أنور عمران – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسة للفنان السوري جهاد مفلح وفرقته “إنانا”
ما يُميّز الإنسان عن الكائنات الأخرى أنه “كائن راقص”، أو كائن يَعي الرقص، صحيحٌ أن بعض الكائنات الأخرى تؤدي أحياناً حركاتٍ تشبه الرقص، لكن الإنسان حَوَّلَ هذه الحركات إلى فنٍّ حقيقي، وضع له الضوابط، وجعل منه لغةً أخرى موازية أو سابقة للغةِ المنطوقة، تحمل الثقافة والتقاليد وحتى الآراء السياسية والمعتقدات الدينية، وبذلك استطاع من خلال القفز والدوران والتمايل وبعض الحركات الأخرى، ومن دون أن ينطق بكلمة واحدة، أن يفضح هويته كاملةً، وعلى كافّة مستوياتها.
بدأ الرقص قبل الشعر، وكلاهما وُلدا بين جدران المعابد، هناك حيث تنتظر الآلهة من البشر دائماً أن يفعلوا ما بوسعهم، من أجل إرضاء الغرو والإمتاع والتسلية، ولكي يحصلوا بالمقابل على القليل من النعمة، إذن وُلد الرقص أولاً لأن الأجساد، وكما عند الأطفال، تتكلّم قبل الألسنة، كما أن العلاقة مع اللغة تحتاج إلى قدرة عالية على التجريد، ربما لم تمنحنا إيّاها حيواتنا في الكهوف، ومع كل اكتشافٍ جديدٍ في الحياة، ومع كل خطوة إلى الأمام كنّا نقدّم رقصةً جديدة؛ من رقصة “اكتشاف النار” حتى “رقصة الحرب”، التي مازالت حيّةً في احتفالات بلاد الشام عبر لَبوسٍ جديد يسمّونه “العراضة”، حيث يرقص الرجال وهم يحملون السيوف ويستعرضون لياقتهم وقوّتهم، في تجاورٍ وتداخلٍ مذهلَيْن بين الحرب والعرس، أي بين الموت والولادة، لتصير الحركات الدائرية التي يقوم بها الرجال رمزاً لدورة الحياة والموت التي لا تتوقّف، والتي لا ينتصر فيها طرف على طرف مهما انتشرت الحروب أو كثرت الولادات.
وما بين الحياة والموت رحلة طويلة ومضنية، كان على الإنسان أن يقيم خلالها علاقةً ودّية مع الكائنات والموجودات التي تشاركه الحيّز الذي يشغله، ولأنه امتلك في البداية جسده كاملاً من قبل أن تكتمل رحلة عقله، فقد حاور الأشياء من خلال الرقص، فجاءت “رقصة الشمس”، والتي تضمن شروق الشمس كل يوم، وربما نسي سكّان البلد الذي أعيش فيه -السويد- أن يؤدّوها، ثم “رقصة المطر”، التي تُقلِّد السماء وتحرّضها، وكذلك “رقصة الحب”، والتي بالإضافة إلى البشر، فقد أدّتها أيضاً بعض الآلِهة ، ومنهن أفروديت في اليونان، وحتحور في مصر، كما أن بعض التحوّلات العظيمة في المقدّس والسياسي قد تمّ تأريخها من خلال الرقص، كما كان مع “رقصة سالومي” الشهيرة، وكذلك مع رقصة العبور التي ذكرتها التوراة في سفر الخروج: ” فأخذت مريم النبيّة أخت هارون الدفّ بيدها، وخرجت جميع النساء وراءها بدفوفٍ ورقص”.
وبالرغم من العلاقة الوثيقة بين الرقص والحياة، فقد تمّتْ محاربة الرقص في بعض الأماكن وفي بعض المعتقدات لعدّة قرون، ومازال الرقص مُحرّماً حتى الآن في بعض الأماكن والمعتقدات الأخرى أيضاً، جرياً على عادة التسلّط في محاربة الجمال والفنّ، ولكن الرقص وُجِدَ دائماً في الفنون، من لوحات الفرنسي “إدغار ديغا” المُولع برسم راقصات الباليه، مروراً برواية زوربا للروائي اليوناني كازانتزاكيس، وحتى أشهر رقصة في تاريخ السينما، رقصة الثنائي “جون ترافولتا” و “أوما ثورمان” في فيلم ” pulb fiction”، وكذلك حضر دائماً في المُقدّس، من المعابد القديمة حتى الرقص المولوي، وكأنه الهمس؛ همس الأجساد، الذي لا يمكن أن يتحكّم فيه الرقيب، ولا يمكن أن تحتجزه السدود، فالرجال يرقصون كي يُظهروا قوّتهم، والنساء يرقصن كي يفصحن عن جمالهن، كما أن لكل شعبٍ من شعوب الأرض رقصته الخاصّة التي تُبرز هويته، والحب والحرب والتمايز، الاختلاف والقوة والجمال، من أشهر التيمات التي اعتمدتها الفنون، والتي على ما يبدو لن تتخلّى عنهما قريباً.