د.علا نصر – الناس نيوز ::
يمر الإنسان قبل ولادته بعملية تطوّر عضوي متسلسلٍ دقيق، تماثلها بعد الولادة عملية نمو نفسيٍّ فريد تمر بمراحل عديدة تترافق مع تطوّره طوال حياته. وتبعاً لنظرية (Erik Erikson’s) إيريك إيركسون في التطور النفسي الاجتماعي فإن الشخص يجتازُ ثمانية مراحل متتابعة ومتعاقبة في دورة الحياة، تشغل مرحلة الطفولة المراحل الأربعة الأولى، بينما تشغل المراحل الأخرى بقية العمر.
يواجه الفرد في كل مرحلة عمرية أزمة منذ الولادة وحتى الموت لتشكّل بمجموعها ثماني أزمات نمائية نفسية، تضعه في تحدٍّ واختبار لحلها بواسطة الأنا في المرحلة المناسبة لنمو الشخصية لكي تتقدّم وتكتسب مجموعة من الفضائل والطقوس التي تتشكّل تبعاً للمرحلة.
ومع الأهميّة المُتكافئة للمراحل الثمانية المُنبثقة من بعضها البعض بتتالٍ وتتابع، إلا أننا سنتناول هنا مرحلة في غاية الأهميّة تبدأ مع مرحلة المراهقة التي تمثّل مرحلة انتقال وعبور من اعتمادية الطفولة إلى استقلالية الراشدين الكبار، والتي ربما تؤسس لتكوين هوية قوية وراسخة. هي المرحلة الخامسة وهي: الهوية مقابل قصور الهوية (تشتت الهوية) تمتّد بين 12-18 سنة.
ومع تدفق الهرمونات في سن البلوغ معلنة بداية المراهقة، التي تتجلّى بالتأرجح بين الرغبة الملحّة في الاستقلالية وتحقيق الفردانية، وبين الارتباط بالأسرة والأهل. وفي خضم هذا التخبّط المُعاش نصبحُ أمام مرحلة حرجة، هي مرحلة تَشكّل الهوية الاجتماعية، والهوية الأيديولوجية.
ويبدأ الشباب بالبحث عن ذواتهم، عن معنى لحياتهم، وتظهر أسئلة: من أنا، ما هو مكاني في هذا العالم؟ إلى متى سأبقى مرتبطاً بوالداي؟ وهل يناسبني عالمهم القيمي، ومعاييرهم الأخلاقية؟ من أجل ماذا يجب أن أعيش؟
وإلى أين أتجه في الحياة؟ وفي ظل هذه الفترة الحرجة من الحيرة والضياع والفراغ والأسئلة الوجودية يستجيب المراهقون بحساسية مفرطة لأي ملاحظة توجّه إليهم، ويظهرون ردات فعلٍ ربما مبالغ بها إلى حد ما ولا تتناسب مع الموقف. فكم سمعنا عن يافعين تركوا منازل ذويهم وغادروها بناء على نزاع أو مشاحنة بسيطة مع الوالدين؟!
تبرزُ هنا جماعة الأقران التي تشكّل الجماعة المرجعية بالنسبة للمراهق، في تقييم مظهره، أفكاره، سلوكياته، وكيف يبدو في عيونهم؟ وكلما كانت أكثر موثوقية بالنسبة له، كلما ساهمت باستقطابه ودمجه فيها لدرجة الذوبان.
فتغدو الجماعة كما أشار إيريك إيركسون في كتابه )البحث عن الهُويَّة )، ترجمة البروفيسور سامر جميل رضوان »هي المكان، حيث يتصرف المرء بشكلٍ مختلفٍ، يستطيع فيها تجريب أسلوبه في الموضة والثياب والمظهر، ويتم احترامه في هذا من الشبان الآخرين «ويضيف: » إن الشبان يمكنهم الإحساس بالعشائرية المُلفتة وأن يستبعدوا بصورة وحشية كل أولئك (المُختلفين) في لونهم ومحيطهم الثقافي وذوقهم وفي مواهبهم، والتي تعتبر بالذات علامة على الانتماء لجماعة ما أو عدم الانتماء«.
ربما يقودنا هذا إلى تفسير سلوك الجماعات المتطرّفة كالجماعات الجهادية في التوجّه إلى فئة الشباب في هذه المرحلة الحسّاسة التي يكون فيها المراهق أكثر عرضة للتأثر والقابلية للإيحاء.
حيث باقتناص هذه الفترة الحرجة التي يعاني فيها الشاب من الصراعات الداخلية، الشعور بالارتباك والحيرة والضياع، البحث عن الدور الاجتماعي، وقيمة الذات، ومحاولة الوصول إلى إجابات.
تتلقّف هذه الجماعات المراهقين وتعمل على توفير بيئة بديلة لهم، تمنحهم من خلالها الشعور بالقبول والمكانة والتميّز والأمان الزائف، في لعبة خبيثة يكونون فيها هدفاً غير معلن لمآرب وغايات نبيلة في ظاهرها، دنيئة في باطنها. مُقدّمةً لهم إجابات سهلة لأسئلة معقدة، ومستغلةً في ذلك إحساسهم بالعدمية والإحباط الوجودي وبحثهم عن الغاية والمعنى.
وقد عبّرَ إيركسون عن وجود صلة بين الهوية والأيديولوجيات الراديكالية، فالشباب معرضون للخطر بشكلٍ خاصٍ عندما يبدو أن التغيير الاجتماعي يهدد هويتهم، مما يؤدي إلى دعم عقائد تقدم انغماساً كاملاً في هوية اصطناعية متطرفة، أو عنصرية، وإدانة جماعية لعدو نمطيّ كليّاً للهوية الجديدة.
لاسيّما أن الجماعات المتطرّفة تُدركُ عجز المراهق عن معرفة نفسه بوضوح، وعن تكوين إحساس مستقر بذاته، وتقدير قيمته الحقيقية، وبالتالي بحثه عن هياكل خارجية جامدة سلطوية وقادة أقوياء يخلصُ لهم، وهذا بدوره سيؤدي إلى التعصب والتطرّف والتمسك الأعمى بما يراه حقاً دون النظر إلى الوقائع، واكتساب الأيديولوجيات السلطوية زخماً أكبر.
يذكر شوارتز وآخرون، Schwartz et al »إن الأفراد التائهين والمشتتين أكثر عرضة لإغراءات الإرهاب، لأن الأيديولوجيات الإرهابية تُتبنى بيقين وهدف والتزام، مما قد يوفر إحساساً بالاتجاه لحياة كانت بلا هدف من قبل«.
ختاماً: تُعدّ أزمة الهوية من أهمّ جوانب النمو النفسي الاجتماعي عند الإنسان، وهي ليست بالضرورة سلبية، بل تجربة نمو ومرحلة طبيعية وهامة من التساؤلات التي يمرّ بها المراهقون لفهم المعتقدات والأدوار التي يمكنهم القيام بها، ومساراتهم نحو اكتشاف ذواتهم.
ويرى إيركسون أن نجاح المراهق في حل أزمة الهوية السليم يقوم على استكشاف البدائل والخيارات في المجالات الإيديولوجية والاجتماعية، ومن ثم التزام بالقيم والمعايير السائدة في مجتمعه.
فالاستكشاف والالتزام عنصران حاسمان في تكوين وإنجاز الهوية الذي يُفضي إلى معرفة بالذات، تحديد التوجّه والمعنى، الشعور بالاعتراف، التمكّن من المساهمة بفعالية في المجتمع. أما ضعف الرغبة في الاستكشاف واختبار البدائل المتاحة، وعدم وجود الدعم فقد يؤدي إلى شعور المراهقين في حيرة من أمرهم بشأن هويتهم، الخجل والضياع، انعدام الأمان، تمييع الدور واضطرابه، وعدم اليقين بشأن مكانتهم في المجتمع.
وبالتالي تشتت الهويّة التي ربما يقود مستقبلاً لصناعة طغاة بشخصيات مستبدّة متعصّبة، لم تسع ولم تفكر يوماً بمواجهة خجلها وفشلها الداخلي، هذا ويزخر عالمنا العربي عامةً، والسوري خاصة بهذه الشخصيات الفذّة.

الأكثر شعبية

معارك الظل في سوريا… محاربة “داعش” وإعادة بناء الدولة!

“اللاطي”… سوري عربي عالمي!


