[jnews_post_author]
غالباً ما تشكل عطلة نهاية العام وأعياد رأس السنة والميلاد، بالنسبة للكثيرين، فرصة مواتية للعودة إلى “السينما” عبر “الشاشة الصغيرة“، وخصوصاً الأفلام الأوروبية الرائدة والمقتبسة من روايات (والرائد هنا نسبي تبعاً لاهتمامات كل شخص ولمزاجه وللمجال الذي يعمل ويتحرك فيه). هكذا، وفي هذه “الأيام الفضيلة“، عطلةً وثقافةً وفناً، وبالنظر إلى قراءة كاتب هذه السطور كتباً ونصوصاً كثيرة تناولت المحرقة اليهودية في أربعينات القرن الماضي، بات هناك دافع وحافز لمشاهدة فيلم “القارئ – The reader” للمرة الثانية خلال شهرين. الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب والروائي الألماني برنارد شلينك.
هذا الدافع كان مناسبة أيضاً للبحث عن بعض ما كتب عن “The reader ” وعن أفلام مشابهة له، لتنتهي رحلة البحث “الظافرة” بالتوصيف التالي: “القارئ (دير فورلسر) هي رواية لأستاذ القانون والقاضي الألماني برنارد شلينك تندرج في المحاولات الصهيونية المتكررة لإعادة تشكيل الوعي الغربي بما يحقق مصالحهم. وقد نشرت في ألمانيا في عام 1995 وفي الولايات المتحدة في عام 1997“.
قد يبدو التوصيف المذكور أعلاه للرواية والمنشور على “ويكيبيديا” غير مقنع وغير كافٍ، تبعاً للعلاقة الرديئة بين “ويكيبيديا” وبين المعلومات الصحيحة، وأيضاً تبعاً لسهولة خلق أو اختلاق معلومة على صفحاتها. غير أن تحولها إلى مرجع للكثيرين من “المثقفين” و“الباحثين” و“الكتّاب” العرب، وتقاطُع تقييم الفيلم عليها مع الكثير من الأدبيات العربية التي تناولت المحرقة، هو ما يجعلها، أي “ويكيبيديا عربية“، مرآة وانعكاساً لتفكير قطاع واسع من “النخب” العربية الممانِعة، سواءً عارضت تلك “النخب” أنظمة “الممانعة” أم أيّدتها.
ثمة مساران هنا يستحقان الوقوف عندهما مطولاً. الأول: إنكار المحرقة، والثاني: أبْلَسة الفن. ويتضافر هذان المساران أحياناً ويختلطان مع بعضهما في طبخة ثقافية عربية تبقى رديئة الطعمة، على رغم/ أو بسبب تطعيمها ببعض التوابل الإسلامية، وذلك تحت عنوان هيولي هو “المؤامرة“. مؤامرتهم “علينا” وعلى “أمتنا” وعلى “حاضرنا” و“ماضينا“. وأحياناً يكون هذان المساران منفصلين، بحيث يصبح كل منتج يأتينا من الغرب (نصوص استشراقية، روايات، أفلام، صحف، مسلسلات، مباريات فوتبول..) هو نوع من “الشكليات والقشور” التي تغطي “مؤامرة ما” أو “أهدافاً خبيثة ودنيئة“. وقد طالت تلك الأبلسة، أيضاً، مثقفين وناشطين وكتاباً وفنانين عرب تعرضوا لما تعرضوا له على يد الأنظمة والجماعات والمِلل والطوائف و“المذاهب الاجتماعية” المكرّسة، بدواعٍ كثيرة ليس الوحيد من بينها “ميولهم الغربية“.
بالعودة إلى موضوع المحرقة، فإن فيلم “القارئ” هو واحد من عشرات الأفلام الأوروبية والأمريكية الكثيرة التي تناولت هذا الموضوع، وصوّر بعض تلك الأفلام فظاعات النازية ضد اليهود في أفلام حملت بعض السخرية والكوميديا مثل فيلم la vita è bella للإيطالي روبرتو بانيني، ما أثار اعتراضات ضد الفيلم حتى من قبل غربيين، احتجوا على إدخال الكوميديا في فيلم يتناول مأساة بحجم “الهولوكوست“. هذا للقول إن ما أضفاه بانيني على فيلمه الحائز على أكثر من أوسكار، إلى جانب إعطائه الكارثة الإنسانية حقها وإضاءته عليها وعلى تفاصيلها، كانا على الضد من النظرات المتجهمة التي ترى إلى العالم مجموعة من السراديب والغابات المعتمة، يقبع فيها ماسونيون ويهود وبشر بعيون حمراء وأجنحة ومناقير مدبّبة.. يتآمرون على “أمتنا” و“بلادنا” و“ديننا” و…
إنكار المحرقة ووضعها في إطار “المحاولات الصهيونية المتكررة لإعادة تشكيل الوعي الغربي“، هي مسائل ثابرَ عليها مثقفون عرب كُثر، ولأسباب كثيرة من وجهة نظرهم، منها أن “الاعتراف بها يبرر قيام دولة اسرائيل ويُشرْعن سياساتها ضد الفلسطينيين والعرب“. والحال، أن استثمار إسرائيل في موضوع المحرقة وتلطّيها بها، واستغلالها عقدة الذنب الأوروبية تجاه الهولوكوست في سياساتها العدوانية وحروبها ضد الفلسطينيين هو أمر واضح ولا لبس فيه، كما أن بعض الأفلام حول المحرقة لم تكن بعيدة عن هذا الاستثمار السياسي. غير أن هذا شيء، والقول بأن المحرقة لم تحصل.. شيء آخر تماماً. واستطراداً، تفتقد المعارضة “السياسية” السورية، مثلاً، النية والقدرة على العمل السياسي والثقافي انطلاقاً من المحرقة والإبادة التي ارتكبها ولا يزال يرتكبها بشار الأسد بحق السوريين، وإلى تحويلها إلى قضية عامة من الممكن أن يكون لها تأثير. هذا الخلل العضوي فهِمه وأدركه ناشطون ومثقفون سوريون وغربيون يوثقون ويتابعون ويُعدّون الأفلام والوثائقيات التي تعرض على الشاشات الغربية، حول ما حصل في سوريا، ويعملون على نقل نصوصهم عن الثورة وترجمتها إلى لغات البلدان الأوروبية حيث يعيشون. في المقابل، سبق لمعارضين سوريين كثيرين أن كتبوا بعد الثورة عما أسموه “إنكار الغرب للمحرقة السورية واعترافه بالمحرقة اليهودية التي لم تحصل“، ما يجعل الانصراف إلى “تجديد دماء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” مسألة أكثر إلحاحاً بالنسبة لهؤلاء، ويجعل قطاع الثقافة والمعرفة مرذولاً لصالح دهاليز السياسة و“كولساتها” ومؤامراتها التي لا يمكن إنكارها في صفوف السوريين هذه المرة، لا الغربيين.
ولنا أن نتساءل وسط كل هذه الإنكارات للمحرقة اليهودية عن “أسباب هذا الحرص العربي والإسلامي على تبرئة أوروبا من الجريمة!” على ما أوردَ، مُحقّاً، الكاتب الفلسطيني خالد الحروب، الذي يتابع في كتابه “المثقف القلق ضد مثقف اليقين” قائلاً إن “الموقف الإنساني الواضح في إدانة المحرقة لا يؤثر على الموقف من عدالة قضية فلسطين، ولا يضفي أي شرعية على إسرائيل وعلى ما تقوم به من جرائم ضد الفلسطينيين، بل يعزز من ذلك الموقف ويجعله أكثر صلابة“.
في الإطار عينه، وفي كتابه “العرب والمحرقة النازية“، يرى جلبير الأشقر أنه “عندما يخضع بعض العرب، وهم للأسف عديدون، للبارانويا الجماعية إلى درجة اعتقاد أن المحرقة أسطورة اقترفتها مؤامرة يهودية دولية واسعة من أجل شرعنة الصهيونية القائلة بإنشاء دولة لليهود، فإنهم لا يتوقفون لكي ينظروا في الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره، والذي يتمثل في أن أولئك الذين بذلوا أقصى الجهود في إسماع صوت القضية العربية في الغرب، هم مفكرون يستندون إلى الدروس الإنسانية العامة للمحرقة“.
أنظمة الممانعة العربية تكرّس فكرة “أسطورية المحرقة“، وهذا دين الممانعة وديْدنها عبر صحفها ومجلاتها وفضائياتها. لكن، ثمة “مثقفون” و“سياسيون” عرب قادمون من بلدان ارتكبت فيها إبادات فظيعة أيضاً، ينكرون المحرقة اليهودية بدورهم، علماً أن الفضاء الأساسي للنقاش حول هذا الموضوع هو الفضاء الأوروبي، كما النقاش حول ضرورة رفع القوانين الأوروبية التي تجرّم منكري المحرقة والعقوبات بحقهم في أوروبا.
لا ناقة لهؤلاء المعارضين العرب في ذلك الإنكار ولا جمل، لكن لا يصعب العثور بينهم على أصوات إنكارية موازية وكتابات نوستالجية تحنّ، مثلاً، إلى صدام حسين وتنكر، أيضاً، ما اقترفه بحق الأكراد في حلبجة. غالباً ما تأتي عبارات الإعجاب العربية بصدام حسين من منطلق كونه “الرجل الشهم الذي لم يستسلم” و“وقف شامخاً أمام منصة الإعدام“، و“البطل الذي دافع عن الماجدات العراقيات“. وغنيٌ عن القول إن عبارات “الرجولة” و“الشموخ” هي مما يعج به القاموس العربي غير السياسي، على حساب مصطلحات سياسية غائبة منذ وجدت “السياسة” في هذه المنطقة.
عود على بدء، والحديث في هذا المجال يطول. ذلك أن الفيلم السياسي والثقافي العربي الكوميدي في علاقته مع العالم، والممتد منذ عقود طويلة، يبدو فيلماً وخطاباً فوق تاريخي، وعصيّاً على التغيّر والتبدّل الذي يلحق بالبشر والأشياء، وهو مما لا سبيل إلى التعامل معه إلا على سبيل “الفُرجة” لا أكثر. هكذا، وحفاظاً على ما تبقى من عقل وتعلق بالجمال والإبداع، تمكن العودة مرة ثانية إلى أفلام عظيمة، أو إلى مقاطع فيديو كالتي تصور حصول كيت وينسليت، بطلة فيلم “القارئ“، على الأوسكار المستحَقّ كأفضل ممثلة عن دورها وبطولتها في الفيلم الممتاز إياه.
عبد الله أمين الحلاق