د . محمد حبش – الناس نيوز ::
في الذكرى الثانية لرحيله وجدت نفسـي مندفعاً للحديث عن المعلم الكبير جودت سعيد بوصفه امتداداً خلدونياً متميزاً أضاف وعياً جديداً بالسنن الاحتماعية وتوسعاً ضرورياً لفكرة العصبية التي يبنى عليها قيام الحضارة، وكذلك فكرة الدعة التي يرتكز عليه الانهيار في الفكر الخلدوني.
ومن الضروري أن نشير هنا أن الحديث عن التاريخ وسننه ليس مسألة تتصل بقراءة الماضي عند ابن خلدون، بل كان منهجه اكتشاف سنن المستقبل وديالكتيك الحياة المستمر.
وربما تكمن فرادة ابن خلدون في أنه طرح مفهوماً سننياً لفهم التاريخ مغايراً للطرق التقليدية التي كانت سائدة في الشرق الإسلامي والغرب النصراني، حيث كان تفسير التاريخ يتم بطريقة عجائبية ميتافيزيقية، وكان المفسرون والمحدثون وحتى المؤرخون يطرحونه بطريقة روائية محضة تستجيب لظاهر النص ولكنها تجعل التاريخ كله بلا هدف ولا غاية ولاعبرة، حيث يكون قوم في غفلتهم فيأتيهم نبي كريم فيدعوهم إلى التوحيد والصلاة والصيام وفعل الخير فيعرضون فيهلكهم الله وكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به وبداره الأرض ومنهم من أغرقنا وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وهكذا تتم رواية التاريخ في غياب تام عن أي تفسيرات مقنعة، حيث يتولى رجال الدين وصف حركة التاريخ بأن هلاك القرى هو المصير الحتمي لتقصير الناس في صلاتهم وعبادتهم واستغفارهم، مع أن النص يحتمل تأويلاً أعمق يتصل بغياب العدالة وفشو الاستبداد والظلم، ولكنهم يكتفون بظاهر النص، ولا بملكون أدنى تفسير عن سقوط حضارات تقية ناسكة مؤمنة وقيام حضارات قوية وناجحة لا نصيب لها من ذرة في الإيمان.
لم يناقش ابن خلدون صحة هذه الروايات، مع أن كل حرف من مقدمته يناقضها بشكل صار خ واكتفى بالرواية الهادئة ونجح تماماً في تحديد مناط دراسته، وهي فهم المعنى المستبطن لقيام الحضارات واندحارها في منطق جدلي سنني واضح، وقد رضي على مضض أن يكون تفسيره ظهيراً اجتماعياً للتفسير اللاهوتي وليس ثورة عليه.
ونصب ابن خلدون ديالكتيكه بوضوح قانوناً سرمدياً لقيام الدول وانهيارها أو وفق تعبيره لقيام العمران، وذلك عبر ثلاثية صارمة:
جيل العصبية الأول: الذي يأتي من الصحراء وفق أخلاقيات بدوية بسيطة العيش بعيدة عن الترف لها رباط عصبي يشدها ويخلق لها حوافز التضحية، وبالطبع فمراده بالصحراء هنا هو خارج المدن، حيث لا بد ان تتوفر جماعة العصبية الأولى على همة قعساء وصبر شديد وأن لا تكون قد أتخمت بنمط الرفاه في المدن، وهذا الجيل يحضر بسيفه وقوته، ويتواثب على أسوار المدن ويعلن رحيل المترفين وقدوم جيل جديد أقوى وأقدر.
الجيل الثاني: وهو الذي ينشأ بعد الجيل الأول وتتوفر له الثروة والسلطة والتصرف والملك فيمضي إلى الإدارة والتحضر ويدبر الملك ويؤسس العمران ويرغد بما بذله الآباء، وتكون تلك الفترة هي أكثر فترات الدولة عطاء وازدهاراً.
الجيل الثالث: وهو جيل فقد بأس الآباء وحماسهم وانصرف إلى الملذات والترف والنساء والخمور، وفقد كل عصبية كانت تمكنه من الحفاظ على ملكه وفي هذا الجيل يدب الضعف في الدولة ويستشري الفساد وتصبح الدولة نهباً لطامع جديد يكرر هذا الديالكتيك الصارم.
ويجزم ابن خلدون أن الدول كالأشخاص لها أعمار طبيعية، ويحدد وقتها بثلاثة أجيال، تزيد أو تقصر، وفي ذلك كان قيام الصحابة في العهد الأول بدك دولة الروم والفرس وقد نخر فيهما الفساد، ثم ظهرت العصبية الأموية نحو تسعين عاماً ثم العباسية نحو مائة عام ثم قامت الترك بغلبة الخلفاء نحو مائة عام ثم قام البويهيون كذلك ثم السلاجقة كذلك، ثم الزنكية والأيوبية والمملوكية، وكانت القصة تتكرر دوماً، فريق من الشباب الواثب شظف العيش بسيط الوعي موفور التضحية يغلب على جيل الترف والدعة ويؤسس لمجتمع جديد.
وكان أعظم ما نجح فيه ابن خلدون أنه طرح حركة التاريخ بعقل إيماني وليس بمنطق إلحادي مع أن التفسير الذي قدمه مناقض بالمطلق للتفسير الوعظي اللاهوتي، ولم يعارض ابن خلدون رواية القرآن عن قصص الأمم وهلاكهم بسبب عصيانهم لأنبيائهم وعبادتهم الأصنام، وإنما أدخل التفسير الاجتماعي للتاريخ فاعتبر القراءة الدينية غير مناقضة للقراءة السننية، وأن هذا الرويات والمصائر كلها قد نظمها الديالكتيك إياه، وإن كان ظاهر النص قد أغفل التفسير التاريخي للأحداث ولكنه لم يرفضه.
والعصبية التي أفرط ابن خلدون في ربطها بالصحراء والقبيلة الواثبة، هي نتاج واقع الصحراء التي كانت ترسم مصائر الجزيرة العربية وصحراء الشمال الإفريقي، فقد كانت بالفعل منبع الحركات الثورية المستمرة، وعلى أكتاف القبائل البادية قامت الدول المتعاقبة في المغرب من أدراسة وأغالبة وزيانية وتمتراسية وزيادية ومرابطين وموحدين، وهو المعنى نفسه الذي رآه ابن خلدون في الوثوب المغولي والتميورلنكي فقد كانت القبائل الثورية تنطلق إلى الحضارات المائعة وتبطش بها لتؤسس واقعاً جديداً، لم يشذ عن ذلك شيء، ولعل أوضح الأمثلة تأثيراً في ابن خلدون هو العصر التيمورلنكي الذي شهده ابن خلدون بأدق تفاصيله، حتى أقامه الدهر ممثلاً مباشراً عن مصر والشام في وجه تيمورلنك أكثر رجال التاريخ الثوري بأساً وقسوة.
وبالتجرد قليلا من الجغرافيا فالعصبية هي كل ما يربط تصورياً ومصيرياً بين جماعة من الأفراد الجاهزين للتضحية، وفي استشراف مستقبلي لم يشهده ابن خلدون فإن هذا الديالكتيك الصارم قد تحقق تماماً في الأجيال الآتية وهذه العصبية بالذات هي أيضاً ما جاء بالعصبية التركية العثمانية لاجتياح الأناضول ثم أوروبا، وهي روح حزب الجبل الروبسبيري في ثورته على الامبراطور لويس السادس عشر، وهي روح الحزب الشيوعي في ثورته على القياصرة الروس وهي في النهاية روح الثورة العربية على الترك، وبذلك فالعصبية ليست بالضرورة عرقاً جينياً بقدر ما هي اتحاد في الأهداف والمبادئ والتصورات لمجموعة من الثائرين القادمين من خارج الترف والقصور.
وفي امتداد طبيعي لفكر ابن خلدون قدم الأستاذ جودت سعيد رؤية سننية بالغة الوضوح في تعاقب الدول وانهيار الحضارات وقيامها، ويمكن أن ننسب إليه إضافة الديمقراطية الضرورية للفكر الخلدوني ومع أن الفكرة الديمقراطية هي ضد العصبية وهي إعلان البراءة من العصبية ولكن جودت سعيد استخدمها بمعنى آخر حين جعلها تعصباً لروح الإنسان وحاجاته، واعتبرها أداة حضارية لتنظيم الانتماء الجيني للإنسانية بأسرها، وفيما كان الإسلاميون يرجمون الديمقراطية بالحجارة صاح بأعلى صوته الديمقراطية أعلى رتبة في التوحيد!!
لقد تحدث جودت سعيد عن ديالكتيك ابن خلدون بتعبير إسلامي أكثر وضوحاً وهي السنن، السنن التي ينظمها ديالكتيك صارم لا يتحلف أبداً ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ثم نجح بشكل لافت في رسم ملامح الوعي بنوعين من السنن، الأولى هي السنن الفيزيائية ويكون الإنسان فيها مفعولاً به منصوباً وقع عليه فعل الفاعل الله، والثانية هي السنن الاجتماعية وهي السنن التي يكون فيها الإنسان فاعلاً مرفوعاً يملك صناعة التاريخ وتدبيره.
وصرح جودت بوضوح أن الناس أنكروا لقرون طويلة السنن الفيزيائية كدوران الأرض وكرويتها وانتظامها في الفلك الكوبريقوسي، وأنكروا الطب والفلسفة والفنون، وقام اللاهوت بتبرير المرض والشفاء والحياة والموت بتبرير لاهوتي كافر بالعلة والمعلول والسبب والنتيجة فالنار لا تحرق من ذاتها والدواء لا يشفي بخواصه المجربة بل الغيب هو من يفعل ذلك كله والعالم يتحرك بتدبير الغيب وليس نتيجة لكفاحنا الأبله.!!
ولكن الناس أدركوا بعد بعد ذلك بوضوح أنهم كانوا في ضلال مبين، وتطور الفلك والفيزياء والرياضيات والفنون في ظل الدين نفسه، بل صار إعجازاً علمياً يكتب فيه المئات من الواعظين، وبات الاعتراف بهذه السنن الكونية والفيزيائية تحصيل حاصل، وصرنا نتعجب كيف حرم آباؤنا الإيمان بالسنن الفيزيائية، حتى حرموا تطبيقاتها أيضاً من الطباعة والتصوير والموسيقى، وهكذا تطور الوعي وبات إنكار هذه السنن اليوم محصوراً بالفئات الأشد خرافية وتطرفاً في كل مجتمع.
ولكن المسلمين اليوم وقد قبلوا السنن الفيزيائية لم يفعلوا الشيء نفسه في السنن الاجتماعية، ولا زالوا يترددون في قبول قيم الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من السنن الاجتماعية الصارمة.
ولا زالوا في حركة التاريخ لا يؤمنون بالمنطق الخلدوني القائم على ديالكتيك البقاء للأصلح، وسنن القيام للشعوب الناهضة والاندثار للشعوب المائعة، ولا زالوا ينتظرون المهدي المخلص أو المسيح الموعود ليقوم بملئ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ولا زالت المنابر تتحدث عن التوبة والاستغفار وإقام الصلاة شرطاً لتحقق النصر، وتغض الطرف عن الفساد والظلم والرشوة والاستبداد التي هي في الجوهر سر مهالك الأمم.
وفي سياق وعيه بحركة التاريخ فإن جودت سعيد لم يرو أمثلته في القيام والزوال من خبر عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد ولا ثمود ولا مدين، لقد باتت أكبر آية على القيام في عصرنا هي هذا الاتحاد الأوربي الذي توفرت له بعد الحرب المدمرة عصبية الإيمان بالديمقراطية سبيلاً لحل مشاكله، وآمن بسنة الاتحاد والحرية والمساواة، وبعد حوار طويل مع فريق السنن اللاهوتية المحاصرين بالنص من كل اتجاه، سئم جودت سعيد وحتى لا يترك في نفس قرائه أي شكوك كتب لوحة كبيرة وعلقها على صدره ومشى في شوارع دمشق عدة سنين وفيها بخط واضح: يا ناس.. هناك حل واحد يربح به الجميع ولا يخسر أحد الاتحاد الأوربي!!
أما سنن الانهيار بسبب غياب الديمقراطيات والعدالة والحرية فلم يكن يرويها من خبر فرعون والقرون الأولى لقد كان يقول كل يوم: الاتحاد السوفيتي أكبر قوة في العالم وأسرع انهيار في التاريخ، غياب الحرية والديمقراطية والمساواة كان هو معبر الهلاك والأفول: وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.
رحم الله العلامة السوري والشركسي البارز جودت سعيد، لقد كان رافداً آخر من روافد الفكر الخلدوني العظيم الذي كان أول تفسير علمي للتاريخ وصناعة المستقبل في العصور الوسطى.