وائل السوّاح – الناس نيوز ::
أخيرًا وصل الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى القرار الصحيح، فأعلن انسحابه من السباق الرئاسي. لقد فعل ذلك متأخرًا نوعًا ما، ولكن “أن تصل متأخرًا خير من ألا تصل أبدًا”.
ليس سهلًا على الرئيس الذي لا يزال يحتل منصبه ويحق له الترشح أن ينسحب من السباق. فعلى مدى قرن كامل، حدث ذلك ثلاث مرات فقط. يحتاج الأمر إلى شجاعة والاعتراف بالواقع وقبول المنطق وترجيح مصلحة البلد على المصلحة الشخصية. ويبدو أن بايدن قد تحلى بهذه الصفات حين اتخذ قراره.
بالنسبة لي، كنت أفضل أن يكون بايدن قد رفض أساسًا ترشيح نفسه. السيناريو الذي كنت أفكر فيه كان يقتضي أن يخاطب الرئيس الأمريكيين والعالم بقوله إنه قد رشح نفسه في العام 2020، ليمنع التجديد للرئيس ترامب وينقذ أمريكا والعالم الحر من النزوع الشعبوي الذي يبشر بعودة الفاشية، وينتصر على وباء كوفيد-19 الذي اجتاح الكوكب وأضر بالاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويحسن الاقتصاد ويخفف نسبة البطالة في البلاد. “أما وقد فعلت ذلك كله”، هكذا كنت أتوقع بايدن أن يقول: “فقد أديت ما علي وسأعطي الآن المشعل لجيل جديد”.
لو أن بايدن فعل ذلك، لدخل التاريخ كبطل قومي، ولكنا رأينا صفًا جديدًا من القادة الشباب يحتلون الواجهة، بينهم حاكم كاليفورنيا كيفن نوسوم، وحاكمة ميشيغان غريتشن ويتمر، وحاكم كنتاكي أندي بشير، وغيرهم يلقون بقبعاتهم في ساحة السباق.
ومع ذلك، ندين لبايدن الآن بالاعتراف بأنه قد اتخذ القرار الصحيح ولو متأخرًا، وننضم إلى من انهال عليه بالمديح. زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وصف بايدن بالقول: “لم يكن رئيسًا عظيمًا وزعيمًا تشريعيًا عظيمًا فحسب، بل إنه إنسان رائع حقًا”.
زعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب، حكيم جيفريز، قال إن الرئيس هو “أحد أكثر القادة إنجازًا وأهمية في التاريخ الأمريكي”، مشيرًا إلى تعامله مع كوفيد والأزمة الاقتصادية وهزيمة ترامب في عام 2020. وقالت رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا، والتي تتمتع بنفوذ كبير في الحزب، في منشور على موقع X إن “الرئيس جو بايدن أمريكي وطني يضع بلادنا دائمًا في المقام الأول”. أما الرئيس السابق باراك أوباما فأشاد بإنجازات بايدن في بيان مطول، بدءًا من المساعدة في إنهاء الوباء إلى خلق ملايين الوظائف إلى سن أول تشريع رئيسي لتأمين السلامة من الأسلحة النارية منذ 30 عامًا.
ليس الأول
قرار رئيس منتخب وحائز على أغلبية الأصوات في الانتخابات التمهيدية ليس شائعًا في الولايات المتحدة (والعالم؟). والحق أن رئيسين اثنين سبقا بايدن في عدم الترشح أو الانسحاب، كلٌّ لأسبابه الخاصة. الرئسان هما هاري إس. ترومان (1952) وليندون جونسون (1968). ومن المفيد مقارنة المشترك والمختلف بين الثلاثة.
من حيث السياق التاريخي والتوقيت، تولى ترومان الرئاسة في عام 1945 بعد وفاة فرانكلين د. روزفلت وفاز في انتخابات متقاربة في عام 1948. وبحلول عام 1952، انخفضت شعبيته بشكل كبير بسبب الحرب الكورية وفضائح الفساد. وجاء قراره بعدم الترشح لولاية ثالثة جزئيًا بسبب هذه القضايا. بالمقابل، أصبح جونسون رئيسًا بعد اغتيال جون ف. كينيدي في عام 1963 وأعيد انتخابه في عام 1964. وقد تلطخت رئاسته بحرب فيتنام، مما أضر بشكل كبير بشعبيته. وقد أعلن قراره بعدم الترشح لإعادة الانتخاب في مارس/آذار 1968 وسط تزايد المعارضة للحرب.
أما الرئيس بايدن فقد أصرّ في البداية على الترشح لولاية أخرى، على الرغم من تقدمه وأدائه السيئ في المناظرة الشهيرة مع دونالد ترامب في الشهر الماضي، إضافة إلى بعض المخاوف العامة بشأن لياقته للمنصب.
وتختلف الأسباب التي دفعتهم لعدم أو سحب ترشحهم. واجه ترومان انخفاضًا في الشعبية بسبب الحرب الكورية وفضائح الفساد الداخلي. تأثر قراره بانخفاض تصنيفات شعبيته والاعتقاد بأن تقديم مرشح جديد يمكن أن يكون له حظ أفضل.
قرار جونسون كان مدفوعًا بعدم شعبية حرب فيتنام وتأثيرها على صحته ووضعه السياسي. ولعبت المجزرة المرعبة التي ارتكبتها القوات الأمريكية في 16 آذار/مارس 1968، في منطقة تيت الفيتنامية، حيث قتل 504 قرويين معظمهم من النساء والأطفال والمسنين، ولأن القتلة كانوا من جنود المشاة وليس من الجو، فمن المستبعد أن يكون الأمر اختلط عليهم ليعتقدوا أنهم من مقاتلي الجبهة الوطنية للتحرير (الفيتكونغ). أما بايدن فقد تعرض في الأسابيع الماضية إلى ضغط شديد من قادة الحزب الديمقراطي وقواعده، ناهيك عن تهديد نسبة كبيرة من المواطنين الأمريكيين من أصل عربي ومسلم بمقاطعة التصويت له بسبب مواقف إدارته من الحرب الجائرة على المدنيين في غزة.
النتائج السياسية
كانت النتائج السياسية لقرار ترومان وجونسون بعدم الترشح سلبية على الحزب الديمقراطي. فانسحاب ترومان أدى إلى ترشيح أدلاي ستيفنسون، الذي خسر بعد ذلك أمام دوايت د. أيزنهاور بفارق كبير. بينما مهد انسحاب جونسون الطريق أمام ترشح هوبرت همفري، الذي هُزم أمام ريتشارد نيكسون. ولئن جاء فوز أيزنهاور نعمة على أمريكا وأثبت أنه رئيس قوي ومعتدل، فإن فوز نيكسون كان نقمة، وخاصة بعد فضيحة ووترغيت، التي اضطرته إلى الاستقالة في منتصف ولايته الثانية.
لا نعرف بعد من سيكون مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات، ولكن الدلائل المتوفرة تشير حتى الآن إلى كامالا هاريس، نائبة الرئيس بايدن. فهل الأمريكيون مهيئون لقبول امرأة ملونة رئيسة لهم؟ لا ريب في أن لهاريس نقاط قوة كبيرة، ولكن فيها أيضا نقاط ضعف واضحة. فمن نقاط قوتها أنها تعتبر بنظر الكثيرين من الديمقراطيين مرشحة موحِّدة قادرة على جمع فصائل الحزب بسرعة. ولا ننسى أن هاريس – على الضدّ مثلا من نائب الرئيس السابق مايك بنس – قد لعبت دورا أكبر في السياسة الداخلية والخارجية لإدارة بايدن، وهو ما يمنحها مكانة عالية ومنبرا متينا للحملة. كما أن خلفية هاريس كمدعية عامة يمكن أن تعطيها قيمة إضافية، بسبب خبرتها في مجال إنفاذ القانون بشكل إيجابي، خاصة إذا ما قورنت بمشاكل ترامب القانونية.
وتعتبر هاريس ديمقراطية معتدلة، مما قد يجذب شريحة واسعة من الناخبين، ولا سيما إذا ما اختارت شخصا مناسبا ليكون نائبا لها، حيث تستطيع تعزيز موقفها في الولايات المتأرجحة الرئيسية. ويمكن لحملتها أيضا الاستفادة من تأثير ترامب الاستقطابي ورد الفعل العكسي ضد التطرف في حركة اليمين الترمبية المتطرفة (MAGA). ويلحظ المراقبون قدرة هاريس الجذابة في التحدث، بالإضافة إلى انضباطها واستجابتها الدقيقة في مناقشات القضايا المثيرة للجدل مثل الإجهاض. والحق أن مواقفها حيال الإجهاض ودفاعها عن الحكم الديمقراطي والقضايا الاقتصادية تتماشى مع غالبية الأمريكيين، كما يمكنها الاستفادة من وعود بايدن السياسية الأخيرة لتعزيز حملتها.
من جهة أخرى، لم تستطع هاريس أن تنظم خلال الانتخابات التمهيدية السابقة (2020) حملة منظمة ناجحة، ما قد يثير مخاوف بشأن قدرتها كمرشحة. إلى ذلك، تُعتبر هاريس سياسية ليبرالية من كاليفورنيا وليس لها سجل كبير في جذب الناخبين المعتدلين أو المحافظين، خاصة في الولايات المتأرجحة. تتخلف هاريس حاليا عن ترامب في معظم الاستطلاعات المتاحة، وهناك شكوك حول قدرتها على جذب جمهور أوسع خارج قاعدتها.
ولا يزال الأمريكيون عموما، وخاصة في ولايات الجنوب ووسط البلاد، مترددين حيال تسليم قياد أمورهم إلى امرأة – وسوداء بالأحرى. وفي حين من المتوقع أن تحظى هاريس بدعم قوي من الناخبين السود، هناك مخاوف بشأن جاذبيتها للشباب السود وتأثير الكراهية تجاه النساء داخل بعض أجزاء الثقافة الشعبية السوداء.
ستكون الأشهر القليلة المقبلة ساخنة جدا في الساحة السياسية والاقتصادية الأمريكية. ولسوف تتعلق الأنظار بمؤشرات الأسواق والانقسام المجتمعي وسترقب العيون والعقول خطابي كل من ترامب وهاريس، لنرى من سيمكنه الفوز ببضع المئات من الآلاف من الأصوات التي تحدد عادة الفائز في الانتخابات في حفنة قليلة من الولايات.
ولئن تكُ مراقبة الأحداث مثيرة إلا أنها لن تكون ممتعة بسبب الخوف المقيم في أمريكا والعالم من فوز شعبوي يميني متطرف وفج ومعجب بكل دكتاتوريي العالم وتسلمه مقاليد أمريكا والعالم الحر مرة أخرى.