زينة يكن – الناس نيوز ::
بعد غياب ثلاث سنوات عن شبه الجزيرة الأيبيرية، عدت إلى البرتغال الملاصقة للأندلس وإسبانيا. لم أبحث كثيراً عن تاريخ البلاد أو حاضرها، حداثتها، عاصمتها، المناطق السياحية فيها بل اكتفيت أثناء اختياري لها عن وجود الإرث الموريسكي (الموريشي)، الذي ظننت أنه يغلب عليها، فهو عشقي منذ أن زرت الأندلس، لكن أصرت ليشبونة على مفاجأتي. لم أنتظر أبدا أن أزور مدينة أوروبية مترامية الأطراف مثلها، فمكان هنا، وآخر هناك.. قلاع مرتفعة هنا.. ومقاهي وبلازات مسطحة ومائلة هناك.. الجسر الشهير فيها على نهر تاجة يشبه جسر سان فرانسيسكو في كاليفورنيا، وتمثال المسيح الفادي “cristo” الذي يعد الشقيق التوأم للتمثال الموجود في ريو دي جانيرو في البرازيل يعلوها قريباً من الجسر. بالرغم من شعوري بأنّ المدينة غير متناسقة، لكن كل شيء فيها كان متناغما للغاية. مرات عديدة وأنا أسير، كان يعتريني شعور وكأنني أمشي داخل حديقة كبيرة، ولا أدرى، لم خطرت “كاسندرا” على بالي. المدينة تشببها كثيراً. غجريّة في غاية الجمال، لباسها قصير وطويل، مكشكش ومثني، ولكن في غاية الروعة.
كانت نهفتي الأولى في المدينة، عندما صادفت الشرطي في طريقي، لأسأله إن كانت وجهتي نحو “المحيط” صحيحة، ولم يخطر في بالي ذرّة أن أكون مخطئة، ليأتيني جوابه مبتسماً: سيدتي: ليزبوا Lisboa ليست على المحيط، وكذلك إذا ذهبتي الى بورتو فهي أيضاً ليست على المحيط، الأولى على “نهر تاجة”، والثانية على “نهر دورو”، لكن كليهما يصبان في المحيط الأطلسي. لملمت خجلي بروح رياضية وضحكنا سويّا، ثم دلني على الاتجاه الصحيح وتابعت الطريق.
كنت أعتقد أن نفوذ البرتغال يمتد بشكل خاص إلى دول الخليج العربي مثل البحرين وعمان، وبعض المستعمرات الأفريقية مثل زنجبار وتنزانيا، لأتفاجأ مرة أخرى أن تلك الدول ليست المتعارف عليها كمستعمرات برتغالية، بل في الدرجة الأولى أنغولا والبرازيل، ولم أربط أبداً أن اللغة البرازيلية هي البرتغالية.
بالرغم من توفر كل أنواع المواصلات لتأمين رفاهية السيّاح في ليشبونة، إلا أنني آثرت على نفسي أن أتعرف على العاصمة سيراً على الاقدام. أقولها لكم بصراحة: ليست فكرة حكيمة، وإن كانت في غاية المتعة، حيث أن الطقس كان عاملاً مساعداً، لكن قطع ليشبونة على الأقدام يستنزف قوة الإنسان، وعليه أن يتمتع باللياقة البدنية الكافية. جاءت استجابتي متأخرة لركوب المواصلات، أي قبل مشارفة رحلتي على الانتهاء، وكان طبعاً لا بد من تجربة الترام (28)، وهو الأشهر للقيام بجولة في كل أرجاء الأحياء القديمة في العاصمة. لقد أخذنا الترام بجولة إلى كل من الحي الشهير الفاما، شيادو، سانت أنطونيو، الشارع الوردي وأخيراً كايس دي سودريه.
أخبرتني صديقتي أن البرتغاليين مازالوا يحتفظون ببعض الأسماء العربية، فمعظم الكلمات التي تبدأ ب al هي عربية مثل alfama وتعني على الأرجح الحمّى، alaroz ويعني الأرز وغيرها من الكلمات.
من نفائس البرتغال، ولا أبالغ بقولي إنني سافرت خصّيصاً لأزورها منفردة، هي دار Casa de altenjo. هو ليس بالمعلم السياحي المعروف ولكن عشاق الفن الإسلامي لا بد لهم من اكتشافه، فهو عبارة عن رياض من الطراز المغربي المتميز بجدرانه المنقوشة والمزخرفة بشكل هندسي ومورّق (عناقيد وأزهار ونباتات) وكتابي. بني بحجارة وردية، وتم تحويله إلى عدة غرف من المطاعم العربية والبرتغالية المحلية.
عندما أتحدث عن هذا النوع من الدور، لا بد من التعريج على القصر الوطني في سينترا (بلدة قريبة من ليشبونة) وقلعة Pena الشهيرة في أعلى الجبل التي لا تخلو من ذات الطراز الموريسكي الإسلامي. أجمل ما يميز القلاع والقصور هو تمازج الحضارات فيها، إذ لم يتم تخريب العمارة الإسلامية أثناء حروب الاسترداد “Reconquista” التي حدثت بعد سقوط غرناطة الأندلسية، أو هذا على الأقل ما لاحظته، بل تم تحوير بعضها وإضافة تفاصل محددة لبعضها الآخر لتتماثل مع متطلبات الفنون المسيحية. في البرتغال، على سبيل المثال، لاحظت أنّه تم الاستيحاء منها آنذاك لإضافة الصبغة الكاثوليكية، فقد استفادوا من الفن التشكيلي الإسلامي وبدؤوا برسم الشخصيات عليها، وهذا قد أضفى عليها نكهة رائعة. هذا دفعني للتفكير مرة أخرى بجدل صراع الحضارات: أعتقد أن الزمن والوعي عنصران هامان في الإجابة، إذ يبدو آنذاك وعي الشعوب كان أكبر بكثير من الوعي الراهن، ولكن أيضاً لا يمكن البناء على هذه النظرية، ربما التسامح العمراني كان واضحاً مع الحضارة الإسلامية، ولكن لا يمكن الإغفال عن الحملات التي تعرّض فيها اليهود لاضطهاد كبير أسوأ من اضطهاد المسلمين، إذ تم مسح معالمهم بالكامل بما في ذلك أماكن العبادة “الكنس”. أذكر تماماً عندما زرت الحي اليهودي في إشبيلية، وتساءلت إن كان هناك كنيس أثري، أعلموني أنه تم طمس إرث اليهود خلال حروب الاسترداد ومحاكم التفتيش بشكل كامل.
خلالي تواصلي مع الشعب البرتغالي، وجدت أنه شعب معولم ككل الشعوب الأوروبية، مع الاحتفاظ بخصائصه بالتأكيد، وكان ملفتاً بالنسبة لي أن يكون الجيل الأول من المهاجرين من الهنود. في اليوم الأخير من ليشبونة وقبل الذهاب إلى بورتو، أردت أن أودع العاصمة بطريقة مميزة، واخترت لذلك ركوب التكتوك Tuktuk الذي كان منتشراً جداً. لقد تفاجأت عندما علمت أن ثمن جولة سياحية فيه لمدة ساعة واحدة فقط ما تعادل 150 يورو، وهو أغلى ثمناً من طلب تاكسي أجرة خاص من نوع مرسيدس أو ليكسيس. عندما سألت عن سبب هذا الغلاء، أخبرني أحدهم أنها عربة كهربائية من نوع “تسلا”، وهي اقتصادية بيئية “أيكولوجية” لذلك هو باهظ. ثم سألني أحد سائقيها، هل ترغبين بركوبه؟ أخبرته نعم ولكني لن أدفع هذا المبلغ على الإطلاق: فدار بينا الحديث التالي:
سيدتي من أين أنت؟
قدمت من دبي
آه دبي.. ما شاء الله.. أي مسلمة
فأجبته مبتسمة.. نعم والحمد الله
سيدتي سأعطيك عرضاً خاصاً لك فقط: ساعة واحدة 35 يورو
30 يورو، ولا فلس زيادة
فكّر لبضعة ثوان.. حسناً
طمعت أكثر، فأخبرته: 30 يورو ساعة ونصف
سيدتي.. لا يمكن.. أعطيتك سعراً لن يوفره أحد غيري
حسنا ولكن عليك أن تقلّني من الفندق
أعتقد أنه لعن الساعة التي عرض عليّ فيها الركوب، ثم أجابني لا بأس
لقد كان فعلاً رجلاً طيباً. استمرت جولتنا ساعة ونصف حيث أخذنا الكلام. أعتقد أنه ابتهج عندما ذكرت له دبي، لأنه عاش فيها وله فيها ذكريات.
قبل أن أمضي إلى خلاصة هذه التجربة، أروي لكم مغامرة أخرى
قد جرت العادة بالنسبة لي، أن أقتني دوماً بعض السوفينيرات من كل بلد حتى تبقى لي ذكرى. جمعت بعض الأغراض في أحد الدكاكين، ثم بدأت بالتفاوض على ثمن المقتنيات. الحقيقة أنني كنت الوحيدة التي تفاوض، لذلك في كل مرة كنت أضطر لأقول للبائع: أنهي معاملاتك مع الزبائن حتى تتفرغ للتفاوض معي. وكان في كل مرة يضحك.
ثم سألني بدوره وهو هندي أيضاً، من أين انت؟ أجبته هذه المرة من سوريا
نفس مضمون التفكير
سوريا! ما شاء الله.. مسلمة يعني؟!
جوابي دوما: نعم والحمد الله
أعطاني سعراً مناسباً جداً، وعندما كنت أهم بالخروج، علا صوته مخاطباً إياي: السلام عليكم سيدتي
فلوّحت له بيدي دون أن أستدير: وعليكم السلام.. وبدا كأنّه المشهد الأخير من فيلم Kingdom of heaven عندما يرد صلاح الدين الأيوبي على الملك باليان بتحية الإسلام. خرجت من المكان وانفجرت ضاحكة على نفسي.
بعد عدة دقائق، وأنا أسير، فكرت كم الهوية الدينية قوية لدى الشعوب.. قوية جداً.. شعرت لوهلة أنني محظوظة بهويتي المسلمة.. ولكني فكرت مليّاً على إثرها بأيام الثورة السورية، عندما تم الترويج لمفهوم هجرة “مسيحيي الشرق” إلى الغرب..
أعتقد بعد تجربتي الشخصية بأنه لا بأس في وقت الأزمات باستثمار الهوية الدينية، شريطة أن يبقى مؤقتاً، إن استطاع له الناس سبيلا. إنّ المهاجرين لهم فرصة في الغرب ضمن سياق الاندماج مع الأقليات في المجتمعات، وقد يتطور المفهوم بالنسبة للمسلمين لاحقاً ليصبح “مسلمو الغرب” ولا أقول هذا من دافع إثارة أي نعرات دينية طائفية بل على العكس تماماً، أنظر له من باب التسامح والإثراء واستغلال مزايا الهوية الدينية لكل الأطراف وعلى كل الأصعدة لضمان سلامة المجتمعات، وأكرر “وقت الأزمات” وفقط بدون “عصبية”.. أعتقد على الأقل المهاجرين إلى البرتغال لهم فرصة بذلك.