[jnews_post_author ]
نحن أولاد الحياة قبل كل شيء، نولد ونعيش ونموت، ولا فضل لنا إلا بإدراك هذه السيرورة بالعقل الواعي، الذي تميزنا به عن باقي الكائنات، ولكنه لم يمنحنا أفضلية وجودية، فالبيئة هي المشترك الحيوي الذي لا يمكن العبث فيه بلا عواقب وخيمة على الجميع. لا يجوز أن ننسى هذه البديهة مهما تغلفت وتموهت بموروثنا الثقافي والاجتماعي، ومهما أضفنا إليها، كأشخاص، طبقات أخرى من مفرزات الوعي لتعيين ذواتنا الخاصة، ليكتمل تعريفنا في الوجود، بكائناته وأشيائه وشروط العيش فيه.
وكان ابتعادنا عن الحياة الغريزية البدائية قد تطلب أشكالاً متنوعة ومستمرة من تطور وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وصولاً إلى نظام العشيرة، ومن ثم تطورت الممالك/ الدول، وتضخمت أجهزتها البيروقراطية لتدير وتنظم وتحكم. أقامت الممالك نظاماً مطلقاً يقوم على قوة الرمز، فالرمز – الملك هو الهادي والضامن والوسيط في عالم الوجود الغامض، لا يهم إن نزل من السماء أو ارتفع من الأرض، فهو نصف إله ونصف بشر، وعليه أن يبقى معلقاً بينهما، ليحتل موضعاً متوسطاً بين الواقع والحلم، ويخفف من القلق الوجودي الذي أفرزه الوعي، كصدفة من الطبيعة، وقد تغلغل في الوجود، الوجود الذي هو غير قابل للفهم ولا يمكن تجاهله في آنٍ معاً، فلا بد من تنميطه وتجسيده بأشكال فهمه غير المكتملة، والتي عبرت عنها الأديان عبر تاريخ تطورها، وما زالت.
وكما يستمر الوجود البشري في تجاوز ذاته للارتقاء من مرحلة إلى أخرى، مختزناً بدائيته لتنفجر كحرائق غرائزية بين الحين والآخر، كلما تعثر ارتقاءه، فإن تطور الطفل يختصر أيضاً تاريخ جنسه ليصل إلى ما سيكونه، كناضج أو راشد، وتخرجه انفعالاته عن طوره مرات ومرات، خلال مسيرة حياته داخل الجماعة/ المجتمع، تبعاً لدرجة الارتقاء. يحمّل البالغون كل طفل، ككائن مشروط نضجه بما وبمن حوله، ما ورثوه واكتسبوه، فليست التربية هنا سوى عملية تلقين تهدف للتنميط والمسخ في أبعاد محددة ومحروسة برقابة المجتمع أو ما ينوب عنه من مؤسسات، كالأسرة، ولو أن مفهوم التربية قد اتسع وأزال كثيراً من القيود والحواجز أمام الطفل في المجتمعات التي قطعت شوطاً في حماية أبنائها من كل ما ومن يعيق تطورهم الذاتي.
ولا تنفصل الديمقراطية عن سياق تطور البشر نحو المزيد من الحرية والاستقلالية، فعندما يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم يصبحون أحراراً، والقيود التي يضعونها أمام الحريات الشخصية ليست سوى ضمانة لحرية المجتمع ككل، كضرب من تقاسم الحرية، وكأن سلطة الرمز – الملك قد توزعت على الجميع، الذي يوكلون بعضاً منهم، كممثلين منتخبين، لإدارة شؤونهم، بما في ذلك حرياتهم.
وفي الديمقراطية، يتحول الدين بالتدريج من منتج اجتماعي ومكون من مكونات الحرية الجماعية ليتوزع أفقياً على أفراد المجتمع، ويندغم في مكونات ضمائرهم لهذه الدرجة أو تلك. من هنا تكون الديمقراطية قد أفسحت المجال للفرد، كونه لم يعد مجرد فرد في الجماعة إنما في حالة عقد اجتماعي معها محدد بحقوقه وواجباته، أن يصيغ طريقة تديّنه، كتدين وجودي أو كانتماء لدين محدد، ليبني عالمه الروحي ويغنيه بمعزلٍ عن الآخرين، وتصبح مقولة “الدين لله والوطن للجميع” حقيقة مُعاشة.
توفر الديمقراطية، كنظامٍ فضفاضٍ وعصي على الاكتمال، شروط تحرر الفرد من قيوده العمودية، التي آخرها رمزية القائد في الأنظمة الدكتاتورية، كنسخة مزورة عن رمزية الملك – نصف الإله، وتعيد إليه طاقته المسلوبة في خضم التحشيد الجماعي لحماية الرمز – القيد وصيانة عرشه الوهمي، الطاقة التي تتحول إلى المساهمة في تطوره، من خلال إشغاله للموقع الذي يمكنه فيه أن يستخدم طاقاته على الوجه الأمثل، ما ينعكس على تطور المجتمع ككل. كما أن اعتبار الشأن الروحي أمراً خاصاً يسمح للفرد ببناء علاقة ندية مع الآخر في مجتمع المواطنة أو نظام الحقوق والواجبات.
تتصف المرحلة التي تمر بها منطقتنا بفوضى عقيدية مدمرة للحياة، يبدو الخروج منها والارتقاء على حساب وحشيتها صعباً، ولكنه ممكن بالطبع، بالرغم من الأثمان الفادحة، وربما بفضلها، وهذا ما يحصل حالياً. إنه القانون الطبيعي ذاته، حيث الموت، موت القديم، مقدمة لولادة الحياة من جديد.
لا يدرك الناس ما يحدث في مرحلة التحولات التاريخية السريعة، فلا يتخلون عن أصفادهم بسهولة، ولا يشبهون ما يصبون إليه وإن اقتنعوا به، ذواتهم مشوهة ومكبلة، وقيودهم حاجة لاستمرار الحياة وسط مخاطر الفوضى، أو هكذا يعتقدون. في مثل هذه الحالة، يبقى الخلاص فردياً، حتى يقتنعوا أن ما يحميهم هو انتظام جديد لا يشبه سابقه؛ سيادة القانون التي افتقدوها في زمن التوحش، ونظام حكم هم مبدعوه ومطبقوه.
إنها عودة النظام الطبيعي بنسخته البشرية المحدثة إلى الحياة من جديد، حيث حياة البشر وأنماط حيواتهم لا بد وأن تنسجم مع ما تمتلكه الطبيعة من موارد تجود بها عليهم بما لا يعرضها للأذى الدائم، وحيث يضع الناس أرجلهم في بداية الطريق التي يقودون فيها أنفسهم بوعي، ولا يُدفعون من الخلف، فيسقطون في أقرب هاوية.
لا تسري قوانين الطبيعة على الجماد والنبات والحيوان فحسب، إنما على الحياة البشرية أيضاً، حيث التنوع فيها استمرار للتنوع البيئي، والتغير دائم ولو أصابه الركود أحياناً، بينما التماثل مجرد نشاز في الطبيعة، بما في ذلك الحياة البشرية، نتاجها الأحدث.
منير شحود