كعادته كل صباح بعد أن يحتسي راشد قهوته ترتخي أمعاؤه فيضع صحف الأمس التي جلبها من الدائرة التي يعمل بها تحت إبطه ويهرع لقضاء حاجته، يقرأ هناك الصفحة الثقافية من كل جريدة ويحل الكلمات المتقاطعة ويشاهد الصور جميعها، وفي هذه المرة بعد أن قرأ القصائد والقصص، وكان قد قضى نصف حاجته لفتت انتباهه صورة لكبار رجال الدولة وقد عقدوا الدبكة في إحدى الساحات كانت تتصدر مقالة احتوى عنوانها على عبارة عرس انتخابي، ابتسم عندما شاهد الصورة التي بدت أقرب إلى رسم كاريكاتيري، وأخذ يرسم لرجالات الدولة شوارب وذقونا ورسم على رأس وزيره طنجرة وفكر أن يرمي الجريدة على سطح إحدى الطاولات في الدائرة ويراقب ردات الفعل. وأعجبته الفكرة ولكنه أجرى تعديلا قليلا فالطنجرة على رأس الوزير دعابة ربما تثير ضحك الوزير نفسه، وهو يريد أن يمرغ أنف الوزير بالوحل، هو نفسه لا يعرف لماذا، وقرر بعد خروجه من الحمام أن يقص صورة حذاء ويلصقها فوق رأس الوزير، صورة مثل هذه ستفعل فعلها وأخذ يتخيل أحد الوشاة وهو يسلم الصورة لمدير مكتب الوزير، وكان يريد أن يتخيل رئيس المكتب وهو يعرض الصورة على الوزير عندما أصابته رعشة لا تفسير لها في مكان القلب، وضع يده على قلبه وشعر بقلق، وعندما تكررت الرعشة أصابه رعب، ليس من الموت فكل نفس ذائقة إياه، ولكن من الموت في هذا المكان تحديدا، تخيل الموقف فورا، سيتأخر عن العمل وسيتصلون به فلا يرد على اتصالاتهم فيقلقون ويحضرون إليه ويقرعون الباب فلا يفتح فيكسرونه ويدخلون، ويبحثون عنه في المنزل فلا يجدونه ويهمون بالخروج دون أن يعثروا عليه ولكن أحدهم أو بشكل أدق إسماعيل الذي يقضي حاجته الصغيرة في كل مكان يدخل إليه بسبب ارتفاع السكر سيتوجه إلى الحمام من أجل هذه الغاية ويعثر عليه هناك منكبا على وجهه قرب مقعد الحمام ومؤخرته المكشوفة تتصدر المشهد، سيرشون عليه الماء لأنهم سيظنونه في غيبوبة ويحاول بعضهم رفعه من هناك وتغطية مؤخرته، ولكن فؤاد سيصرخ بهم لكي يدعونه كما هو فلعل في الموضوع جريمة قتل، عندها تغيير معالم المكان سيؤثر على مجرى التحقيق وربما توجه التهمة لمن رفعه على أساس أنه فعل ذلك خصيصا ليخفي أدلة ما وستأتي الشرطة، وسيأتي المصور الجنائي يلتقط له الصور من جميع الزوايا وستخلد صور مؤخرته في أرشيف العدالة، قفز راشد عن المقعد وقام بالإجراءات اللازمة لمغادرة المكان بأقصى سرعة ممكنة وخرج.
كانت حياة راشد تشبه حياة ساعة الجدار تقريبا،أو أي ساعة أخرى، فهو يستيقظ في الصباح ويقوم فورا بوضع دلة القهوة على نار هادئة، ثم يغسل وجهه بالماء بلا صابون ويعود ليسكب فنجان قهوته الصباحية الكبير الحجم نسبيا ويبدأ بمطالعة الصحف، وعندما ينتهي من احتساء القهوة تكون أمعاؤه قد بدأت بالتحرك فيضع بقية الجرائد تحت إبطه وينتقل لقراءتها في الحمام، أسوأ شيء كان يتصوره راشد هو أن يضطر للخروج قبل أن يقضي حاجته، ولذلك فإن اليوم هو من الأيام السيئة لراشد الذي اضطر للخروج من الحمام دون أن يقضي أكثر من نصف حاجته، بعد الفطور ستتأزم الحالة وسيصاب بالنفخة وسيعاني وضعا غير مريح، سيكون يومه تعيسا، لا يحب أن يقضي حاجته في الوظيفة ولكن يبدو أنه سيضطر اليوم لفعل ذلك، يجب أن يزود كل مكتب بمنافعه الخاصة، لا يجوز أن يكون هناك في العمل حمامات عامة للجميع، الموظفين والمراجعين، ما الذي يجعل المراجع يحتاج إلى حمامات، هي دقائق وينصرف، لماذا لم ينته من هذه التفاصيل قبل أن يخرج من البيت، عشرات الموظفين في الدائرة، هل يكفيهم ثلاثة أو أربعة حمامات، في الدول المتحضرة يحسب حساب لمثل هذه الأمور، في كل دائرة هناك حمامات عامة وحمامة خاصة بالموظفين، ولكن هيهات منا الحضارة، عندنا كل شيء رفع عتب، الحمام ينظف مرة واحدة في اليوم وإذا دخل شخص قذر غير مهتم بنظافة الدائرة فإن نتائج سفالته ستبقى إلى صباح اليوم التالي، بعضهم يفعلها وهو يتحدث بالهاتف، لا أريد الحديث عن هذا الموضوع، قال راشد شاعرا باليأس وارتدى ثيابه وأخذ معه عدة علب محارم لكي لا يلامس بدنه أي نقطة من بورسلان الحمام، سيكون ذلك حلا مقبولا.
المشكلة الوحيدة أنه في حمام الدائرة لن يتمكن من إدخال الصحف معه، لأنه لو فعل ذلك سيتحول إلى سخرية وربما يتهمه البعض بوطنيته لأن فيها صورا لقيادات من غير المقبول إدخالها إلى الحمام ولكن لماذا البعض فمن سيخونه هو فارس الذي يقوم بأداء التحية العسكرية للصورة المعلقة في صدر المكتب كل يوم عند دخوله، ولا ينسى أن يقول احترامي سيدي ويصفق نعله بالأرض، إذا علم فارس أن هذه الصورة دخلت إلى الحمامات لن يتوانى عن توجيه تهمة الخيانة العظمى إلى راشد، صحيح أن الأجهزة المختصة ربما لن تتفق مع فارس بتوجيه هذه التهمة ولكنها ستوجه تهمة وهن عزيمة الأمة بكل تاكيد، البعض الآخر سيكفره ويتهمه بإيمانه لأنه ربما يكون فيها كلمات مقدسة، ولكي نكون أكثر دقة فإن الذي سيكفره تحديدا هو الشيخ عماد الذي يؤكد على عدم إدخال أي شيء مكتوب إلى الحمامات، حتى لو لم يكن فيها نصوص مقدسة يكفي وجود الحروف التي يكتسب كل حرف منها صفة القدسية لأنها جميعا تدخل في تكوين النصوص المقدسة، وعندما يكفرك الشيخ عماد فهذا يعني أن أكثر من نصف الموظفين سيكفرونك ، شعبنا لا هم له إلا السخرية وتوجيه الاتهامات قال راشد لنفسه وأخفى الجريدة تحت جاكيته وكم تضايق حين اكتشف بعد دخوله أن أحدهم قد سبقه إلى حل الكلمات المتقاطعة فيها، لم تكن العملية في الدائرة ممكنة بنفس السلاسة التي تجري فيها في المنزل، خاصة أن أكثر من شخص أمسك بمقبض الباب وأداره في أول ثلاث دقائق، حتى الصفحة الثقافية غير موجودة، ماذا سأقرأ الآن؟ فكر راشد ثم تساءل: الإعلانات؟ وأخذ يقرأ الإعلانات واكتشف أن فيها الكثير من الأشياء الممتعة، وكاد يباشر في الموضوع الذي جاء من أجله ولكن الفكرة التي داهمته بعد الرعشة في المنزل عادت لتراوده هنا، ماذا لو قرر القلب التوقف هنا، ما الفرق بالنسبة له بين المنزل والدائرة؟ القلوب تستطيع أن تتوقف في أي مكان بالنسبة لها كل الأمكنة صالحة لذلك، سيناريو المنزل أمر تافه مقارنة مع ما يمكن أن يحدث في سيناريو الدائرة الذي تولفت حبكته في رأس راشد. سيستغرب أحد ما على الأغلب إنه سيكون إسماعيل الذي حضر إلى الحمام عدة مرات ووجده مغلقا، سيستغرب ذلك ويُعلم الموظفين بالأمر فيأتي أحدهم أو ربما بعضهم ويطرقون الباب ثم سيكسرونه فيشاهدون راشد هناك منكبا على وجهه وقد تصدرت مؤخرته المكشوفة المشهد، سيطلب منهم فؤاد عدم التدخل بمعالم الجريمة و سيشير إليه الشيخ عماد ويخاطب الجميع قائلا إن هذه ميتة من لم يكن يقرب الصلاة، من يرغب في ميتة كهذه فليتقاعس في صلاته، وسيكون بين الجمهور مراجعون، وربما، لا لا ليس ربما، بالتأكيد سيخرج بعضهم الموبايلات ويصورون المشهد وسينشر الفيديو على الفيس بوك واليوتوب ويحقق نسبة مشاهدات مرتفعة، وسيعلق القطيع الذي يحتل وسائل التواصل بعبارات لا تعرف الرحمة ولا تراعي أدنى حرمة للموت، هب راشد واقفا واتخذ الإجراءات بسرعة وخرج من الحمام تاركا كل شيء كما هو، وأكمل نهاره متضايقا من النفخة التي كانت تثقل أمعاءه وقرر اعتبارا من اليوم أن يتبع حمية لا يتناول خلالها إلا أطعمة خفيفة سهلة الهضم لا يشعر الإنسان بها في أمعائه، ولذلك قرر التخلي عن الخبز وجميع أنواع المعجنات والفول والحمص والعدس وكل أنواع البقول وكل أنواع الطعام المقلي وأشياء كثيرة أخرى، وركز راشد على الشوربات وخاصة شوربة الدجاج وشوربة الخضار، سيبدأ بذلك غدا، وربما اليوم على الغداء ولكن الأهم من ذلك كله إنهاء ما كان قد بدأه صباحا والحصول على شعور بالراحة، دخل مرة أخرى إلى الحمام محاولا تجاهل تلك الفكرة ولكنه لم يستطع، كانت تلح عليه، قرر زيارة صديق له يحب لعب النرد وقرر التسلي عن تلك الفكرة بالنرد وانفعالاته التي يتسم بها اللعب مع ذلك الصديق، لعله يستغل الفرصة ويحقق خرقا يساعده على إنهاء الموضوع، وفعلا قهقه راشد كثيرا عندما قام صديقه المغلوب بطحن الزهر الخائن بمطحنة القهوة، وذهب لكي يصنع الشاي فاستغل راشد الفرصة وانسل إلى الحمام وقد أصبحت أمعاؤه تلح عليه بشكل لا يطاق، وتمنى أن يحدث الأمر بسرعة تجعل الفكرة تتاخر في الاستحواذ عليه، ولكنه لم يكد يجلس على المقعد حتى أخذت الفكرة ترسم له السيناريو، سيحضر صديقه الشاي وبعد قليل سيبرد الشاي فيقلق صديقه ويذهب إلى الحمام ينقر على الباب ويتساءل مازحا:
– أما زلت حيا؟
ثم لا يسمع ردا فيكسر الباب ويشاهد ذلك المنظر الذي ما إن يتخيله راشد حتى يقشعر بدنه، فلملم نفسه وخرج مسرعا.
فكر راشد بأن الحمامات العامة في الشارع ربما تكون مكانا حياديا، ولكن أبشع السيناريوهات تشكلت في مخيلة راشد هناك، سيجدونه مرميا ومؤخرته مكشوفة. وسيصوره الكثيرون وستتسابق مواقع المحطات الفضائية على عرض الفيديو مروسة إياه بعناوين مشوقة من نمط ( بالفيديو رجل دخل إلى المنافع العامة فماذا حصل؟) أو شيء من هذا القبيل، وحدها الصحف التي تحترم نفسها ستقول بوضوح و بدون تجارة على الموضوع ( العثور على جثة رجل في المنافع العامة) ثم تحسس راشد جيبه فاكتشف أنه لا يحمل هوية وعدل العنوان ( العثور على جثة رجل مجهول في المنافع العامة) وعاد أدراجه قبل أن يدخل إلى هناك.
لم يذق راشد طعم النوم، تقلب كثيرا ولم يجد الراحة في أي وضعية، بطنه المنفوخ يبعث على الجنون، قرر أكثر من مرة أن يدخل وينهي الأمر وليكن ما يكون، ولكنه كان يعجز في منتصف الطريق ويستسلم للفكرة اللعينة وكانت أمعاؤه المرتبكة متآمرة معها، حيث إنها لم تكن تلبي رغبته رغم أنه في كل مرة كان يشرب القهوة،
قرر راشد الذهاب إلى الطبيب، الذي فحصه وأكد له أن له قلب حصان، وأن أي خطر من ناحية القلب لا يهدد حياته وما الرعشة التي شعر بها سوى تقلص عضلة في منطقة الصدر يحدث لأي سبب تافه، شعر راشد بالارتياح لهذا الكلام وأسرع باتجاه المنزل للانتهاء من الأمر وهو مطمئن البال، ولكن الرعشة عادت إليه بقوة وشعر للحظة أنه لم يتمكن من التقاط نفسه فخرج مسرعا وقد تكونت قناعة راسخة في داخله بأن الطبيب (حمار) كما يحب شعبنا وصف الأطباء عندما لا يتفقون مع تشخيصاتهم، راجع راشد أطباء كثر وكانت النتيجة نفسها (قلبك سليم) وأخيرا توصل راشد إلى نتيجة مفادها أنه يعاني من مرض جديد في القلب لا يعرفه الأطباء، وقرر أنه (لا يحك جلدك غير ظفرك) وبدأ بالتفكير باختراع يقوم بستر الإنسان إذا سقط ميتا في المرحاض قبل وصول الفضوليين والطفوليين، ففكر بنطال يقوم برفع نفسه خلال خمس دقائق إذا لم يضغط صاحبه على زر معين، وضع الكثير من الدراسات لهذا البنطال، ثم فكر باختراع رجل آلي يعيش في الحمام ويقوم كل خمس دقائق بسؤال صاحبه : (هل أرفع لك بنطالك؟) فإذا أجاب بلا يعود الرجل الآلي إلى زاويته، وإذا لم يجب يقوم الرجل الآلي برفع بنطاله، وهكذا حمل راشد المخططات التي قام بها وأخذها الى لجنة تسجيل الاختراعات لكي يحصل هناك على براءة اختراع، ولكنه قوبل هناك بالسخرية وطردوه بشكل لبق، ولكنهم في اللجنة الأعلى التي تقدم إليها راشد لم يتحلوا باللباقة، فقد طردوه بشكل فج، ومن لجنة إلى أخرى وجد راشد نفسه في مشفى الأمراض النفسية، وقد وضع قرب اسمه في الملفات تشخيص لا يتمتع به سوى شخص وحيد في العالم هو راشد ألا وهو (فوبيا المراحيض) عاش راشد سنوات عدة في المشفى متابعا أبحاثه في البنطلون والرجل الآليين الى أن اندلعت الحرب التي وصل أوارها إلى مشفى الأمراض النفسية هذا فهرب الطاقم الطبي والنزلاء واختفت آثار راشد، ولكن بعد عام من ذلك انتشرت في الأسواق بناطيل من صناعة الصين ترفع نفسها من تلقاء نفسها، ورجال آليون من صنع اليابان مهمتهم رفع بنطال الشخص في الحمام إذا لم يجب على السؤال المطروح، هل لراشد علاقة بهذين المنتجين أم لا، هذا ما لن نعرفه أبدا، ربما.
ممدوح حمادة