د . محمد الشاكر – الناس نيوز ::
تُصورُ وسائل إعلام أمريكية وغربية مايجري في فلسطين على أنه عمل لـ ” مجموعة إرهابية صغيرة اسمها حماس، تختبئ في مساحة صغيرة اسمها غزة”.
فبسطحية ممنهجة يختصر الإعلام العالمي بشكل عام القضية الفلسطينية بقطاع غزة فقط، ويختصرون كل الشعب الفلسطيني بحركة حماس، وهذا أخطر ما قد يواجه قضية شعب تاريخية كالقضية الفلسطينية.
إن عملية “طوفان الأقصى” ليست سوى تجلٍ لتاريخ طويل من التجليات التي تمظهرت بها القضية الفلسطينية خلال 75عاماً من القهر الفلسطيني، الذي ظهر بمئات التسميات لمكونات سياسية وعسكرية متعددة التوجهات والمشارب، يجمعها هدف واحد هو القضية الفلسطينية كقضية شعب اجتُث من أرضه ليُرمى في الشتات، في تجاهل واضح للكثير من القرارات الدولية التي صدرت بإجماع دولي.
فمع مَوات مبادرة وزير الخارجية الأمريكي روجرز واستقالته عام 1969، تخلت الولايات المتحدة عن دور الوسيط في الصراع الإسرائيلي العربي، فظهرت إداراتها المتعاقبة تتأرجح بين سياسة التوازن في إطار حل الدولتين، وبين التحيز التام لإسرائيل واعتبارها كمخفر أمامي لاستراتيحيتها.
بين هذا وذاك عَرف الصراع الإسرائيلي العربي أنهاراً من الدم، بالتوازي مع عمليات سلام هنا وتطبيع هناك، في محاولة لتحييد أو تجميد كثير من الملفات العالقة وربما تصفيتها، ممتطيةً بذلك ظهر القضية المركزية فلسطين، دون الولوج في جذر المشكلة. ولهذا ظلت القضية الفلسطينة حبراً على ورق الملفات التي تدور في فلكها دون أن تعمل على حلها.
يختصر وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الشرق الأوسط بالمنطقة العربية، ويُخصص الصراع مع إسرائيل بالدول العربية التي خاضت حرب 1948 فقط، ولهذا ظلت هذه الدول – كما إسرائيل- تارة في حالة استقرار نسبي، وتارة أخرى في حالة حرب مفتوحة، ما أبقى الصراع جُرحاً نازفاً لا ينتهي.
ولعل إدراك رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين لهذه الحقيقة، هو ما دفعه لتقديم وديعته الشهيرة التي أدت لاغتياله في عام 1995.
لذلك تضع إسرائيل في مقدمة أولوياتها عقد صفقات السلام والتطبيع مع الدول العربية التي لا تزال معنية بالصراع، إلا أن إسرائيل تريد لهذا التطبيع أن يكون نوعاً من الاعتراف بها كأمر واقع، وبالتالي فهي تعمل على سلام تحاول عبره تحييد الدول المعنية بالصراع دون الالتفات للقضية الفلسطينية والفلسطينيين.
وإن كانت دولة الاحتلال اشتغلت على تبديد فرضية عيشها في محيط من الكراهية العربي؛ إلا أنها لا تزال تسْتَمْرِئُ حالة العيش في محيط من الكراهية الفلسطيني كاستراتيجية اشتغلت وتشتغل عليها كثقافة تعود في جذورها إلى ثقافة الغيتو (التجمعات السكنية المغلقة) سبيلها في ذلك – منذ عقود- إقامة المستوطنات على الأرض الفلسطينية.
ولهذا شاهد العالم بأسره مقتل الناشطة الأمريكية راشيل كوري التي قُتلت ضمن مجموعة وضَعت نفسها كدرع بشري لمنع تدمير البيوت الفلسطينية ونَقلِ سكانها وتجريف مزارعهم في جريمة حرب موصوفة في القانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية.
إن ما حصل في عملية ” طوفان الأقصى”، ليس سوى تَجلٍ وردة فعل لتلك السياسات، إلى الحد الذي لم تأبه به إسرائيل عبر جلب المستوطنين من كل بقاع الأرض وزرعهم في مواجهة مباشرة مع الفلسطينين؛ معتقدةً أن سوراً من الأسلاك الشائكة قادر على هدم التاريخ والجغرافيا الفلسطينية؛ كفرضية تعمل على تأخير انفجار الصراع وليس منعه، كلما سنحت الفرصة لذلك.
بالعودة للدور المركزي والتاريخي للولايات المتحدة وعلاقتها مع إسرائيل، أدت التراكمات التي خلفتها إدارة بايدن للمزيد من الاحتقان لدى الفلسطينيين.
إذ أظهرت تجاهلاً تاماً للحقوق الفلسطينية وصلت إلى حد الاستفزاز عبر تصريحات الرئيس الأمريكي بايدن الفخور دائماً بـ “صهيونيته” والمتحمس لها، في نأي واضح عن الدور المنوط بالولايات المتحدة كدولة عظمى، وهي العقيدة التي تُذكرنا بتحمس بايدن ذاته لكذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، التي أودت بحياة أكثر من مليون عراقي، ودفع ويدفع ثمنها العالم أجمع، بعد أن تحول العراق إلى مفرخة للمليشيات والجماعات المتطرفة.
وتبدو عملية إرسال الولايات المتحدة لحاملة الطائرات الأمريكية “جيرالد فورد” إلى الشرق الأوسط، كعملية لها مآرب خارج حسابات حل القضية الفلسطينية، إذ تيقنت إسرائيل أن مايروج له إعلامياً ليس سوى “بروبوغندا”، وأن القول بأن الشرق الأوسط بعد هذه العملية لن يكون كما بعدها، ماهو إلا قول إعلامي ليس إلا، فقد أخذ الشرق الأوسط – الذي اختصره كيسنجر بالدول التي خاضت حرب 1948- ما يكفي الدمار والتشريد والموت والتقسيم والاقتتال الداخلي والجوع والنزوح، والقهر، والحرمان، ولم يتبق منه سوى مستقبل مفتوح على الفوضى التي ستدفع ثمنها المنطقة بأكملها.
إنّ فرضية القول الإسرائيلي باجتياح بري لغزة تبدو أشبه بالانتحار المتبادل، فإسرائيل ترك أنها عاجزة عن القيام بحرب توسعية طويلة لاتتحمل تكاليفها سواء على الصعيد الاقتصادي داخليًا، أو بسبب تخوفها من الخسائر البشرية التي لا تصب في صالحها في حال توسعت خارجيًا.
ولهذا كله؛ فإنّ ما جرى ليس سوى حلقة من مسلسل طويل من الحروب والانفجارات والتوترات التي لم ولن تنتهي إلا بالنظر إلى القضية الفلسطينة كحق تاريخي في إطار حق تقرير المصير والقرارات الدولية ذات الصلة.
لذلك يُخطِئ من يختصر القضية الفلسطينية ويتصورها كمكسر عصا للتجاذبات الدولية والإقليمية، فهي ليست قانونًا يتم تمريره في الكونغرس، وهي ليست ورقة بملف تفاوضي بين الولايات المتحدة وخصومها، وهي ليست تطبيعًا بين أنظمة، هي ليست “فتح” وليست “حماس” وليست غزة أو القطاع، كما أنها ليست حكراً لمحور دون آخر.
إن فلسطين هي قضية شعب لا يزال يحتفظ بمفاتيح البيوت منذ 75 عاماً، ويتسلح بذاكرة هائلة من القوى الناعمة العصية على الفناء. إنه شعب يحظى بمخزون تاريخي وثقافي وتراثي أقوى من الصواريخ والدبابات وحاملات الطائرات. وهو شعب يضج بأجيال من المثقفين والأدباء والفنانين والروائيين والفلاسفة والمفكرين الذين شكلوا في منافيهم بوصلة للفكر العربي والإنساني المعاصر.
لذلك يخطئ من لا يقرأ القضية الفلسطينية من جوانبها المرعبة هذه، أو لا يقرأها من تغريبة الفلسطيني المروية بمرارة “حنظلة” الذي أدار ظهره للمتاجرين بقضيته والذي لا يزال يتجلى ويتمظهر في كل جيل فلسطيني.
إن فلسطين هي قصة “حق لايموت”، يرويها الآباء عن الأجداد والجدات، هي قضية الإنسان الفلسطيني الذي اجتُث من أرضه ليُرمى في الشتات في تجاهل لحقوق الإنسان التي يتغنى بها العالم المتحضر.
انها قصة انتهاك واضح للمواثيق الدولية وللأمم المتحدة المعنية بالتبعات الرئيسة لحفظ السلم والأمن الدوليين التي تحولت إلى دمية رثة يتحكم بها من يحاولون لي عنق التاريخ كحدس ومعنى متجاهلين طوفان ما هو آت.
أيها الملأ، اقرؤوا فلسطين في عيون الأطفال الفلسطينيين العُزل في الداخل، في حنقهم وسخطهم في وجه البندقية، وفي دفاتر المشردين وكتاباتهم على جدران المخيمات في الشتات، وفي قصائد محمود درويش كحقيقة وذاكرة في قلب الإنسان العربي والفلسطيني، إنها حقيقة موجودة وجود الملح في الخبز والزيت في الزيتون.
” لو يذكر الزيتون غارسه، لصار الزيت دمعًا”
من هنا تُقرأ فلسطين ليس إلا.
د. محمد خالد الشاكر / باحث سوري ، وأستاذ في القانون الدولي.