دمشق – الناس نيوز
نور أبو فراج – الصورة – مي ليلى
لماذا تستطيع الموسيقى –أكثر من جميع الفنون الأخرى- الاستمرار في كل ظرف دون أن تبدو نُخبوية أو خارجة عن السياق؟ ففي الأسابيع القليلة الماضية فشلت الكثير من المبادرات والدعوات لملءفائض وقت الفراغ الذي خلّفه الحجر الصحي. كثيريون لم يمتلكواالرغبة أو التركيز الكافي للقراءة والرسم وتعلّم مهارات جديدة، لكن الأمر لم يكن ذاته فيما يتعلق بسماع الموسيقى أو عزفها.
فالموسيقيون ربما كانوا الشريحة التي نالت أكبر قدر من الحفاوة والامتنان، بعد العاملين في المجال الطبي بالطبع ، كانت البداية مع موسيقى الشرفات التي صدحت في إيطاليا، ليتبعها مبادرات موسيقية انتشر صداها في العالم أجمع.
في سوريا ظهرت إحدى المبادرات الموسيقية الفريدة في عفويتها وبساطتها، حملت اسم “موسيقى الحجر الصحي” وأطلقها مجموعة من الشباب السوريين المهتمين بالموسيقى ومنهم الشابان أحمد غانم ومحمد ابراهيم ، هي عبارة عن مجموعة مُغلقة على موقع الفيسبوك تُرحب بأي شخص هاوٍ أو محترف، يرغب بالغناء والعزف ومشاركة موسيقاه على الملأ. يُكتب في تعريفها أن اسم المجموعة مستوحى من مصطلح “موسيقى الحجرة” الذي يتشابه في لفظه مع ظرف الحجر الصحي الذي يعيشه العالم اليوم.
استطاعت الصفحة التي تم إنشاؤها في (19 آذارمارس) جمع عدد كبير من المتابعين في زمنٍ قياسي، ليصل عدد أعضائها اليوم لما يفوق (53 ألفاً). وهذا ما دفع القائمين على المبادرة إلى وضع بعض القوانين التي تحافظ من وجهة نظرهم على روح الفكرة، ومنها مثلاً منع أي تعليقات تسيء أو تسخر من أي فيديو منشور، إلى جانب اشتراط تجنّب التطرّق لقضايا إشكالية كالدين والسياسية.
بمجرد إنشاء الصفحة، بدأت تتدفق التسجيلات من مؤدين محترفين وأطفال وممثلين وذوي إعاقة وربّات بيوت اعتدن الدندنة داخل منازلهن دون أن يسبق لهن التفكير بإسماع أصواتهن لجمهورٍ أوسع ، فيما جاءت فيديوهات أخرى من أطباء أو ممرضين خلال فترات استراحاتهم في المستشفيات ، بالتأكيد أعطى هذا التنوّع للمجموعة هوية خاصة، على الرغم من أن المستوى المُقدم متفاوتاً بين شخص وآخر، خاصةً وأن القائمين على المجموعة، لا ينصبّون أنفسهم مُحكّمين على جودة الأداء، لأنهم يرون بأن الغناء والاستمتاع بالموسيقى حقٌ للجميع.
هذا وتتضمن المشاركات أغانٍ باللغتين العربية والإنكليزية، فيما تأخذ الأغاني الطربية والقدود والموشّحات ومباريات الزجل مساحة كبيرة من الفيديوهات التي يتم نشرها، كما لو أن الناس في الأوقات الصعبة يهربون إلى الفن الذي يعنيهم ويحركهم حقاً.
لكن وكما يبدو، كان للإقبال الشديد على المجموعة سلبياته أيضاً، بحيث لم تأخذ بعض المشاركات ما تستحقه من اهتمام ، وهذا ما دفع القائمين على المبادرة إلى إيقاف استقبال مشاركات جديدةمؤخراً، مع التعهد بنشر المشاركات التي وصلتهم سابقاً والإبقاء على أرشيف الصفحة. كما أعلن القائمون على الصفحة رغبتهم في تطوير محتواها عبر نشر فيديوهات لتعليم مبادئ الغناء تقدم معلومات موسيقية وتقنية تساعد المهتمين في تطوير مقدراتهم في الأداء.
إلى جانب “مبادرة موسيقى الحجر الصحي”، اشتهر أيضاً الزوجان السوريان أحمد وأسيل المقيمان في برشلونا ( اسبانيا ) ومؤسسا فرقة (آثروديل) اللذان استطاعا جذب جيرانهما لسماع صوت أسيل وهي تغني بالإسبانية والعربية يرافقها زوجها أحمد على الغيتار ، ووسط تكرار هذه الاحتفالات الصغيرة من شباك شقتهما في تمام الساعة الثامنة كل يوم ، وتلقى اهتماماً متزايداً على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصةً بعد الفيديو الذي ظهر فيه توقّف سياراة الإسعاف الإسبانية أسفل شباكهما لمشاركتهما الغناء.
أما على صعيد عالمي، هناك أيضاً الكثير من المبادرات الموسيقية الدافئة التي تصل إلى الناس أينما كانوا، نذكر منها سلسلة”جلسات العزلة” التي بدأتها قناة “ماهوغاني ” الموسيقية البريطانية(Mahogany)، وفيها تستضيف موسيقيين شباب يعزفون ويغنون للناس مباشرة من غرف معيشتهم وشاحناتهم المتنقلة. هذا إلى جانب مشروع (Tiny Desk concerts) الأمريكي التابع للراديو الأمريكي (NPR) والذي بات يبث اليوم أيضاً ما أسماه “حفلات موسيقية منزلية”. بالإضافة إلى ذلك، أعنت فرقة (Radiohead)مؤخراً عزومها على تقديم سلسلة من الحفلات المباشرة المجانية لحين انتهاء الحجر الصحي. وكتبت الفرقة على صفحتها على الفيسبوك بأنها ستسمر بتقديم تلك الحفلات لحين انتهاء الحجر الصحي أو نفادها من الموسيقى، بحيث تتسائل ماذا سيحصل أولاً. وكل تلك المبادرات تؤكد أن الموسيقى كما يبدو، كالمستلزمات الطبية،في زمن الأزمات حقٌ للناس جميعاً.
تعيدنا فيديوهات “موسيقى غرف الجلوس” التي جاءت استجابة مفروضة لاستحالة الحركة، للتفكير بخلق الموسيقى وتلقيها كأفعال عفوية واجتماعية في ذات الوقت فالموسيقى تحيا حقاً حينما يوجد من يسمعها ويتفاعل معها ، والملفت أيضاً أن معايير تقييم الجودة اختلفت هذه المرة، فالمهم الآن ليس الاتقان والمهارة والمقدرات الاستثنائية فقط، بل أيضاً الاستمتاع والتلقائية والصدق في الأداء لعلها طقوس اجتماعية فرضها إيقاع الحياة المستجد .
قد لا نستطيع يوماً فهم الأثر الذي تتركه الموسيقى في حياتنا، حتى في أشد أيامنا قتامة، لكن الإجابة لا تهم حقاً. يكفي أنها استطاعت النجاة والحفاظ على سحرها وسطوتها، ما علينا سوى إغلاق عيوننا وإصغاء السمع.