ميديا – الناس نيوز ::
المدن – زياد الصائغ – حيّر البابا فرنسيس العالم. كان يُفضِّل أن يتوجّه إليه المقرّبون منه بفرانشيسكو. لم تَعْنِه الألقاب، ولا المناصِب. ترسَّل للخِدْمة في المحبَّة والسّلام. أتَتْ حبريَّتُه على كثيرٍ من الاستثنائيَّة على كافَّة الصُّعد اللّاهوتيّة، والرّعويّة، والأخلاقيَّة، والتدبيريَّة، والسّياسيّة، والديبلوماسيّة. كُلُّ هذه الصُّعُد عِنْده مترابِطة. أراد منها صَوْن كرامةِ الإنسان. شدَّد فيها على سلامِ العَدْل. رسّخ فيها معاني الأُخوّة الإنسانيَّة المُتسامِية.
التّرابط البنيويّ عند البابا فرنسيس بين الجيو-سياسيّ واللّاهوتيّ مردُّه إلى قَناعة العَوْدة الآمِنة إلى منطِق أن تعيش البشريّة معًا في بيتٍ مشترك. البيتُ المشترك، بيتنا المشترك، كما كان يَحْلو له التّعبير لا قيمَة لَهُ، بل لا ثباتَ لَهُ، إنْ لم يتأسَّس على فِعْل التّعاضُد التّكامليّ، حتّى ولو حتّم هذا الفِعْل تلاقي التّناقُضات. أراد تلاقي التّناقضات بالاستِناد إلى قَنَاعةٍ أنّ الشأن العامّ معنيٌّ ببقائِه في مربَّع الخيرِ العامّ. التّناقضات عنده إبحارٌ في تقصّي سِماتِ الحقيقة المتعدّدة.
شكّل البابا فرنسيس عَلامةً فارقة في جُرأةٍ على كَسْرِ تقليديّات المُقاربات الجيو-سياسيَّة. أبْلَغ روسيا عَتَبهُ. أبدى إعجابه بأوكرانيا. دَعَا بوتين وزيلينسكي إلى سلام الشّجعان. أدانَ 7 أكتوبر. وبّخ إسرائيل. لم يَتْعَب من الدّعْوَة إلى وَقْف العدوان على غزّة وتحرير الأَسْرى. لن ينسى الكَوْن اتّصاله اليوميّ بأهْلِ غزَّة.
قبّل العلم اللّبناني، وزجَرَ منظومة اللّادولة حيثُ تحالفت المافيا مع الميليشيا. وَطِىء أرض العِراق وأعْلَى من شأنِ السمبيوز بين الأديان. لقاؤهُ السيّد السيستاني أمسى علامةً فارِقة. إدانَتهُ للتوتاليتاريَّة، والثيوقراطيّة، والأوتوقراطيّة إرتكزت على موجِب نَبْذِ كُلّ عَسْكَرةٍ للأديان، كما أيّ انسياق لِحلْف أقليّات أو استِدعاء حمايات. شكّلت له سوريا همًّا، وعبّر بذكاءٍ حادّ عن الحاجة لإنهاءِ عقُودٍ من الظُّلم فيها.
في كلّ ما سَبَق كانت وثيقة الأُخوّة الإنسانيّة التي وقّعها مع شيخ الأزهر عام 2019 في أبو ظبي، وكرّس مضامينها العميقة مع السيّد السيستاني في النّجف، وإبّان لقائِه مع ممثّلي الأديان في مدينة أور العراقيّة عام 2021، كانت هذه الوثيقة مُنْعَطَفًا تاريخيًّا في نَهْج الكنيسة الكاثوليكيّة، رَفَدها البابا فرنسيس بتأصيل مسار السينودسيّة خيارًا استراتيجيًّا في الحِوار المابين-ديني، والمابين-كنائسي، وفي هذين تعبيرٌ عن مسكونيَّةٍ متكَامِلة. المسكونيّة عِنْدَهُ توقٌ إلى جمالاتِ الآخر. قباحة الاقتِتال عِنْدَهُ إدانة لمعنى الكينونة.
عَشِق البابا فرنسيس منهجيّة التّثاقف والإنثِقاف. الخصوصيّات الهوياتيّةُ عِندَه تتلاقح لِتَتَجَوْهر. الدّوغماتيّة في عُمقِ تفكيرِه انفِتاحٌ متحرّك على تجسّد الله، بعيدًا عن العصبيّات التّباعُديّة التّنافريّة. هذا العِشْق المُنْفتِح بنى له خُصوماتٍ حتّى في بعضِ الافتِراقات الكنسيّة البنيويّة، لكنّه قابلَها بحزمِ المحبّة الأبويّة.
لم يَرْحل البابا فرنسيس، بل ارْتَحَل إلى ذاك الكوزموس اللّامُتَناهيّ حيثُ تتلاثم الأرضُ بالسّماء. إرْتَحَل فرنسيس المُزعِج. سيفتقِد الكون إزعاجاتِه الجَوْهريّة التي ستفتحُ لنا آفاقًا ترميميّة للذّاكرة الإنسانيّة المشتركة على مدى عقُود. فرنسيس المُزعِج سنشتاقُ إليك.


الأكثر شعبية

سلطة “الميديا” وأنظمة الحكم…

فرنسيس… الثَّورة الصَّامتة!

