وائل السوّاح – الناس نيوز
قرأت كتاب فرج بيرقدار الجديد “ليس للضحك، ليس للبكاء” في ليلة واحدة نادرا ما أفعل ذلك، وغالبا ما يبهرني من يقول إنه لم ينم حتى أنهى الكتاب الفلاني. أنا لا أفعل ذلك في العادة. أفضل أن أمزمز الكتاب الجميل مزمزة. غير أن فرج، كعادته غالبا، يجبرني على تغيير عاداتي، فلم أنم قبل أن أنهي الكتاب.
طلبت الكتاب من أمازون فجاءت نسختي مثل الكتب الإنكليزية: من اليسار إلى اليمين، وفكرت أن أؤجّل قراءته، حتى تأتيني نسخة طبيعية، ثم أخطأت حين أمسكت بالكتاب وفتحته عرضا فقرأت اسم صديقنا وأستاذنا الراحل يوسف سامي اليوسف، فقلت سأقرأ هذه المادة فحسب. ثمّ أتيت على الكتاب.
ليس الكتاب مشوقا، بمعنى أنه ليس رواية ولا مغامرة وليس فيه حكاية. ولكن فيه دفقة نفسية هائلة، تأتيك كصاعقة، فتترنح بعد قراءته، وتسأل نفسك: ما الذي جرى تماما؟
لستُ ناقدا ولستُ موضوعيا. ترجع علاقتي بفرج عقودا إلى الوراء، منذ أن كنا نتسكع في شوارع حمص، نعاقر الشعر والثورة والخمر وأطياف النساء. كنّا نسير أحيانا في ليالي حمص الصيفية مدّة ساعة أحيانا، ونحن نرتجل قصيدة مشتركة، موزونة، كما كان يحبذها فرج، قبل أن ينتقل بعد سنوات إلى قصيدة النثر، ثمّ ننساها لحظة ننتهي منها، ومذّاك، ارتبطنا بأواصر لا أدري ما هي، ولكنني أعرف أنها لا تنقطع.
ما الذي أحببت في الكتاب؟ إضافة إلى اللغة الرفيعة التي لا يتقنها نثرا أحدٌ أكثر مما يتقنها فرج، كان هنالك ذلك التنوع العجيب في موضوعات الكتاب، والصور المتدفّقة والحية التي تكاد تمدّ يدك فتلمسها، ثم هنالك ذلك الرعب والتطهر الإغريقي، الرعب من أن تقع يوما فيما وقع فيه الرجل والتطهر بأنه هو من تحمّل ذلك وليس أنت. وأخيرا هنالك الصدق. ليس في الكتاب ادعاء للبطولة، ففي أكثر من مرة يعترف الكاتب أنه كان يحس بالرعب. وحتى حين واجه الجلاد مصطفى التاجر، قبيل إطلاق سراحه، كان في أعماقه يشعر بالخوف، وإن كان يحتفظ بخوفه لنفسه.
فأما اللغة، فأعتقد أن المرء يحتاج إلى الكثير من الجهد ليعبر عن فكرة بمثل هذه الكلمات:
“لم يكن مضى على اعتقالي سوى أيام، حين أيقظتني زنزانتي، ذات مصادفة أو ضرورة، على أذان الشعر، فتوضّات وحرّرته في داخلي، ليحرّرني مما يتربّص بي من غوامض وتوجّسات تفضي إلى ما هو أكثر غموضا وتوجّسا.”
ومع ذلك، لست بصدد الحديث عن اللغة ولا الصورة ولا الخوف. أنا سأحكي فقط عن رؤية فرج للحبس (ولا أقول السجن). نتشارك، فرج وأنا، إلى حدّ كبير في رؤيتنا للحبس. كتبت مرة تعريفا للسجن: السجن هو انعدام إمكانية الهرب. الحرية أنك تستطيع أن تهرب من أي مكان أو زمان أو شخص لا تريده. تستطيع أن تهجر صاحبتك أو تطلّق امرأتك أو تغادر صفوف حزبك أو تغير عملك. في السجن أنت ببساطة لا تستطيع. زملاؤك مفروضون عليك؛ سجّانك مفروض عليك؛ طعامك مفروض عليك؛ كتابك مفروض عليك؛ عشقك مفروض عليك وذكرياتك مفروضة عليك وأنت ببساطة لا تستطيع أن تهجر أحدا ولا تترك مكانا ولا تنهي علاقة.
فرج كتب أكثر من مرة عن رؤيته. ولكن أفضل ما كتب وأكثره تأثيرا وسطوعا كان في أجوبته على أسئلة صديقنا ورفيقنا فاضل الفاضل، الذي أعاد نشره في الكتاب الجديد. يرى فرج أن الحبس لا يستطيع أن يكون مرجعية المحبوس، ولأن مرجعية المحبوس الأم (الخارج) غير ممكن الوصول إليها، فإنه يلجأ إلى التواصل معها عبر الحلم أو الوهم أو التقليد. ليس أمام السجين سوى جدران فارغة، وعليه أن يؤثّث هذا الفراغ، “المضادّ المعادي، على نحو صداقي ما، يضمر شيئا من الألفة أو الحنين أو الإحالة إلى ما كان قبل اعتقال.
تعذّب فرج ورفاقه كثيرا. جدا. ولكن الحبس بالنسبة إليه هو الغربة. هو الارتباط بمكان آخر وزمان آخر، وكلاهما بعيد وناء عنه، ولا يستطيع الوصول إليهما إلا بالتظاهر والتحايل والتقليد. وبالتالي السجن الذي يعني السجان والتعذيب والقضبان يختفي وراء الحبس الذي هو الوحدة رغم وجودك في الزنزانة مع خمسين آخرين أو مائة. إنه الرغبة القاتلة والوحشة والشوق إلى الحياة الطبيعية، التي لا سبيل إليها سوى الحلم، فتصنع لنفسك خزانة من سحارة. في البداية ربما يصنعها المحبوس بدافع الحاجة، ولكنه لاحقا، عندما يهدأ ويستقر، يبدأ بتجديدها لتكون على أقرب نحو ممكن من طراز ما، يتخيله أو يعرفه في الخارج”.
هنالك محاولة دائما للهروب من الحبس. إحدى الخدع البسيطة التمايز. بعض السجناء يرتدي بذلته للخروج إلى التنفس، آخرون يتمايزون بطريق التدخين أو المبالغة فيه. بعضهم يبالغون في القراءة وآخرون يقاطعونها نهائيا، وكذلك الأمر بالنسبة للرياضة، حيث تتحول إلى ميدان للتمايز بين من يمارس الجري ثلاث ساعات وآخر يقرر انه لن يغادر مهجعه حتى لممارسة المشي أو التعرض لأشعة الشمس.
وفي كتابه أوفى فرج بعض الأشخاص حقهم، فحكى عن صديقنا رياض الصالح الحسين وصديقنا يوسف سامي اليوسف ومعلمنا غسان تويني ورفيقنا المغيب عبد العزيز الخير.
وحكى عن البيت الأول والرقصة الأخيرة، وعن أمه وأمثالها، وأعطى الكلّ حقّه، باستثناء شخص واحد: هو، فتهذيب فرج الريفي الأصيل منعه من التباهي والتشاوف وهو إن فعل كان عدل.
أكتب اليوم عن فرج وأنا أعترف بأنني أغار منه: أغار من شاربيه اللذين يذكران بمكسيم غوركي ومن قساوة وجهه الوسيمة وطلاوته القاسية. أغار من نثره ومن شعره ومن محبة الناس له، ولكنني أغار أكثر من صدقه المخيف، مع نفسه ومع الآخرن.