بثينة الخليل – الناس نيوز ::
“جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح”. كلمات ألهبت بها “ثومة” الجمهور السوري وجعلتهم ينتفضون من مقاعدهم في خمسينيات القرن الماضي، عندما أدتها على مسرح مدرسة “اللاييك” بشارع بغداد، في شامة الدنيا دمشق.
وكان في استقبال كوكب الشرق السيدة أم كلثوم يومئذ رئيس مجلس النواب الرئيس “ناظم القدسي” والوزير “عبد الباقي نظام الدين”، الذي كان قد تقدم إلى جامعة الدول العربية بمقترح أن تكون زيارة السيدة أم كلثوم لكل عاصمة عربية جزءاً من ميثاق العمل العربي المشترك.
طرفة البارودي..
فخري البارودي الزعيم السياسي والموسيقي وأحد ظرفاء دمشق في القرن العشرين كان من أشد المعجبين بـ “الست” وبصوتها. ويُقال بأنه لم يغب عن حفلاتها أبداً، واستقبلها أكثر من مرة في داره الكائنة في حي القنوات بدمشق التي كان يجتمع فيها نخبة من رجال السياسة والأدب والثقافة والفن.
في أحد أيام عام 1955 حصلت طرفة بين البارودي وأم كلثوم، عندما غنت وصرخ بأعلى صوته: “الله يبليكِ بحبي”، فضحكت أم كلثوم وحصل الهرج والمرج فعاد ليقول البارودي: “يا أم كلثوم يبليكِ بحبي إن شاء الله بجاه الحبيب”.
كلمات البارودي هذه باتت خالدة، فقد كانت واضحة في جميع تسجيلات هذه الحفلة التي أقيمت في دمشق، بحسب الباحث والصحفي شمس الدين العجلاني، الذي ذكر الحادثة تحت عنوان “رحلتها إلى دمشق”.
دليلي احتار وحيرني..
ما بين “دليلي احتار “و “شمس الأصيل”، يستذكر المؤرخ السوري سامي مبيض أن هذه الأغاني أدتها الست أم كلثوم على خشبة معرض دمشق الدولي، خلال زيارة أخرى لها إلى سوريا في سبتمبر/أيلول عام 1957.
ويشير المبيض إلى أنهم وضعوا مكبرات صوت في أرض المعرض، لنقل صوت أم كلثوم إلى أبعد حي وزقاق من أزقة دمشق، ولم تترك “الست” دمشق إلا وكان قد قلدها رئيس الجمهورية شكري القوتلي وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة.
أما أغنيتي “ذكريات” و “عودت عيني” شاركت فيهم السيدة، بحسب المبيض، في فعاليات المعرض مجدداً خلال زيارتها الرابعة إلى دمشق عام 1958، بعد أشهر من قيام الوحدة بين سوريا ومصر.
وأشار المؤرخ إلى أن أول حفلة أقامتها “صاحبة العصمة” في العاصمة السورية، كانت سنة 1931 عندما جاءت من بيروت برفقة المتعهد أحمد الجاك، وكانت قيمة التذكرة آنذاك ليرة ذهب رشادية، وأن من لم يملك ثمنها من المعجبين قام ببيع سجّاد منزله، وأن سيدات قمن برهن حليهن ومجوهراتهن لكي يحضرن أم كلثوم في حديقة المنشية بدمشق.
أم كلثوم: “كيف لا أحب السوريين؟”
ولعل زيارات أم كلثوم المتكررة إلى سوريا كانت باعتبارها مهد الحضارات أولاً، وثانيا لأنها أحبتها وأحبت أهلها.
فقد ذكرت مجلة “الحوت” الدمشقية قبل 75 عاماً ما خطته “ثومة” لها حول محبتها لسوريا والسوريين ومن ضمن ما كتبته: “كيف لا أحب السوريين وهم الذين يقدرون الفن وغواته والعاملين على رفع راياته؟ نعم أسر سروراً عظيماً عندما أجد من سامعي غنائي أناساً من السوريين الذين يدركون قيمة الفن ويسمعون نغماته على الأصول التي أوجدها الفنانون، وهذه مزية امتاز بها إخواني السوريون عن غيرهم”.
إلى عروس الساحل السوري..
وبعد دمشق شدت أم كلثوم الرحال إلى مدينة اللاذقية التي غنى على مسارحها ثلة من قامات الفن والموسيقى والغناء العربي، وتحديداً مقهى “شناتا” البحري على كورنيش اللاذقية الغربي. وفي أحد مساءات سبتمبر/أيلول عام 1931 أحيت كوكب الشرق حفلة فيها حضرها وجهاء المدينة وأعيانها، دافعين ثمن بطاقة الدخول الباهظ، التي يقال إنها وصلت إلى ليرة ذهبية بحسب المؤرخ وابن مدينة اللاذقية السيد نعمان صاري.
وأجمل ما غنت كوكب الشرق لعشاقها في اللاذقية: “إن كنت أسامح وانسى الأسيه” من ألحان محمد القصبجي. وبحسب الصاري أنه لشدة الحماس ونشوة الطرب كان المعجبون بين الوصلة والأخرى يلقون أبيات الشعر في الثناء على الست. ومن بينهم منح هارون إذ أدهشها حين قال: “يا أم كلثوم.. لقد استغابك اثنان.. وصمت.. فذهلت أم كلثوم ثم عاد يقول: الأول قال عنك ملاك.. والثاني فوق أفلاكي”.
حلب الشهباء تتذوق حلاوة الفن..
وفي حلب الشهباء، أم الطرب وأم القدود والموشحات، كان عام 1931 لقاء قمة الغناء السيدة أم كلثوم، ومع قمة تذوق الغناء. كتب الباحث عبد الله يوركي حلاق في كتابه “حلبيات”: “أهلُ حلب لهُم آذان موسيقيّة سليمة تميّز النغمة الصحيحة منَ النشاز، فهُم فنّانونَ بالفِطرة، يُصغونَ إصغاءً تامّاً للصّوتِ الرخيم واللحنِ الجميل والأداءِ المُتقَن”، ولإعجاب كلثوم بحلب وتذوق أهلها الفن، كان لهم نصيباً في زيارتها لهم ولقائهم في مدينتهم، محققة بذلك نجاحاً فاق كل وصف.
وشهد الموسيقار كميل شامبير هذا النجاح، وكتب مقالة استهلها بقوله: “أحيت المطربة النابغة أم كلثوم ثلاث ليال غنائية في حلب، في وسعي أن أقول إنها من ليالي الدهر، فقد كان الإقبال عظيماً على هذه الليالي، وكانت الصالة تضم كل ليلة ما يربو على ثلاثة آلاف نسمة، كلهم من صفوة القوم ومن أحسن هواة الغناء الذين يقدرون الموسيقى ويتذوقون حلاوتها بفهم وتقدير”.
هكذا كانت سوريا، وهكذا كان السوريون، بلاد الذواقة، ومقصد كبار المبدعين، إلى أن يتراجع كل شيء فيها، وينحط، بفعل فاعل.