شمس الحسيني – الناس نيوز
تحمل الرؤى الشعرية مشاهد جديدة، لا يمكن أن يحتمل الواقع تجسيدها، فوقع الكلمات يبني صوراً بتكوين مختلف، يعيد ترتيب عوالم المشاعر في قلب المتلقي. وتحفز المعاناة، على اختلاف أنواعها، سليقة الشاعر، وتدفعه لابتكار لغته الخاصة في مخاطبة الحياة.
يحدثنا الشاعر فرج بيرقدار، رئيس رابطة الكتاب السوريين، عن الشعر والحياة، ومجموعته “مرايا الغياب” التي تُرجمت إلى العديد من اللغات وحازت على جائزة إيطالية، وقدمت في مشروع غنائي باللغة السويدية ثم الألمانية وقريباً بالإنكليزية.
بدايةً عما يميز “مرايا الغياب” بالنسبة إلى فرج بيرقدار يقول: “ما يميز مرايا الغياب بالنسبة لي هو طبيعة ووحدة موضوعها، وفي الوقت نفسه تعدد وجوهه، أعني اقتصار ذلك الموضوع وتلك الوجوه على رؤية السجن والحرية بتداعياتهما وبمعناهما العميق والشامل على المستوى الزمني والمكاني والنفسي والمعرفي، وآليات عملهما في الخيال والواقع والأعماق وليس فقط على مستوى الجسد وما يتعرض له من انتهاكات مادية
وذكر أن كتابة هذه المجموعة الشعرية، المؤلفة من مئة قصيدة مكثفة، استغرقت ثلاث سنوات 1997-2000. وأشار إلى أنه كتب العديد من القصائد خلال تلك الفترة، ولكن لم يكن موضوعها ولا طريقة بنائها ملائمة لموضوع مرايا الغياب.
وتابع قائلاً: “القصائد الموزونة التي كتبتها في تلك السنوات لم تكن من نفس النسيج حتى لو كان موضوعها السجن، فمرايا الغياب في مجملها قصائد متحررة من الوزن والقافية وأي اعتبارات شعرية متعارَف عليها، ولهذا كنت أستثني من هذه المجموعة أي قصيدة لا يتوافق موضوعها أو بنيتها، وأتركها جانباً أو أحتفظ بها إلى مشاريع كتابية مختلفة” .
وأوضح طريقة اختيار النصوص المناسبة التي أصبحت جزءاً من مرايا الغياب بقوله: “وإذا أردت أن أتكئ على المجاز فيمكنني القول بصورة عامة أن القصائد هي التي كانت تختار الانضمام إلى هذه المجموعة أو الابتعاد عنها. هناك قصائد كانت تنادي من تلقاء نفسها “ضُمَّني ضُمَّني”، وهناك قصائد كانت تهمس لي “ليس هنا مكاني”.
وحول الصيغة الأخيرة التي نشرت بها مرايا الغياب وإن كان فرج بيرقدار قد أجرى عليها تعديلاً ما قبل النشر يقول:” في العادة أنا كثير التردد والتمحيص والتنقيح والتعديل في كل ما أكتبه من قصائد موزونة. أشعر أنه دائماً في الإمكان أبدع مما كان. وكل تعديل في القصائد الموزونة يقتضي مراعاة سلسلة من الأمور المتصلة بالمعنى والمبنى والوزن. لذلك لا أطمئن بسهولة قبل أن أعتمد القصيدة في صيغتها النهائية التي لا تعديل بعدها”.
وأردف قائلاً: “ولكن الأمر لم يكن كذلك في مجموعة مرايا الغياب، وذلك لأنني اخترت قصائدها من بين كل ما كتبته خلال ثلاث سنوات. كأن القصائد كانت مكتوبة وناجزة في داخلي، وما كان علي سوى ترصد اللحظة التي تمر فيها إحدى تلك القصائد لأضمها إلى رفيقاتها”.
وبيَن ما يعتمده في التعديل قائلاً: “التعديل في الشعر الحر عندي نادر وبسيط وسهل. فالقصيدة الحرة النثرية تأتي كما لو أنها ولادة طبيعية مكتملة، في حين أن القصيدة الموزونة تولد أحياناً بنت خمس أو ستة أو سبعة شهور، وغالباً تحتاج إلى حاضنة أو رعاية خاصة، ومن النادر أن تأتي عندي القصيدة الحرة غير ناجزة من ولادتها الأولى”.
ووصف لنا ما تحمله روح الشاعر الداخلية تجاه القصائد: “أشعر أن في داخلي شاعرين صديقين متآلفين ولكن لكل منهما ميوله الشعرية الخاصة، فإن انبثقت القصيدة على نحو حرّ أفسحَ الشاعر ذو الميول الوزنية المجال لصديقه، والعكس صحيح. يشبه الأمر من يتقن أكثر من لغة، إذ يبدّل لغته لا شعورياً حسب المقتضى، مثلما يحدث مع صغيري مثلاً حين يتحدث في نفس الوقت مع معلمته بالسويدية ومعي بالعربية وهو يرينا فيديو بالألمانية”.
وعن الأثر الذي خلفه منع مرايا الغياب من النشر يقول:” لا أستطيع أن أتحدث عن منع نشر مرايا الغياب، فوزارة الثقافة، بشخص مدير دائرة المخطوطات الكاتب “محمد كامل الخطيب” الذي أحب وأحترم، وافقت على طباعة ونشر الكتاب، ولكن في بلد (لا قرار يعلو فوق قرار المخابرات) مُنِع توزيع الكتاب أو إخراجه من مستودعات الوزارة”.
وتابع قائلاً: “ومع ذلك، لم يمنع ذلك من انتشار الكتاب كما كان يحدث في عهود غابرة، فمع مطلع الألفية الثالثة انتهى احتكار الأنظمة الاستبدادية للنشر ووسائله، الأمر الذي أتاح لي نشر الكتاب في أكثر من موقع إلكتروني، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي”.
وذكر أن منع توزيع الكتاب لم يَحُلْ دون ترجمته إلى العديد من اللغات وإلى فوزه بجائزة إيطالية، هذا بالإضافة إلى تقديمه في مشروع غنائي باللغة السويدية ثم الألمانية وقريباً بالإنكليزية، فالكتاب مترجم مسبقاً إلى هذه اللغات.
وأوضح أنه باختصار لم يؤثر منع توزيع الكتاب على انتشاره إلا بصورة جزئية وداخل سوريا أساساً، وأردف قائلاً: “كما أن منعه لم يمنحه انتباهاً خاصاً بسبب المنع، فكل كتبي ممنوعة، ولكن طبيعة موضوع هذا الكتاب وما تنطوي عليه من خصوصية وتكثيف ضمن قصائد قصيرة ومضية هي التي جعلته ملفتاً للانتباه”.
وحول بناء النص في مرايا الغياب وإن كان يحمل ذاكرة شخصية أم رؤية عامة للمحيط يقول: “الذاكرة جزء يزداد اشتباكاً وخصوبة وتأثيراً في حياة السجناء مقارنة بالحياة الاعتيادية. بهذا المعنى فإن جزءاً من المرايا مبني على الذاكرة السابقة على السجن والمحايثة له والمستقبلية أو المحتملة أو المأمولة”.
وتابع قائلاً:” فبعض وجوه السجن أو مراياه تستدعي الذاكرة من باب الحنين حيناً والمقارنة أو المفارقة حيناً وخلق فسحة للتوازن الروحي والنفسي حيناً أو بلغة اخرى، استراحات محارب أحياناً. ما عدا ذلك فإن مرايا الغياب مدروزة بأشواك الواقع ومكوية بجمر الوقائع، وتحاول الإحاطة بالسجن والقبض عليه في أطواره وتجلياته وتهيؤاته ومضمراته وبهيمياته المختلفة والمتناسخة.“
وعن إيقاع تجربة الاعتقال وهل ما زال مستمراً في نصوص فرج بيرقدار قال: “بالنسبة للسجناء الذين أمضوا سنوات طويلة، فإن إيقاعات السجن يصعب أن تغادر الراقات السفلى في أعماق النفس وقيعانها. ولكن تتباين مواصفات الأشخاص واستعداداتهم وإراداتهم ودرجات القسوة في تجارب اعتقالهم، كما تتباين ظروفهم بعد الخروج من السجن. هناك من خرجوا من السجن وهم بلياقة روحية ومعنوية عالية ولكن الظروف استطاعت تحطيمهم كما لم يستطع السجن”.
وتابع قائلاً: “لا ينتهي السجن بانتهاء زمنه. مفاعيل السجن تكون أحياناً أشد وطأة من السجن نفسه. لو تخيلنا أن سجيناً خرج بعد ١٢ أو ١٥ او ٢٠ عاماً وهو متماسك ومتفائل ولديه من الخبرات والشهادات ما يؤهله لأن يعيد تأسيس حياته بصورة جيدة أو مأمولة، ولكنه يفاجأ بوضع اجتماعي مدمَّر في أسرته، ولا مؤسسة عامة أو خاصة تقبل بتوظيفه وفق كفاءته، والناس يتحاشونه خوفاً من مخاطر وعواقب تلوِّح بها أجهزة القمع”.
وأضاف: “وإذا أضفنا لذلك أن هذا السجين السابق ممنوع من الحصول على جواز سفر، وبالتالي لا يستطيع البحث عن مستقبله في مكان آخر. مثل هذا السجين كيف يتخلص من إيقاع السجن. أتحدث عن إيقاعات السجن وامتداداتها بصورة عامة”.
وأوضح بشكل أكثر خصوصية: “أما بالنسبة لتلك الإيقاعات وتأثيرها أو استمرارها في كتابتي، فينبغي علي القول أني كنت أحد المحظوظين قياساً إلى سيِّئي الحظ، إذ لم يكن وضع أهلي بالغ السوء رغم أننا كنا ثلاثة إخوة في السجن، وبالتالي لم أشعر أني مهمل لا في السجن ولا بعده، وكذلك لعب أصدقائي دوراً مهماً في تجاوزي لكثير من ضغوط السجن. كما ساهم اهتمام بعض المؤسسات الدولية في حمايتي داخل السجن وبعده، وفي تأمين ظروف مادية ومعنوية جعلت إيقاعات السجن تخفت وتتراجع وأحياناً تبتعد كثيراً عن تفاصيل يومياتي، وبالتالي عن هواجسي الشعرية“.
وحول تأثير المهجر على نصوص فرج بيرقدار يقول: “يتقاطع المهجر والسجن في كثير من الوجوه، مع فارق أن الوقت في السجن وافر وفي المهجر شحيح. ولكن رغم ذلك يبقى المهجر في البلدان الديمقراطية أقل وطأة بكثير، ويتيح ما لا تتيحه سجون الديكتاتوريات”.
وتابع قائلاً: “قد يكون من أهم ما أتاحه لي المهجر هو الأمان الحقيقي الذي أحسه في داخلي وفي المجتمع، وليس الأمان المخابراتي المفروض بقوة البطش والخوف أو التخويف، وذلك ما انعكس في حرية الحركة والقول والفعل وتنوع الاهتمامات والجماليات والاطلاع على تفاصيل كل منها يجعل المرء يقول على الطريقة الشعبية المعروفة: مَن لم يعرفها أو يجرّبها راح نصف عمره“.
وأردف بقوله: “بالنسبة لي تقلّصت المحرَّمات أو الممنوعات عندي في السجن كثيراً، ولكنها تقلصت في المهجر بصورة أوسع وأعمق”.
وعن البلاد التي اختارها مستقراً له يقول: “في المهجر الذي اخترته هناك أمور كثيرة ترخي بظلالها على حياتي وكتابتي. مثلما للصحارى في بلادنا ظلال من الرمال والحَرّ والعطش والسراب، فإن للغابات في السويد ظلال من الخصب والمروج والينابيع والخير والجمال”.
ويتابع قائلاً: “في السويد تغيّرت علاقتي مع الكلمات، تغيَّر إحساسي بها وفهمي لها وصداقتي مع دلالاتها وبالتالي إسقاط الكلفة معها. ولكن الأهم أن الشعرية صارت جزءاً من الحياة وليس الكلمات فقط”.
وأشار إلى أنه ككثير من الكتاب خلال الربيع العربي، اضطر إلى التركيز على شؤون كتابية إضافية غير الشعر، كالمقالات والمحاضرات أو المشاركة في مؤتمرات ثقافية وفكرية وحقوقية في المهجر.
وفي الختام تحدث فرج بيرقدار عن تأثير الشعر على الحياة الإنسانية بالرسائل التي يحملها، ومتى يمكن أن يكون دوره فاعلاً في إحداث تغيير ملموس عليها قائلاً: “منذ قرون بعيدة انتهت أدوار الشعر المحمولة على الحماسة والفخر والهجاء والدعاية الإعلامية والشحن والتعبئة. وانتهى عهد شعراء البلاط الكبار، ربما لأنه لم يعد هناك بلاطات كبيرة أصلاً”.
وتابع قائلاً: ” الشعر والآداب والفنون، أعني الإبداع والثقافة عموماً، أخذت في عصرنا مناحي أخرى أهدأ وأبعد وأعمق غوراً. صار من مهامها الارتقاء بالذائقة والإحساس وطرق التفكير على المدى البعيد. صارت هي الخندق الأخير لحماية الجمال والقيَم الإنسانية العليا من حرية أوسع قدر الإمكان، وعدل أشمل قدر الإمكان، وحياة كريمة مبذولة قدر الإمكان”.
وأشار إلى أن هذا الخندق الأخير المتمثل بالآداب والفنون هو أول ما يحاول الطغاة تدميره لتستتب لهم المقادير.” وأضاف: “إنهم يجهلون أنه الخندق الاستراتيجي العميق والأخير، الذي ما لم يسقط فإن كل الخسارات قابلة للتعويض أو الترميم. دور الشعر لا يخرج عن هذه المعادلة في صراع القبح مع الجمال، كما في صراع الحرية مع الاستبداد”.
وكانت أول مجموعة شعرية لفرج بيرقدار قد صدرت في بيروت عام 1979 عن دار الحقائق تحت عنوان “وما أنت وحدك”، والثانية في بيروت عام 1981 عن دار الأفق تحت عنوان “جلسرخي”، ثم حالت سنوات طويلة، تخللها السجن وتجارب حياتية كثيرة، بين هاتين المجموعتين وبين أعماله التالية، التي كانت أيقونتها الجميلة مرايا الغياب، ليستمر بناء الحياة من جديد بمخزونٍ لا ينضب من الكلمات.