د . محمد حبش – الناس نيوز ::
كإنسان لا أستطيع أن أفرح أبداً بأي مشهد موت، ولا بأي مشهد ذل، لقد كتبت ألف مرة في معاناة الفلسطينيين، عذابات السوريين، وأصارحك بأن الشعور إياه يخامرني عند أي معاناة، بما فيها معاناة النساء الإسرائيليات والمستوطنات اللاتي رأيتهن يجرجرن إلى أقدار رهيبة في سياق طوفان الأقصى، وهو قدر لا أتمناه لأحد على الإطلاق، مع أنه ليس أشد توحشاً مما فعله الإسرائيلي بكثير من الأمهات الفلسطينيات ولا زال يفعله كلما شمخ بغروره وانخدع ببسطاره وظن أنه قادر على فرض الأمن بالمدفع والرشاش.
ولكن هذا المشهد الذي صدم العالم هو في الواقع مشهد التاريخ الطبيعي، وهو القضاء والقدر الذي حكم الله به هذا العالم، فالظلم لا يخنق إرادة الأحرار،
ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.
هل أدرك عتاة الحرب الصهيونية أنهم كانوا يقامرون بشعوبهم ومستقبلهم عندما كانوا يفرضون إرادتهم بمقامع من حديد، وهل يدرك الإسرائيليون بأنهم ارتكبوا جرماً فظيعاً بحق أجيالهم الآتية عندما غرهم سلاحهم المتطور، وقبتهم الحديدية ودبلوماسيتهم المدعومة دولياً، وقطار التطبيع المهرول فتحولوا إلى قطعان بطش ظالمة لا يبالون بعذابات الشعوب، ويرسمون باموالهم ونفوذهم مشهد الشعب المختار الذي يسخر الغوييم في أهوائه ومشاريعه.
هل أدركوا وهم يصرون على بناء المستوطنات في أرض الفلسطينيين وفق ما منعته اتفاقية أوسلو بحزم، ويرفضون حل الدولتين، أنهم يذكون جداراً من دم يوحي إلى جيل الغد بالبغضاء؟ .
هل أدركوا وهم يقومون بزياراتهم المكوكية إلى العواصم العربية التي استقبلتهم أن حضورهم هناك لا يعني أبداً أن بإمكانهم القفز فوق حقوق الناس وإرادات الناس وعذابات الناس، وأن الغضب المكتوم قادم، ويومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً؟؟؟.
منذ أن قام التشدد اليهودي بقتل إسحاق رابين وقام التشدد الإسلامي بقتل السادات، ذهبت حكومات إسرائيل في سياق متصاعد من الكراهية والأحقاد، ويوماً فيوماً يتزايد إنكار حقوق الشعب الفلسطيني وبالتالي يغلي غرور الدم الأزرق ويقول بعضهم لبعض بإمكاننا أن نفعل كل شيء، والعالم سيقبل في النهاية خيار إسرائيل.
لم يتوقع أحد هذا الحجم من الغضب الفلسطيني أو تحديداً هذه القدرة للغضب الفلسطيني على تغيير مجرى التاريخ، فأحداث الأيام الأخيرة حفرت في تاريخ إسرائيل، وستقرؤها الأجيال أياً كانت التضحيات التي ستعقبها، ولكنها في سياق السنن الكونية نتيجة حتمية، فالضغط يولد الانفجار، وإذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أ ينكسر.
من المؤسف أن إسرائيل لم تقرأ شيئاً من درس التاريخ وأنها عادت على الفور لتنفيذ سلوكها المتغطرس إياه، ويعلن أشرارها اليوم أنهم ذاهبون ليمحوا غزة من الوجود، وأنهم قادرون على مزيد من البطش والظلم، وأنهم لن يتوقفوا حتى يسووا غزة بالأرض!!
سيفعلون ذلك ولكن وفق حركة التاريخ فإنهم يفعلون تماماً ما قاله لهم أحمد شوقي
ركزوا رفاتك في الرمال لواء *** يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا مناراً من دم **** يوحي إلى جيل الغد البغضاء
إنه منطق الدولة المتوحشة، ولعل من سخرية القدر أنه يتم الآن بالتزامن تنفيذ هذا السيناريو المتوحش في البلدان الثلاث المتجاورة، فالنظام الأسدي في سوريا ينتقم من إدلب، والنظام التركي يقصف الشمال السوري ، والنظام الإسرائيلي ينتقم من غزة، والذريعة واحدة في الجرائم الثلاثة وهي مواجهة الإرهابيين.
لا يمكنكم أن تقفزوا فوق حقوق الشعوب وتركبوا أقدارهم وتسرقوا بيوتهم وأرضهم ثم تقولون إنهم سيرضخون في النهاية ولا داعي للإنصاف فسينسى الآتون صراخ الراحلين، وتستوي الحياة كما يريد الظالم… .
كان من أشد الأمثلة التي ورثناها من آبائنا حكمة ووعياً قولهم: سيل سال لا بد أن يسيل، وهو مثل تضربه العامة للذين يبنون بيوتهم في مجرى السيل ، ولو كان جافاً ولا أثر فيه لماء، وقد بنيت بالفعل قرى كثيرة في مصب السيل ومضى ثلاثون عاماً وأربعون عاماً ولم يصبهم شيء حيث أن السيل قد توقف تماماً منذ عقود، وباتت الأرض جافة لا أثر فيها لري، ولكن الراسخين في الأرض يعلمون أن سيلاً سال لا بد أن يسيل، وذات يوم انتفض سيل درنة فجرف في دربه المدينة كلها بكل ما فيها، وأعلن أنه يرفض أن يموت.
هو كذلك هذا الشعب الفلسطيني الصابر، وهي كذلك انتقاضته الهادرة، ومهما كانت نتائجها فهي ستفرض واقعاً جديداً، وستمنح الفلسطيني المقاوم إرادة من جديد، وسيجد الفلسطيني المفاوض أوراقاً مؤثرة قادرة، قد تسهم في كتابة التاريخ من جديد.
مر عيد الغفران اليهودي خمسين عاماً بشكل هادئ، وأوشك الاسرائيلي أن ينسى تماماً يوم الغفران قبل خمسين سنة بالتمام والكمال يوم اندلعت حرب تشرين، وكانت يوماً دامياً قاسياً، عانت فيه الشعوب المقهورة من دورات جديدة من العنف .