د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
قال لي: تخيل بماذا أسر لي دكتور فلسفة ينتمي إلى الطائفة نفسها التي أنتمي إليها: “أنا لا أستطيع إلا أن أكون طائفياً”. من أين نشأت هذه الجبرية في أن يكون المرء طائفياً؟ كيف لم يستطع دكتور يعرف أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن رشد وماركس ويعلمهم أن يتحرر من وعيه المتعصب المتخلف في الانتماء؟ وهل يقود الانتماء إلى طائفة ما إلى عصبية طائفية بالضرورة؟ وما هي الوظيفة التي تقوم بها عصبية طائفية متعصبة؟
وشخص آخر منعه تعصبه القومي من أن يكون له شأن في عالم الفلسفة. وراح يُظهر تعصبه القومي في خطاب أيديولوجي مناهض للعرب.
أن يكون المرء منتمياً إلى طائفة تكونت عبر التاريخ فهذه حال معقولة، لكن التعصب الطائفي ليس الانتماء إلى طائفة، بل انتماء يقود إلى كره المختلف ويبني علاقة بتاريخ متخيل وسردية تلقي بالمسؤولية على هذا المختلف باضطهاد ما، ويتحول هذا الكره إلى حقد تاريخي يولد الرغبة بالانتقام والثأر.
فالطائفي الشيعي العلوي أو الدرزي أو الإسماعيلي لا يكره المسيحي المختلف، لأن المسيحي ليس آخر في سردية تلومه. إن الآخر المكروه هنا هو السني.
بالمقابل إن السني المتعصب لا يعيش سردية تتحدث عن مسؤولية الطوائف التاريخية في عذاباته، ولهذا فهو ليس كارهاً بحقد، بل ينظر بعين الإقلال من شأن الطوائف ويشك بانتمائها إلى الإسلام الصحيح، وينال في السردية الشعبية من كل ما يختلف عن السنة بوصفهم يمثلون الدين الصحيح دون باطنية. إذاً الانتماء الطائفي لا يقود بالضرورة إلى تعصب طائفي، وقس على ذلك فإن الانتماء القومي هو الآخر لا يقود حتماً إلى تعصب قومي.
فالتعصب القومي ليس حباً وفخراً بالانتماء القومي، بل كرهاً لقومية أخرى، وتخيل سردية قومية لا تنتمي إلى الواقع.
ولهذا فإن السؤال الأجدر في البحث عن جواب عنه هو: ما هي الشروط التي تحول الانتماء الطائفي والقومي إلى تعصب، إلى طائفية تنطوي على حقد وعنف؟ إلى قومية تؤسس وعيها على كره قومية أخرى.
ما الشروط التي تحول الدين إلى تعصب ديني والانتماء القومي إلى عنصرية قومية.
إن التعصب الطائفي ليس سوى التعبير الأيديولوجي الزائف لعصبية تسعى نحو السيطرة أو مسيطرة، أو مواجهة طائفية مع طائفة مسيطرة. وفي كل شر.
ولا شك عندي بأن فهم الشروط لا يعني تبرير هذه الواقعة الخطيرة، بل تسمح لنا بأن نفكر في العالم الذي يحول دون وجود هذه الكارثة.
الطائفية والعنصرية وما شابه ذلك داء وليس مرضا عارضاً، ومن أهم عوارضه موت الخلايا الوطنية والإنسانية المسؤولة عن حماية الانتماء والعيش المشترك بين المختلفين.
وتزداد خطورة هذا الداء إذا توارثته اﻷجيال. أما إذا اشتعلت صراعات دموية بسببه فالشفاء منه يكون صعبا جداً.
ولهذا فلبنان منذ أول حرب أهلية عام 1860 وحتى اﻵن لم يتحول إلى وطن. فوجود سلطة ومظاهر دولة خارجية وبطاقة هوية وجواز سفر مع هوية انتماء طائفية قابلة للاشتعال في أية لحظة كل ذلك لا يعني وجود وطن.
وقس على ذلك الكارثة السورية التي تولدت من طائفية السلطة العسكرية الأمنية الإعلامية والتي خلقت التعصب لديها وضدها معاً. فأية أقلية لا تستطيع أن تحكم بالعنف إلا إذا ولدت لدى المنتمين إليها عصبية متعصبة. وباستمرار هذه العصبية المتعصبة فإنها تحول الوطن إلى خراب خفي سرعان ما ينفجر.
وأي سلطة دولة أو شبه دولة تميز بين مواطنيها في الحقوق والواجبات بعامة وبسبب الانتماء القومي بخاصة تخلق التربة الصالحة لنمو بذور التعصب القومي.
فالوطن وجود يحقق لساكنيه الأمن والحرية السياسية والاجتماعية والتساوي في الحقوق والواجبات.
إنه المواطن نفسه. ويخلق الشعور المشترك بهذا كله، أي إن الواقع يجب أن ينعكس في الشعور بالانتماء.
إذاً هناك تناقض شديد بين الطائفية والوطن، بين العنصرية والوطن. وكل كفاح إذا لم يتحرر من داء التعصب الطائفي والقومي لا يؤدي الى ولادة وطن.
الخطاب الطائفي خطاب خطير كخطورة الوقائع الطائفية. والخطاب التعصبي القومي هو الآخر كارثي. ومواجهة وقائع طائفية بمواقف طائفية مضادة مواجهة زائفة، كما إن مواجهة تعصب قومي بتعصب قومي آخر لا ينجب إلا الكوارث المجتمعية.
بل قل إن العنف الذي نشهده في بلادنا ليس إلا أحد وجوه التعصب هذا.
بكلمة أخرى: المواطنة حقوق متساوية، حرية، وثمرة عقد وطني واجتماعي وسياسي، المواطنة هي الشرط الضروري لانتصار ثقافة الانتماء الوطني.