ليست بالفكرة العبقرية تلك التي تناولها الفيلسوف الألماني الشهير هيدجر، والتي تميز بين نوعين من الوجود: الوجود الأصيل والوجود الزائف.
فكثير من الفلاسفة، وقبل هيدجر، تحدثوا عن أشكال من الكينونة التي تفضي إلى التمييز بين الوجود الأصيل، هو وجود الذات في الهم الكلي، في القلق، في التخلي عن العابر، والوجود الزائف الذي هو الاندراج في عالم اللغو والنميمة والبحث عن الشهرة الزائفة.
غير أن عدم جدة الفكرة لا ينفي أهميتها في فهم الذوات. فليس الوعي الذاتي بالكينونة، عند جميع البشر، يقود إلى وعي هذا التمايز، ولا يقود إلى وعي الوجود الزائف والوجود الأصيل، ولا يفضي إلى العيش في الهم الناتج عن القلق الوجودي.
فوعي الكينونة تأسيساً على هذا التمييز يختلف عن الحياة المتعينة التي تعبر عن هذا التمييز دون وعي، إذ يحصل أن يتصرف الإنسان بوصفه وجوداً أصيلاً حتى ولو لم يعرف الدلالة النظرية لهذا الوجود.
وفي لحظات التحولات الكبرى في السيرورة البشرية تظهر على نحو جلي الكينونات الأصيلة والكينونة الزائفة. ولا يحسبن أحد بأن الاندراج في إرادة صناعة الوجود الجديد يفضي بالضرورة إلى ولادة الوجود الأصيل.
ففي الوقت الذي ينشغل فيه الوجود الأصيل بفكرة المصير والكرامة الإنسانية ويحول قلقه الوجودي إلى إبداع ينشغل الوجود الزائف ذو الوعي المنحط بالبحث عن حضور عابر متوسلا بذلك الكذب والهراء، والقول الزائف، ويظهر هذا الفرق بين الوجود الأصيل والوجود الزائف أكثر ما يظهر في اللحظات الحاسمة من التحول التاريخي كلحظة الثورات مثلا.
إذ يسعى الوجود الأصيل إلى الكشف عن المعنى مندرجاً بالهم الكلي، عائشاً عذابات البشر رافعاً القيمة الأخلاقية للكفاح الإنساني. وجاعلاً من هم المصير كما يجب ان يكون همها الفردي.
أما الوجود الزائف فيغرق في الشتائم واللامعنى مظهراً غيرة زائفة لا خفاء خنوعه الطويل. ولعمري إن من يتعصب طائفياً للرد على الطائفية ويشتم بطريقة سوقية أو غير سوقية هو وجود زائف، وعامل سلب في طريق الثورة.
إن الكفاح الإنساني الأصيل لا يصدر إلا عن الوجود الأصيل، فأصحاب الوجود الأصيل حملوا ويحملون الهم الكلي، متحررين من أي وعي زائف بالوجود. فالطائفي والانتهازي وصاحب شهوة حضور أنماط من الوجود الزائف، لأن هذا الوجود غارق في همه الفردي، ومنتقم من خنوعه الطويل بتعصب شبيه بتعصب الوجود الذي ثار عليه. إن لغة الوجود الأصيل لغة المعنى، لغة جميلة وحارة، لغة الوجدان الصادق، فيما لغة الوجود الزائف لغة سوقية لا حياة فيها، بل هي موت اللغة.
إن أخطر الكينونات الزائفة، أي ذات الوجود الزائف هي تلك التي تخفي دونيتها وراء ألقابها ذات الأثر الإيجابي في وعي الناس.
غير إن انكشاف كثير من حملة الألقاب الأكاديمية والفنية والأدبية حين طل الوجود الأصيل بوصفه تجاوز الواقع الزفتي أكد بأن الوجود الأصيل ليس مرتبطاً بلقب أو مهنة، وإنما بنظرة إلى الحياة.
وسائل يسأل: هل الموقف المؤيد للتجاوز التاريخي الذي انفجر في عالمنا سبب كاف للانتماء إلى الوجود الأصيل؟
الجواب: طبعاً لا، فلا يكون هذا الانتماء إلا إذا ارتقى المنتمي إلى روح الوجود الأصيل ولغته. ولهذا نجد مظاهر التشابه بين بعض اللائيين من جهةٍ، والنعميين من جهة ثانية.
ولسنا نريد أن يتحول الناس إلى فلاسفة، وإنما الوجود الأصيل يظهر أول ما يظهر في القوة الأخلاقية المعبرة عن الموقف من الحياة.
أحمد برقاوي