أوليبياد –
فاجأت بطلات الجمباز الألمانيات الأولمبياد الأخير حين ظهرن بلباس مستور خلافاً لتقاليد هذا الألعاب!! وكذلك فقد ظهر فريق الكرة الشاطئية للنرويجيات مرتدياً ثياباً مختلفة رافضة للعري الفاضح الذي يصاحب هذه اللعبة المعروفة على الشواطئ، ومع أن هذا الموقف كان مخالفاً لشروط الأولمبياد، ولكن الفريق النرويجي دفع الغرامة المقررة وأصر على موقفه.
وهكذا فقد بات التحول إلى اللباس الأكثر عفافاً شأناً عالمياً، ولم يعد مقتصراً على فتيات السعودية واليمن وإيران، بل إن الفائض الحضاري في العلم والمعرفة ينتج فائضاً أخلاقياً في الفضيلة والاحترام.
وتم تلقي هذا الخبر في كثير من المواقع كتقليعة إعلامية، ولم يوافق كثير من الأصدقاء أن للخطوات هذه هدفاً أخلاقياً يتصل بالحشمة والعفاف، وللأسف فإن الفكرة القائلة بأن العفاف فضيلة شرقية وأن العالم قائم على الرذيلة هي فكرة متجذرة في ثقافتنا، ونحتاج كثيراً من الجهد لقراءة العالم كما هو في عيون الشرفاء والنبلاء في الأرض.
قناعتي أن هذا الموقف يعتبر تطوراً طبيعياً باتجاه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وبعد أن استوفى المجتمع الغربي نهمته وأمانيه من الحريات، وذهب إلى الغاية في ممارستها بات أقدر على التحول إلى مواقف أكثر اعتدالا فيما يتصل بالفطرة والعفاف.
سبب التطور الجديد
وكان سبب نزول هذا التطور الجديد هو سلسلة من الفضائح التي رافقت ظاهرة التعري في الأولمبياد، وأشهرها فضيحة الطبيب لوريس نصار طبيب الفريق الألماني للجمباز، الذي أدانته محكمة أمريكية بالاعتداء الجنسي على اللاعبات، وتم الحكم عليه 176 سنة سجن في موقف أخلاقي كبير ثأرت فيه العدالة الأمريكية من الانحراف والرذيلة.
ولا شك أن هذه المواقف قدمت دعماً معنوياً كبيراً للمرأة المسلمة المشاركة، وأسقطت كثيراً من القيود التي وضعها مهندسو الأولمبياد، بعيداً عن شروط الأمم المشاركة، وبشكل خاص الشرط العربي والإسلامي، وهو سلوك يكرّس استبداد الأمم الغالبة وهو في الجانب الأخلاقي انحراف عن المساواة بدأت تستيقظ له الأمم اليوم، وأعتقد أن معايير الرياضات ستذهب في اتجاه أكثر مواءمة لمطالب الشعوب المشاركة.
لا أدري لماذا يصر كثير من الأصدقاء أن هذه الممارسات حين تظهر من المرأة السعودية أو الإيرانية تكون نابعة من الأخلاق والعفاف فيما يصرون إذا ظهرت من غيرنا أنها نابعة من المصالح ولا صلة لها بالأخلاق؟
قناعتي أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها تتقارب بين الأمم كلما تفوقت حضارياً وشعر بعضها ببعض، وأن الإنسانية ماضية إلى الاعتدال والتقارب، وسينقرض العري الفاضح كما سينقرض النقاب المتطرف، والإنسانية مؤهلة للدخول في قيم مشتركة يحترمها الجميع.
والعفاف قيمة إنسانية حقيقية، ويجب ألّا ننخدع بما تروجه شركات الانحراف الإباحية، التي تستغل قيم الحرية لتصوير المجتمعات المتحضرة بالمجتمعات العاهرة، فالحقيقة غير ذلك، والأسر النبيلة والعائلات المحترمة في الغرب والشرق تعرف قيم الأخلاق والفضيلة وتناضل بضراوة ضد سلوك الشركات الإباحية المتاجرة بالجنس، والتي تروج في مجتمعاتنا العربية والإسلامية رواجاً كبيراً، للأسف، فيتقبلها كثير منا في السر ويلعنونها في العلن.
كلينتون ومونيكا
لا ينسى القارئ الكريم أن الرئيس كلينتون الذي كان أنجح رؤساء أمريكا وأكثرهم شعبية سقط في خطأ أخلاقي مع مونيكا لوينسكي، وأن المجتمع الأمريكي لم يغفر له ذلك أبداً، واستفاد خصومه من هذا الخطأ الأخلاقي وطوروا القضية تحت تهمة الكذب تحت القسم وراحوا يحاكمون كلينتون في محاكمة شهيرة وتم إقرار المحاكمة في الكونغرس والتصويت في مجلس الشيوخ وبفارق صوت واحد، نجا رئيس الولايات المتحدة من العزل والفضيحة والتشهير بسبب عبث أخلاقي، وأثبت الأمريكي أن الرذيلة رذيلة وحقها التشهير والفضيحة وأن العوائل النبيلة لن تتقبل ذلك أبداً، وأن الأمريكي الذي يبرر ذلك لنفسه لن يبرر ذلك لزعيمه الذي يفترض أن يكون قدوة في الوفاء والأخلاق.
ولن ينسى القراء الكرام أن الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا ظل هدفاً مباشراً لكثير من منظمات الأسرة والدين في بريطانيا، التي استنكرت أشد الاستنكار علاقاته النسائية واعتبرتها تفريطاً بقيم الأسرة في بريطانيا وعبثاً بالثوابت الأخلاقية، ووصل الأمر أيضاً إلى المطالبة بخلعه من ولاية العرش البريطاني احتراماً للقيم النبيلة للأسرة الإنكليزية.
بل إن الحكم القضائي الأمريكي على لاري نصار السجن 176 سنة لجرائمه الجنسية وحده كاف لفهم طبيعة ما يشعر به الإنسان المتحضر من قيم الأخلاق والعفاف، والغضب من انتهاكها، ومن المؤسف الاعتراف بأن قضايا التحرش في البلاد العربية لا تزال مرتفعة بالمعايير العالمية إلى حد بعيد، وفي مصر مثلاً فإن قضايا التحرش تزيد عن في الولايات المتحدة الأمريكية كلها، وأظهر تقرير للأمم المتحدة عام 2017 أن 60% من نساء مصر قد تعرضن للتحرش، ولو طبق القضاء هذه الصرامة في مصر لوقعت مصر في أكبر أزمة لنقص السجون.
هناك بالطبع ألف رد على هذه الدعوى، وسيقول معارضون إن أمريكا نفسها غارقة في الإباحية، ويؤلمني تصريح يعضهم بأنه يعيش في الغرب ويشاهد الناس دوماً تمارس الخطيئة في قارعة الطريق! وأن الفتاة التي لا تمارس الجنس معقدة ومريضة في نظر أهلها، والخيانة بين الزوجين عادية ومألوفة، ويعتبر أن العفاف والفضيلة مجرد خرافة شرقية، وأنه لا يوجد شيء من آثار باب الحارة وحارة الضبع في الولايات المتحدة الأمريكية!!
تصور خاطئ
والحقيقة أن هذا تصور خاطئ تماماً، ولست أدري في أي بار يعيش هذا المشاهد، والذين يعيشون في الغرب يمكنهم أن يقدموا وصفاً متناقضاً لواقع الطهارة الأسرية والخيانة الزوجية، فالمشهدان متوفران ولا ننكر هذا، ولكن قل لي بماذا تهتم وستصل إلى اهتمامك، لقد عشت زمناً في الدول الغربية ولفتني احترام الأسرة وقدسية الوفاء للزوجة، وإذا كانت تيارات الحريات المنفلتة ومعها شركات الإعلان الإباحي تحقق بعض النجاح، فإن تيارات قوية تقف في مواجهة ذلك وتسجل بين الحين والآخر نجاحات مهمة، فهناك منظمات الأسرة ومنظمات الطفولة ومنظمات الصحة ومنظمات الدين في الكنيسة والمسجد وكلها تتضافر على حماية الأسرة وتقديس الأمانة ونبذ الخيانة، وهذه طبيعة الحياة، ولايزال الحق والباطل والفضيلة والرذيلة يتناوبان في الصراع ويتقاسمان السيطرة والنفوذ.
إنني لا أتحدث عن أسلمة الجمباز ولا أسلمة الكرة الشاطئية، إنها مجرد ممارسات لافتة حصلت في ظروف خاصة، وربما لا تلتحق الفرق الأخرى بالخيار الألماني أو النرويجي، ويجب ان نكف عن أساليب مشعوذينا في قيادة حركة التاريخ إلى حيث يوافق أمانينا المستكنة، لنقول بمكر لقد قلنا ذلك منذ قرون بعيدة ولكنكم لاتعقلون!!!
وغاية الأمر أنني أشعر باحترام كبير للقرار الألماني والنرويجي، وأعتقد أن سياق البشرية في نهوضها الحضارية هو سياق أخلاقي، وأن الفطرة التي فطر الله الناس عليها موجودة على شاطئي المتوسط وضفتي الأطلسي، وهي في السياق الشرقي كما هي في السياق الغربي، وإن ذرية آدم متوزعة على الضفتين وفيها الجينات إياها، فمن كان يريد العفاف فهو قيمة محترمة في كل الأمم، ومن أراد الرذيلة فإن التكنولوجيا باتت توفر له الفرصة في البر والبحر والجو والأونلاين وما لا تعلمون.
محمد حبش