أمير سعادة
في مُذكّراته المنشورة سنة 1949، يُطلق العلامة السوري محمد كرد علي صفة “غلمان السياسة” على الشباب المحيطين بالملك فيصل الأول، عشية المواجهة مع الجيش الفرنسي في معركة ميسلون. هؤلاء الشباب كانوا مُتحمسين للقتال، لا يعرفون شيء عن فنّ التفاوض، ولا يدركون مدى خطورة الدخول في معركة مع الفرنسيين، كان من المؤكد أنها ستؤدي إلى هلاك الجيش السوري. وبعد أن طاوعهم فيصل مُجبراً وكانت النتيجة هزيمة الجيش السوري، وخلع فيصل عن عرش سورية.
إن مصطلح “غلمان السياسة” الذي أطلقه محمد كرد علي ينطبق على كل زمان ومكان، وهناك الكثير الكثير من السياسيين العرب الذين يستحقونه بجدارة. لعل أبرزهم المشير عبد الحكيم عامر، الذي قاد الجيش المصري إلى الهلاك سنة 1967، بعد أن وعد جمال عبد الناصر بمحاصرة تل أبيب وتدمير الجيش الإسرائيلي. لولا هذه “النصيحة” لما كان عبد الناصر دخل في حرب الأيام الستة، التي أدت، وكما هو معروف جيداً، إلى احتلال سيناء والقدس الشرقية والجولان السوري.
وينطبق تعبير “الغلمان” أيضاً على كل من هلّل لصدام حسين عندما أمطر تل أبيب بالصواريخ سنة 1991. ظنوا مخطئين أن هذه الصواريخ ستؤدي إلى خراب إسرائيل، دون إدراك مدى خطورتها على مستقبل العراق ورئيسه. وفي كتابه الشهير “أوهام القوة والنصر” يقول محمد حسنين هيكل أن القوات العربية المشاركة في تحرير الكويت رقصت وتعانقت وبكت فرحاً عندما سمعت أن صواريخ صدام قد وصلت إلى تل أبيب، ولكنها سرعان ما تمالكت نفسها عندما تذكرت أنها كانت تقف يومها في المعسكر المقابل لصدام حسين، وعليها أن تقصف ذات القوات العراقية التي كانت تضرب إسرائيل.
هذا التشبيه بوصلنا إلى ما يحدث اليوم في قطاع غزة. العالم الإسلامي كلّه قد أيد الصواريخ التي أطلقتها حركة حماس مؤخراً على إسرائيل، والتي سقطت فوق تل أبيب وبئر السبع وغيرها من المُدن الإسرائيلية. بعيداً أن النشوة الآنية العارمة التي حققتها تلك الصواريخ، علينا أن نسأل، بهدوء وبرودة أعصاب مطلقة: هل غيرت هذه الصواريخ شيئاً في الصراع العربي الإسرائيلي؟ هل أرغمت بنيامين نتنياهو على التراجع والاستسلام، أم أنها زادت من شراسة جيش الاحتلال؟ المؤيدون لحركة حماس يبررون القصف من مُنطلق الدفاع عن النفس، وهو حق مشروع ومقدس، ولكن وكما يقول رسول الله (نقلاً عن الإمام علي): “إنما الأعمال بالخواتيم” والأيام بعواقبها. فكيف ستكون خاتمة هذه المعركة بين حماس وإسرائيل؟ أكاد أجزم أنها لن تُنهي الاحتلال كما لن ترفع الحصار عن غزة وحكماً، هي لن تحرر القدس.
الكثير من القراء سيعتبرون هذا الكلام استسلاماً وخنوعاً وجبناً، مرددين أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة. دعونا نسترجع فصول سريعة من الصراع العربي الإسرائيلي. في هذا التاريخ الطويل نصرين فقط لا غير للعرب، وكلاهما في معارك لا في حروب. كان النصر الأول في معركة الكرامة يوم 21 آذار 1968، بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. دامت هذه المعركة 15 ساعة متواصلة، وكانت نتيجتها انسحاب الجيش الإسرائيلي. والنصر الثاني كان في معركة السلطان يعقوب في سهل البقاع سنة 1982، بين الجيش السوري وإسرائيل. دامت هذه المعركة ست ساعات، أدت إلى مقتل 30 جندياً إسرائيلياً وتدمير 10 دبابات. وفي خطبه، يعتبر حسن نصر الله أن حرب عام 2006 كانت “نصراً إلهياً” لأن إسرائيل لم تحقق هدفها المُعلن من الحرب، وهو إطلاق سراح الجنود المختطفين من قبل حزب الله. أما عن بقية المفاصل التاريخية، فإن العرب هزموا في حروب 1948 و1967 ولم يحققوا هدفهم في حرب 1973.
صحيح أن مصر استعادت سيناء بعد الحرب وسورية استعادت مدينة القنيطرة المدمرة، ولكن ذلك تم بالتفاوض وليس بقوة السلاح، عبر الجولات المكوكية التي قام بها وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كسنجر مع الرؤساء أنور السادات وحافظ الأسد. طبعاً، لولا النصر المبكر الذي حققه الجيش السوري يومها، ولولا ملحمة العبور التي أنجزها المصريون، لما كانت إسرائيل استجابت للمفاوضات السياسية. ولكن شتان بين تلك الانتصارات وبين ما يحدث اليوم في غزة.
اعتاد الإعلام على تصوير قادة حماس الجدد على أنهم من جيل الشباب، وهو كلام صحيح لو قارناهم مع الشيخ أحمد ياسين وخالد مشعل، ولكنهم ليسوا “غلماناً” من الناحية العمرية أبداً، فمحمد ضيف عمره 56 سنة ويحيى السنوار يقترب من عتبة الستين (وهو من مواليد 1962). هؤلاء ليسوا شباب يافعين ومتحمسين، ولكن رجال واعين، ومن المُفترض أن تكون خبرتهم بالحياة (ومنها سنوات الاعتقال الطويلة) قد ثقلتهم بشدّة.
بعيداً عن الدمار الذي خلفته الغارات الإسرائيلية الأخيرة في قطاع عزة، فإن حصيلة الشهداء قد وصلت إلى 200 شخص، 58 منهم من الأطفال. أما في إسرائيل، فلم يتجاوز عدد القتلى العشرة أشخاص، ونتنياهو يقول إنه ليس في عجالة لوقف العدوان وأن جيشه سيستمر بالضرب حتى تحييد حماس بالكامل.
معظم من أرّخ للقضية الفلسطينية يعترف أن أحد أهم أسباب نجاح الانتفاضة الأولى هو العصيان المدني، وأطفال الحجارة العُزّل الذين أبهروا العالم بشجاعتهم وبسالتهم ووقوفهم أمام الدبابات والمجنزرات الإسرائيلية. تلك الانتفاضة أحرجت إسرائيل كثيراً، وحققت تعاطفاً شعبياً منقطع النظير (قول وجود كل وسائل التواصل الاجتماعي) استطاع ياسر عرفات استغلاله سياسياً لصالح قضيته (علماً أنه كان بعيداً عن الحراك منفياً في تونس، ولا علاقة له به بالمطلق). ثم كانت الانتفاضة الثانية التي بدأت بنفس الطريقة، احتجاجاً على زيارة أرئيل شارون إلى المسجد الأقصى، قبل أن تنقض عليها حركة حماس. أزاح مقاتلو حماس جميع نشطاء المجتمع المدني الفلسطيني، وحولوا المشهد إلى مواجهة عسكرية دامية، فيها أحزمة ناسفة واستشهاديين وجهاديين، ما خوّف العالم منهم وجعله يقف صفاً واحداً خلف إسرائيل.
الانتفاضة الأولى كانت أحد مسببات مؤتمر مدريد، ومن ثم مفاوضات واشنطن وصولاً إلى اتفاقية أوسلو، أي أن لها نتيجة سياسية ملموسة وواضحة، كان من الممكن أن تُثمر لولا تعنت السياسيين الإسرائيليين وتغلب معسكر الصقور على دعاة السلام في تل أبيب. أما الانتفاضة الثانية، فقد طالت وماتت تدريجياً ولم تحقق أي مكاسب للشعب الفلسطيني، لا سياسياً أو عسكرياً.
ولو بقي الحراك في القدس كما كان عليه قبل أيام، عندما تجمهر 100 ألف شخص في جوار المسجد الأقصى احتجاجاً على جريمة حي الجراح، لكان أنفع للقضية ولفلسطين من عسكرة المشهد من قبل حماس. هؤلاء الشبان خرجوا من دون قائد، ومن دون منظر أو أي أجندة سياسية، يجمعهم الشعور الوطني وهدف واحد فقط لا غير، وهو حماية أهلهم في حيّ الجراح من الترحيل القسري. ما فعلته حماس هو ذات الشيء الذي قامت به منذ عشرين سنة، عندما أزاحت الشباب الفلسطيني الثائر والمنتفض عن المشهد، واستبدلته بجهاديين ومُقاتلين.
فمشهد الناشطة الفلسطينية مريم عساف، وهي المرمية على الأرض في حيفا وجنود الاحتلال يدوسون فوق رقبتها، كان أفضل للقضية من أي تصريح صدر عن أي مسؤول من حركة حماس، غلمان السياسة الجدد.