دفع التطور المتكافل لعقل الإنسان وتحرر يديه لصنع الأدوات المستخدمة في الصيد والقتال، دفع الغرائزَ البشرية لتصبح أكثر تأثيرًا وفتكًا بالبيئة المحيطة وكائناتها. شكل ذلك خطرًا على الإنسان ذاته أيضًا، فكان لا بد من إيجاد آلياتٍ جديدة للحفاظ على بقائه، لتحل، على نحوٍ تدريجي، محل آليات التكيف البيولوجية الطبيعية لأسلافه. وهكذا، أُضيفت الكوابح الاجتماعية إلى العلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة، ثم بينها وبين الجماعات الأخرى، كعوامل تساعد في ضبط الصراعات والحيلولة دون فناء الجنس البشري.
منذئذ، تطورت الصراعات بين الجماعات البشرية، وبدوافع أكثر تعقيدًا من مجرد الحصول على الموارد أو تنافس الذكور على الإناث، وصار من الصعب على الطرف الأقوى التوقف عن القتال قبل إحداث ضرر بالغ بمنافسه، فلم تعد الإشارات البيولوجية للطرف الضعيف كافية لتشعر القوي بضرورة التوقف عن القتال. ولعل اختفاء إنسان نيادرتال قبل عشرات آلاف السنين مرده إلى ظهور سلالة الإنسان الحالي الأكثر تطورًا، والتي أفنت إنسان نيادرتال كمنافس طبيعي، كما ترجح بعض نظريات الأنثروبولوجيا (علم تطور الإنسان).
من هذه الآليات الاجتماعية الجديدة، الهادفة إلى ضبط الصراع بين أبناء الجنس البشري، نشأت بذور الأعراف والتقاليد، وصولًا إلى القوانين التي تنظم مختلف أوجه العلاقات البشرية، بما في ذلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم، السلطة والمجتمع، وصولًا إلى تنظيم العلاقات بين الدول وحماية البيئة واتفاقيات نزع الأسلحة الحديثة، القادرة على تدمير الحياة على الأرض، مع أن النتائج ما تزال متواضعة بالمقارنة مع حجم المخاطر المحدقة بالحياة والبيئة.
بكلام آخر، يلخص تطور القوانين مسيرة التقدم والتمدن البشريين، إذ لم يكن بوسع البشر أن يتقدموا خطوة واحدة إلى الأمام إن لم يتفقوا على إجراءات تقيّد غرائزهم المسلحة. قاد ذلك في نهاية المطاف إلى حالة أكثر تقدمًا في طرائق الحكم والحوكمة تدعى دولة القانون، الدولة التي تحكم فيها القوانين المنبثقة من دستورٍ متفق عليه من قبل جماعة تعيش في مساحة جغرافية تدعى وطنًا. إنها الدولة الديمقراطية الحديثة، التي تمتلك القدرة على التطور باستمرار لتتلاءم مع احتياجات المجتمع والفرد.
سبق الوصول إلى هذه الدولة الديمقراطية الحديثة أو دولة القانون مرحلة طويلة من الاستبداد، مثلت في حينها ضرورة تاريخية تتناسب مع درجة تطور المجتمعات على العموم. حاليًا، مع زيادة درجة الوعي وسرعة الحصول على المعلومات وتبادلها، أصبح الاستبداد نشازًا كأسلوب من أساليب الحكم، ويتسبب بكوارث للشعوب المنكوبة به، ومنها مأساتنا الحالية. حتى أن فكرة المستبد العادل بقيت استثناء تاريخيًا، هذا إن وجدت أصلًا، وحل مكانها في الوقت الحالي مفهوم سيادة القانون.
كانت فكرة الاستبداد السياسي في تاريخ سورية الحديث قد تطورت منذ عهد الوحدة المصرية – السورية على نحوٍ خاص، وعلى أساس الوعود بتحقيق العدالة الاجتماعية، ثم ضاعت هذه الوعود في الطريق وبقي الاستبداد وما جرّه من مصائب. ساعد في ذلك وجود تقاليد استبدادية في الأسرة والمدرسة وعادات المجتمع وتقاليده، ومنها تعليق الآمال على المستبد والإعجاب بشخصيته، التي يكتنفها الغموض عادةً وتُحاط بهالة من الرهبة والقداسة من قبل عامة الناس.
لكن المستبد السوري لم يكتفِ بالاستناد إلى حلم العامة بفكرة المستبد العادل وتقبلهم لفكرة الاستبداد، أو الاكتفاء باستغلال عواطفهم المتعلقة بالإرث التاريخي والديني المنحاز للاستبداد، كتقليد وعرف، إنما أضاف إليها القمع العاري كوسيلة رادعة وعشوائية أحيانًا، واستخدم القوانين الوضعية بصورة انتقائية وفقًا لمصلحته، فانتهك بالتالي جوهر العدالة المتمثل بتطبيق القانون على الجميع بلا استثناء من قبل قضاء مستقل. ومع ذلك، خسر الاستبداد معظم ركائزه بعد الانفجار السوري الكبير عام 2011، وتقلصت شريحة مؤيديه طردًا مع تدفق سيل المعلومات وصعوبة حجبها وتفاقم حالة البؤس والفقر، بالرغم من أن بعض الرافضين له يريدون، في الواقع، استبداله باستبدادٍ آخر، إذ إن وعي الحرية لم ينضج ويتمأسس بعدُ.
تتجلى أهمية القوانين الوضعية بكونها داعمة للأعراف والأخلاق الاجتماعية، وهي رادعة لشريحة اجتماعية محددة تختلف نسبتها من مجتمع إلى آخر، وهي التي تشكل تصرفاتها خطرًا على الباقين. وإذا افترضنا بأن نسبة هذه الشريحة هي 10 بالمئة، كاستثناء عن القاعدة موجود في معظم الظواهر الطبيعية والبشرية، فإن أفرادها أحوج ما يكونون إلى قوانين تردعهم. وبمرور الوقت، تتناقص نسبة الذين لا يخضعون للنظام العام، نظرًا لاعتياد أغلبية الناس على العيش في ظل القوانين واحترامهم لها والدفاع عنها، وتخليهم عن جزء من حريتهم كثمن لا بد من دفعه من أجل استتباب النظام والعيش بأمان.
السوريون الآن أحوج ما يكونون للعيش في ظل قوانين مرنة يسنها ويطبقها قضاء مستقل، الأمر الذي حُرموا منه لعقود عدة، لدرجة أن الحياة تحولت إلى ما يشبه غابة يسود فيها الأقوياء والمقربون من السلطات، وأولئك الذين خبروا الالتفاف على القوانين الغارقة في سباتها، وقد تحولت وظيفة القضاء إلى تفصيل القوانين بما يتناسب ومصالح سلطة الاستبداد ودوامها. لا يتحقق ذلك من دون المشاركة الشعبية المنظمة في عمل أجهزة الدولة والرقابة عليها، في أجواء تتحقق فيها الحريات العامة، على رأسها حرية التعبير عن الرأي.
إن سيادة القانون في دولة تُستعاد من قبضة السلطة الأمنية، بعد تطبيق مختلف أشكال العدالة الانتقالية، كفيل باستعادة الثقة المفقودة بمؤسسات الدولة، في الطريق إلى مستقبل مزدهر يليق بالسوريين بعد كل هذه الأثمان الباهظة والتجارب المريرة مع كل صنوف الاستبداد، ولقطع الطريق على محاولات العودة إلى الماضي القريب أو البعيد من قبل مَن يحاولون تأخير هذا الاستحقاق والتسبب بالمزيد من المآسي.