هل فلسطين هي جنوب سوريا الطبيعية فعلاً؟
أم أنَّ سوريا هي شمال فلسطين ؟
سردية لطالما كانت محور جدال بين أنصار الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والديكتاتور في سوريا ، كلٌ يستند فيها إلى روايةٍ مختلفة، ولو أن كلتا الروايتين تستندان إلى فرضية واحدة، مفادها أن حافظ الأسد سعى دوماً وبكل ما يملك إلى احتواء القرار الفلسطيني المستقل، وتجييره لصالح أجنداته المحلية والإقليمية، وربما الدولية، في الوقت الذي دافع فيه ” أبو عمَّار ” بكلِّ شراسةٍ ودهاء وربما ببعض التقِيِّة السياسية عند اللزوم، ليضمن استقلالية هذا القرار مع رفض مطلق لأية وصايةٍ أسدية عليه أو تدخلٍ فيه.
الزعيم الدرزي الوطني اللبناني البارز وليد جنبلاط ، وفي لقاء متلفز مع الإعلامية جيزيل خوري يؤكد أنه سمع حافظ الأسد غير مرة في لقاءاته الطويلة معه يردد أمامه: ” ليس هناك فلسطين، بل فلسطين هي جنوب سوريا ” …
يعزي وليد ” بيك ” هذه التصريحات وغيرها لما يجزم به من كراهية الأسد الديكتاتور للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.
أسمح لنفسي أن أجتهد قليلاً فيما قاله وليد بيك في توصيفه لـ (كراهية) حافظ الأسد لياسر عرفات أو غيره، فحتى شعور الحب والكراهية عند الأسد الأب كان يخضع لميزان دقيق يتعلق بحساباته الأكثر دقةً، ولم يكن يوماً شعوراً إنسانياً مطلقاً كما هو عادةً لدى باقي البشر.
كذلك فإن سعي الأسد الحثيث ومنذ كان وزيراً للدفاع للسيطرة على القرار الفلسطيني لم يكن فقط تلبيةً لغريزةٍ سلطويةٍ مطلقة عُرِفَ بها دوماً، ولكن لأن كل الأمور تبدأ وتنتهي عنده في حساباته لحكمه المطلق والأبدي لسوريا، ولأنه يعلم تماماً أن كمَّاً مهولاً من أدوات حكمه يأتي من خلال قدرته على ضبط التعاطي السوري في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، بما يستدعي بالتأكيد ضرورة ضبط كل السرعات على سرعته هوَ، وأن أي انخراط سوري أو عربي أو دولي في القضية الفلسطينية يجب أن يكون محوره الأساس وربما الوحيد في أناه الأعلى هو كرسيه في قصر المهاجرين، ومن هنا فإن هذا السعي المتأصل عنده للسيطرة مبكراً على القرار الفلسطيني كان يأتي تماماً من خلال هذه المقاربة السلطوية البحتة، ولعله من هنا أيضاً يأتي تفسير التعليق ذو الدلالة المهمة جداً لوزير دفاعه المزمن العماد مصطفى طلاس، في مرحلة ما بعد حدوث الانفجار السوري الكبير في ٢٠١١، وقبيل خروجه الأخير من سوريا حين قال لأبنائه “حافظ الاسد نسج نظامه ضمن النظام العالمي”، الربط بين الأمرين مهم جداً فمركزية القضية الفلسطينية في سوريا والإقليم، وتباعاً في الدوائر العربية والدولية المحيطة (الأمر الذي يعيه الأسد تماماً)، ستكون إحدى أهم أدوات هذا النسج الذي تحدث عنه العماد طلاس، وعايشه وكان شاهداً عليه ليس فقط بحكم سنين عمله الطويلة مع الأسد، بل أيضاً بسبب مقدرة فائقة جداً على قراءة أفكار ومرامي الأسد عُرِفَ بها العماد دوماً.
هذه القدرة عند العماد طلاس على قراءة أفكار الأسد، واستشراف مراميه ربما كانت هي تماماً وراء وصفه القاذع جداً لعرفات في إحدى خطبه العلنية، والتي كانت تعبر تماماً عما يجول في خواطر الأسد اتجاه عرفات، أخلص لهذه النتيجة لأنني أكاد أجزم أن عرفات لم يكن يوماً آخر ما يفكر فيه العماد طلاس قبل نومه، ولا أول ما يفكر فيه حال استيقاظه من النوم، ولكنه كان يعلم تماماً أن عرفات كان كذلك بالنسبة لحافظ الأسد في تلك الفترة المفصلية من مفاوضات عرفات مع اسرائيل برعاية واشنطن، والتي كانت (كما يعلم العماد علم اليقين) تقلق الأسد جداً، لأنها إن نجحت قد تدفع الأمور في الصراع العربي الفلسطيني باتجاهات قد لا تتفق بالضرورة مع حساباته للمنطقة ولسوريا في صميمها، يعلم العماد أنه كلما ازداد القرب من كرسي قصر المهاجرين تزداد الحساسية، وبإفراط، فكان تقريعه لعرفات في خطابه تعبيراً شديد التركيز عن ذلك، نعم الألفاظ التي تناولت ياسر عرفات بشدة جاءت على لسان مصطفى طلاس، ولكنها قطعاً تنبع من أعماق هواجس حافظ الأسد، الكاتب الحقيقي للنص، لا أدَّلَّ على هذا سوى ما قاله الأسد وقتها لوزير خارجيته فاروق الشرع الذي ذهب إلى رئيسه (مذعوراً) من الإحراج الذي قد تسببه شتيمة العماد بحق ياسر عرفات، ومتوسلاً توجيهاته في طريقة التعامل مع آثارها سياسياً و ديبلوماسياً، ليأتيه جواب الأسد الهادئ والحازم: (يعني برأيك عرفات ما بيستاهل هالحكي يا أبو مضر؟).
موقف كهذا لن يقع فيه العماد الداهية فلسان حاله، تماماً كقلمه، لا يخط ولا يكتب إلا ما يقرره الكاتب الأصلي للنص، وهل من نص في سوريا منذ ١٩٧٠ غير ما يقرره (القائد الخالد)؟ طبعاً لا يستثنى من ذلك أحكام المحاكم الميدانية التي كان يرأسها طلاس بشكل بروتوكولي واضح، منذ محاكمة سليم حاطوم وبدر جمعة في الستينيات وحتى محاكمات المتهمين في
أحداث الثمانينيات.
في سوريا حافظ الأسد لا يوجد مجتهدون ولا مبتكرون، الأمر كله يبدأ وينتهي به ومعه ولهُ، وتوريث السلطة لابنه لم يكن استثناءً أبداً، الأمر الذي وإن بدى للعيان أنه من إنجازات العماد، إلا أن العارفين ببواطن المشهد السوري بدقة يعلمون أن الأمر أعقد من ذلك..
الختيار، كما يحلو لأنصار عرفات مناداته، لم يكن أقل دهاءً من العماد، ففهم شتيمته العلنية له تماماً في إطارها الصحيح والوحيد الذي من الممكن أن تأتي منه، لذلك فهي لم تمنعه من أن يختص العماد بتحية حارة في مراسم تأبين الأسد، التي أصرَّ على حضورها، ليبادله طلاس التحية بمثلها، في مشهد سوريالي لا يتكرر، يفي بوضوح بإدراك عميق لدى ثعلبي السياسة الماكرين أن المسجَّى في نعشه ساعتها هو (صاحب الزمان) في كل ما جرى …. ويجري …..
لا أقصد من هذا السرد أن أختصر العلاقة السورية الفلسطينية بحالات المد والجزر بين حافظ الأسد وياسر عرفات، فهي بالتأكيد أكبر من الرجلين اللذين غادرا دنيانا، وهذا له حلقات قادمة…
نشمي عربي