطار السرد الحميمي لتجارب مهنية، وخلاصة لتجارب عقود لطبيب أمراض عقلية رفض ترك البلد، هو الباحث المتميز، الذي كان شاهداً على انتكاساتها، وقصص سقوط الكثير في فخاخ الجنون، قصص نساء ورجال، يستميت دفاعاً عن طروح أساسية مفادها ألا أحد بمعزل عن انتكاسات كهذه، مهما كان المستوى العلمي والاجتماعي للفرد، يذكر بكثير من التأثر قصة جراح اضطر لإعادة رتق جسد فصل رأسه عن الباقي في عز الأزمة الأمنية حتى يُسلم في هيئة آدمية.
يعتذر “كاشا” مستسمحاً من أولئك الذين لم يذكرهم من الحالات التي قابلها في حياته، متسائلاً عن حدود الصحة العقلية لممارسي هذا التخصص، ومرافعاً لصالح “طب عقلي” مغاربي.
ولتوفير مزيد من الحماية للأشخاص الذين يعانون هشاشة نفسية في عالم يتجاهلهم، يؤكد على أهمية التكوين المستمر للطبيب والمعالج النفسي، إضافة لأخذ الصحة العقلية على محمل الجد، هي التي طالما كانت لصيقة بالفلسفة عموماً والإنسانيات والفنون، ألم يداوِ “فرانز فانون” مرضاه من الأهالي بالموسيقى والرسم؟ على الرغم من ميل الخطاب الرسمي في البلاد نحو تشجيع تطوير العلوم التطبيقية على حساب أهمية الإنسانيات بشكل عام في التكوين والممارسة، وخلق عالم أقل وحشية، وأكثر تكافلاً.