د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
تنعقد في مصر خلال بضعة أسابيع قمة المناخ الثانية بعد الأزمة العالمية التي تسبب فيها وباء كورونا.
وفي الوقت الذي مايزال الغموض يلف ظروف ظهور الوباء واختفاءه، فاتحاً المجال أمام أكثر نظريات المؤامرة شطحاً، تتراجع الأصوات التي ترجح فرضية تغير المناخ كسبب رئيس لظهوره، مع تحذير من مغبة ظهور أوبئة أخرى في القريب المنظور، خلف التجاذبات الإقليمية والدولية، وتبادل الاتهامات بين القوى العظمى حول مسؤوليتها في ظهور فيروس كوفيد-19 وانتشاره، وسط مشاحنات متصاعدة وعودة لنشاط بؤر توتر عبر نقاط عديدة في العالم كتبعات بدهية للأزمات الكبرى، خصوصاً الاقتصادية منها.
يكاد ينقضي شهر أكتوبر/تشرين الأول ومايزال بإمكاني قصد شواطئ مدينتي المتوسطية، والاستمتاع بهدوئها وزرقتها وأشعة الشمس بدرجات حرارة صيفية، الأمر الذي كان مستحيلاً في سنوات قليلة ماضية. إن كانت الحرارة المرتفعة أمراً مألوفاً على الضفة الجنوبية للمتوسط، فقد صنع تصاعد الزئبق الحدث على الجانب الشمالي، على الرغم من تزايد الوعي بالتحديات البيئية على المستوى الشعبي، وتغلغله في لعبة السياسة، عكس البلدان الجنوبية، حيث التي ماتزال السرديات الخضراء حبيسة دوائر غير فاعلة، أقرب إلى ديكور، توكل مهمتها لما يسمى بـ”المجتمع المدني” بـ”جمعياته” تحديداً، على الرغم من أن كبرى التحديات المتوقعة للتغير المناخي ستواجه بلدان القسم الجنوبي من الكوكب، بحسب تقارير المنظمات الدولية المختصة، والتي يحسب الجزء الأكبر منها على أكثر البلدان فقراً، كدولة بنغلاديش التي يتهددها خطر الاختفاء تحت المياه، كما الكثير من الدول الإفريقية، حتى أن التحذيرات الدولية كانت قد أشارت إلى أن أكثر المدن العربية عرضة للغرق الناجم الاحتباس الحراري هي مدينة الإسكندرية، بثقلها التاريخي ورمزيتها ومحوريتها في العلاقة بين الشمال والجنوب، على مر قرون.
جاءت نتائج قمة المناخ الأخيرة التي انعقدت في “غلاسكو” سنة 2021 مخيبة للآمال، ما جعلها محط سخرية من طرف الناشطين في مجال الحفاظ على البيئة، لأسباب عدة أهمها عدم التزام القوى السبع الكبرى بما دعت إليه خلال القمة، كقرار بريطانيا العودة لاستغلال مناجم الفحم الحجري الذي يعتبر من أكثر أنواع الوقود تلويثاً، مباشرة بعد انتهاء أشغالها من طرف بلدان كثيرة ذات اقتصادات قوية، إضافة لمختلف المظاهر السلبية التي طبعت مجريات الـ”كوب 26″ كالاستخدام المفرط للطائرات الخاصة، والمركبات الكثيرة، تضاف لها ممارسات الشركات العملاقة التي يبدو أنها الأخرى تفعل غير ما تقول، ضاعفها ارتفاع الفواتير البيئية لصناعة واستخدام الأسلحة، تمريناً وتوظيفاً في ظل التوترات المتزايدة.
تشير التوقعات أن هدف قمة “شرم الشيخ” الأول هو الضغط على كبرى الاقتصادات من طرف ممثلي الدول النامية، للوفاء بالتزاماتها في دفع الإعانات التي من شأنها مساعدة الأخيرة على تعزيز قدراتها في ظل التدهور المناخي المتسارع، الذي تتسبب فيه الأولى، باعتبارها الأكثر تصنيعاً وبالتالي تلويثاً، الأمر الذي تنتفض ضده الكثير من الأصوات اليمينية الغربية التي ترى أن البلدان النامية تلوث بدورها، وعليها تحمل التزاماتها البيئية في الحد من “البصمة الكربونية”.
يشار إلى أن قمة المناخ القادمة ستحتضنها إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، السنة القادمة، ممثلة عن قارة آسيا. دولتان عربيتان إذاً ستحتضنان أهم المواعيد البيئية في العالم، لسنتين متتاليتين وسط غياب لطبقة أيكولوجية فاعلة في المنطقة، إضافة لضعف السرديات الأيكولوجية المتنوعة، واقتصارها على الخطابات الرسمية من جهة والبحوث الأكاديمية، التي لا تتجاوز بوابات الجامعات، عكس ما يقع في كثير من الدول الأوروبية والأمريكية وأستراليا، التي طورت تراثاً جدياً حول المسائل الأيكولوجية، ساهم النضال السياسي الأخضر في نقله نحو المستويات الأكثر شعبية، وإخراجه من القوقعة العلموية، ونشاهده اليوم يهاجر نحو ميادين ثقافية أرحب، حتى لدى التيارات التي كانت بؤر اهتمامها مختلفة حتى الأمس القريب.
بالموازاة مع بداية أزمة الوباء العالمي، شهر نوفمبر/كانون الثاني 2020، أصدر صاحب “مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران” المفكر الفرنسي “ريجيس دوبريه” كتاباً مقتضباً، ولكن مهما يتناول فيه الأزمة البيئية الحالية حمل عنوان “قرن أخضر”. تناول فيه رفيق سلاح “تشي جيفارا”، ومستشار” فرانسوا ميتيران”، ومؤسس علم “الميديولوجيا” النكبة البيئية التي يعرفها العالم متحسراً على ما آل إليه كوكب الأرض، بسبب شجع الرأسمالية وتوحشها.
يشخص المناضل اليساري التحولات العميقة التي يعرفها العالم، إذ يقول بأن “القرن الأخضر” جاء ليعوض “القرن الأحمر” (كناية عن أفول الشيوعية)، ليتحول “دخان المصانع” لمادة الخصومة معوضاً “صاحب المصنع”، ثم يواصل خالطاً الهزل بالعمق المفرط، قائلاً: “كان هدفنا ثورة لكننا انتهينا بتعديل التصويب”، مصوباً سهامه على الحداثة إذ يصفها بـ”العصر الوسيط الطويل”. يستخدم “دوبريه” قاموساً متفرداً في تفكيك التحولات المناخية، التي يدرسها في إطارها الكلي، ومن منطلقاتها السياسية والاقتصادية، معبراً عن افتقاده لروح وقيم القرن الماضي، ومنذرا من الراديكالية، التي قد يتحول إليها الدين الجديد، الدين الأخضر، كما حدث مع الأفكار الكبرى التي سادت في مراحل تاريخية مختلفة.
اهتمامات “دوبريه” المستجدة وهو يتجاوز الثمانين، وتجبره وعكة صحية شديدة على التزام بيته، ليست المثال الأوحد، وإن كانت أكثر الأمثلة قوة، عن التحولات التي تصيب السرديات العالمية على تنوعها. إذ حجز “الأخضر” مكاناً في كافة الممارسات الفنية حتى الأدب، الذي أصبحت الرواية الأيكولوجية إحدى ألوانه الدارجة، بل أن رواية الجريمة صارت تعرف نوعاً متخصصاً في الجرائم البيئية متخذة شعاراً “ما يحدث في حق الطبيعة جريمة”، في حين يظل الاهتمام العربي ضعيفاً جداً.
إن جدية قضايا التحولات المناخية لا تتأتى من حجم الضحايا، ولا الخسائر المتوقعة، ولا حتى في تقاذف مسؤوليتها، ولكن من كونها تضع البشرية بما يصنع تعقدها وتركيبها أمام تحد واحد، لا تنفع معه نقاشات ولا حجاج، والذي وإن دب بسرعة خفيضة نسبياً، فلا يمكن التنبؤ الدقيق بحجم الكوارث التي قد يتسبب فيها، قد تقي حركات استباقية موحدة وعاجلة ومخططة على الوقوف في وجه الكوارث العظمى القادمة، والمنطقة العربية غير مستثناة، بل على العكس تماماً واستوجب اليوم انخراط النخب بكافة أطيافها وإحداث قطيعة مع المهترئ والزائف من موضوعات ما فتئت تلوكها من عقود دون نتائج.