صبيحة مثل هذا اليوم، قبل ستين عاماً بالتمام، في 28 سبتمبر/أيلول 1961، بثت إذاعة دمشق البيان الأول الصادر عن مسمّى (القيادة الثورية العربية العليا للقوات المسلحة)، معلنةً أن الجيش في سوريا قد قام بإجراءات للقضاء على الاستبداد واستعادة الحقوق المشروعة للشعب. أعقبته خلال ساعات عدة بيانات اتسمت بلغة أكثر دبلوماسية تنطوي على مناورة سياسية لكنها لا تستطيع إخفاء ما اعتاده السوريون من قبل في صيغ البيانات الانقلابية المغلفة بشعارات ثورية ومحاولة استعادة القرار الوطني، عبر خمسة انقلابات سابقة تعاقبت أول الاستقلال وجاء سادسها بعد سبع سنين ليعيد كرّاتها.
الانفصاليّون يضيفون صفة (العربية) للجمهورية السورية:
سبقت إذاعةَ البيان الأول ترتيباتٌ عسكرية قامت بها المجموعة الانقلابية بقيادة المقدم عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر الحاكم الفعلي لسوريا، منذ الرابعة فجراً، إذ تم تطويق مقر إقامته والاستيلاء على مركز القيادة والمطار والإذاعة، واحتجاز عديد من الضباط المصريين والسوريين في القطع العسكرية الفاعلة من المعروفين بولائهم للمشير وعبد الناصر، وطالت الحملة عبد الحميد السراج نائب الرئيس العائد من مصر إلى سوريا قبل يومين فقط إثر تقديمه استقالته من منصبه.
استغرقت المفاوضات بين الانقلابيين بقيادة النحلاوي والمشير المحتجز ساعات النهار، وشهدت مدّاً وجزراً ومناورات من الطرفين لم يجهر الانقلابيون خلالها برغبة الانفصال بل قدموا مطالب تتعلق بإصلاحات وتغيير في نهج القيادة وضرورة التراجع عن قرارات تم تطبيقها، وقام المشير بنقل مطالبهم باتصال مباشر أمامهم مع عبد الناصر. تم الاتفاق أولاً على تأمين سلامة المشير والضباط المصريين ومن يرغب من الضباط السوريين ونقلهم مباشرة بطائرة إلى مصر، أقلعت الطائرة أول المساء، ولم تكد تدخل الأجواء المصرية حتى أعلن عبد الناصر عبر الإذاعة رفضه لأي تفاوض معلناً أن القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة في طريقها لسحق المتمردين. رد الانفصاليون مباشرة بتصعيد تحاشوه في البيانات السابقة واصفين عبد الناصر بالطاغية، وأعلنوا حظر التجوال ليلاً فيما اختتمت الإذاعة إرسالها بالنشيد الوطني السوري الذي كان قبل الوحدة. صباح اليوم التالي وبعد إلغاء عبد الناصر العملية العسكرية إثر احتجاز قوات المظليين في اللاذقية مقابل عودتهم سالمين إلى مصر، ليعلن الانفصاليون من طرفهم اعتماد النشيد والعلم الوطني السابقين لعهد الوحدة وعودة سوريا جمهورية مستقلة عن مصر، إنما بإضافة صفة (العربية) ليغدو المسمى لأول مرة (الجمهورية العربية السورية) في خطوة استباقية تقطع الطريق على أي اتهام من إعلام عبد الناصر بالابتعاد عن الخط القومي العروبي وخطابه السائد حينذاك، ولاستمالة القوميين بثقلهم في الجيش والشارع.
واقع سوريا قبل الوحدة:
من غير الغوص عميقاً في بحث تاريخي يحتاج مجلدات لبيان الفارق بين تجذر سوريا، أرضاً وشعباً بمختلف أعراقه، في الإسهام الحضاري التاريخي، وبين غياب ثقافة الدولة الوطنية في تاريخها القريب، يمكن اختصار القول بأن تلك الثقافة تكاد تكون غائبة لمئات من السنين عن الجغرافية السورية، سوى ما شهدته بعض حواضرها المدنية من تقلبات الدول والعابرين غزاةً واحتلالا، ولعلها أكثر استقراراً إبان أربعة قرون من الحكم العثماني بكل أمراضه المتأخرة. أما (سوريا الدولة الوطنية) فلم تبرز إلى الوجود إلى مع تمخضات الحرب العالمية الأولى وتحالف الشريف حسين مع البريطانيين بوعودهم المفخخة له بأن يكون ملكاً لكل العرب، وما أعقب ذلك من تجزئة الوعود البريطانية إلى دول يتقاسم ملكها أبناؤه. التفخيخ البريطاني صمت برهةً أمام الطموحات السورية بمملكة تشمل رقعتها كل الجغرافية الطبيعية لسوريا الممتدة من جبال طوروس شمالاً إلى ما بعد العقبة وحدود سيناء جنوباً، ومن عمق البادية شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً. وهو ما تداعى إليه السوريون بكل مشاربهم في المؤتمر السوري الأول الذي أثمر إعلان (المملكة السورية) في 8 مارس/آذار1920 وبإعلان دستوري يجعل الملك لفيصل بن الحسين وذريته من بعده، في وقت لم يكن فيه فيصل غائباً عما يدور في الأروقة الدولية بعيداً عن إرادة السوريين وأبيه. الصمت البريطاني المفخخ كان الهدف منه ترك معركة التجاذب بين حلفائهم الفرنسيين من جهة، وبين السوريين من جهة مقابلة، والتي انتهت بإصرار فرنسا على ما توافقت مع بريطانيا عليه خلال الحرب من محاصصات في المنطقة مما أسمي بتركة الرجل المريض (الدولة العثمانية)، وسرعان ما تقدمت القوات الفرنسية بعد أشهر من لبنان لاحتلال دمشق وخلع فيصل وإلغاء مملكته التي لم تكمل ستة أشهر. النزعة الوطنية السورية لم تستكن للاحتلال الفرنسي الذي جاء بدعوى الانتداب، ويُشهد للنخب الوطنية التي قادت حركة الاستقلال استطاعتها مزاوجة المقاومة المسلحة مع الحراك السياسي حتى الحصول على الاستقلال الكامل بجلاء الفرنسيين بعد أن تقلصت مساحة المملكة السابقة وتم تقسيمها إلى أربعة دول، ليبقى من بينها ما يحمل اسم سوريا محصوراً بالبقعة الجغرافية الحالية. تطلع آباء الاستقلال لبناء دولة حديثة تحاكي الدول المتحضرة في القوانين والحريات وشهدت مرحلة مضيئة عالية التطلع، لكن اللعبة الدولية للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية وتسابقهم على النفوذ والامتيازات في المنطقة لم يكن في صالح الدولة السورية الفتية، فكانت الانقلابات العسكرية الثلاثة المتوالية عام (1949) والمتخذة ستاراً مقاومة إسرائيل بعد إعلانها فيما حقيقتها تمرير مشاريع أمريكية وبريطانية بمصالح اقليمية لكل منهما منفردا. مرت بعض تلك المشاريع تحت غطاء الانقلابيين كخطوط التابلاين، وفشل بعضها كرغبة بريطانيا في وحدة سوريا والعراق بظلال ملكية هاشمية لضمان خطوطها النفطية ومصالحها وربطها بالمتوسط، وهو ما لم تكن أمريكا ترغبه، ووسط هذه التجاذبات كان الانقلاب الخامس (1954) الذي أعاد الحياة السياسية المدنية والحريات إلى الحكم، مع بقاء شبح العسكر ودورهم ملقياً بظلاله على أروقة السياسيين مع صعود قوى سياسية وأحزاب جديدة إلى الواجهة (بعث، قوميين عرب، قوميين سوريين، شيوعيين، إخوان).
مرحلة التمخضات الاجتماعية والسياسية المستجدة مصحوبة بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والأسلوب المتجدد لقوى الاستعمار القديم ممثلاً ببريطانيا وفرنسا وصعود القوتين الأبرز أمريكا والسوفييت خلق حالة جديدة ومغايرة للأساليب الاستعمارية القديمة، كان فيه كل طرف من الأقوياء يرسم لسيطرة جديدة مغايرة للأساليب القديمة، وبشكل يضعف فرص منافسيه من كبار اللعبة الدولية. لعل ذلك ما جعل عبد الناصر في مصر يخرج بصورة البطل القومي بعد قيامه بتأميم قناة السويس وحربه الثلاثية مع (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل 1956) إثر توجيه الإنذار السوفييتي وبرضا أميركي، غايته تقليص النفوذ التقليدي لبريطانيا وفرنسا في المنطقة والعالم. غدا عبد الناصر بطلاً قومياً، ليس عربياً فقط بل بين معظم قوى التحرر الناهضة، وهو ما صب في تيار الجموح القومي العربي المتأجج منذ الثورة العربية، خاصة في سوريا، التي شهدت نزعة فكرية قومية منذ ما قبل الحرب الأولى في مواجهة النزعة القومية التركية أواخر عهد الدولة العثمانية.
كانت الطبقة الجديدة من العسكريين السوريين الذين وصل بعضهم إلى مراتب قيادية في الجيش مؤمنة بذلك الفكر القومي، وإن كان في غالبه من غير تحزب، تلاقى طموح بعضهم مع طموح النخب السياسية الجديدة من بعثيين وقوميين عرب، فكان الاندفاع المحموم نحو التجسيد في وحدة عاجلة مع الدولة الأكبر والأعمق تأثيراً في المنطقة (مصر) وبزعامة صاحب الشعبية الكاسحة عبد الناصر. وعلى الرغم من حذر السياسيين التقليديين من أمثال الرئيس شكري القوتلي وبعض زعامات القيادات السابقة من نخب الكتلة الوطنية وحزب الشعب، إلا أن المد الجارف للقوى الجديدة كان خارج السيطرة، خاصة مع الأخذ بالاعتبار هاجس تجدد لدغات العسكريين المجربة سابقاً، ما جعل القيادة السياسية تحاول إيجاد المخارج الحافظة فقط لماء الوجه أمام تجاوزات العسكريين، كتمرد قطنا وذهاب الوفد العسكري بأمر من رئيس الأركان اللواء عفيف البزري إلى مصر لطلب الوحدة الفورية من عبد الناصر دون أي إذن من القيادة السياسية السورية، وهو ما تم تداركه لاحقاً بإرسال وزير الخارجية “مرفق وثيقة بخط اللواء عفيف البزري”. بهذه الطريقة المتعجلة من السوريين تمت الوحدة خلال أشهر قليلة، بعد ما فرض عبد الناصر شروطه عليها بحل الأحزاب وجعل الوحدة اندماجية برئاسته، مع تأجيل كل ما يستوجب الدراسة المتأنية في شتى المناحي، والاقتصادي منها على وجه الخصوص. فالاقتصاد السوري المستقر والنامي باضطراد في تلك المرحلة، كان ما زال مرتكزاً بثبات على طبقتيه الإقطاعية الزراعية والرأسمالية الصناعية النامية، دونما صدام مع طبقتي الفلاحين والعمال بالشكل الحديّ الذي برز في دول الإقطاعات والرأسمالية وعلى نحو مختلف مع ما طبقه عبد الناصر في مصر. هذا العامل الهام سيعود إلى البروز لاحقاً ليشكل أساساً مباشراً لأسباب انفصال سوريا في الوحدة المرتجلة.
أسباب الانفصال:
الثقل السكاني والسياسي والعسكري لمصر بعد الوحدة، مقروناً بالحنكة والدراية السياسية والصعود الجماهيري المتنامي لعبد الناصر، ألقى بكل ثقله على الوضع السوري ليشكل هيمنة مصرية على كل مفاصل الدولة السورية حديثة النشأة، ما جعله في كثير من المواضع مما لم يكن في حسابات الطامحين أو الطامعين، وفي مقدمتهم معظم السياسيين الذين اندفعوا باتجاه الوحدة، وعلى الأخص البعثيين بزعامة أكرم الحوراني وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وفيما ركن بعض القادة العسكريين إلى ترفيعات رتبهم وتسليمهم مناصب هامة في مسمياتها، وجد آخرون أن مناصبهم ما هي إلا بوارق خلّبية الفعل. وهو ما أدى إلى انسحابات قيادات حزب البعث من حكومة الوحدة، واللجوء إلى محاولة إعادة التنظيم الذي تم حله وإن خارج الحدود (في لبنان)، وكذلك انسحاب بعض القيادات العسكرية المعتدة بدورها، كالفريق البزري وبعض كبار الضباط، إثر اصطدامهم مع رغبة المشير عامر بالتفرد بالقرار وإعطاء السيادة الفعلية حتى لمن هم أدنى رتبة من ضباط مصريين في سورية.
في هذه الظروف تشكلت في مصر قيادة لما عرف باسم (اللجنة العسكرية)، والتي كانت قيادتها في البداية من ضباط لا ينتمون لطوائف أقلية، ولكن إبعاد أولئك القادة إلى خارج الحدود بمهام دبلوماسية وسواها جعل قيادة الصف الثاني من اللجنة العسكرية وبغالبيتهم الطائفية متحكماً أوحداً بها وموجهاً لدورها القادم. فيما بقي عديد من الضباط على قاعدة الولاء للعرف العسكري بالعمل المنضبط ضمن منظومة لا تقبل غير طاعة الأوامر وتنفيذها، وكذلك المتماهون في المشروع الوحدوي، على علاته، إلى آخر مداه، كعبد الحميد السراج الذي كان مديراً للاستخبارات العسكرية في سورية قبل الوحدة وكان من أشد المتحمسين لها وتفانى في خدمتها كما تفنن في التنكيل الوحشي بكل معترض سبيل سلطتها، فترفع في المناصب من وزير داخلية متعدد الصلاحيات إلى الجمع بين أكثر من وزارة ورئاسة المكتب التنفيذي لدولة الوحدة في سوريا، الأمر الذي أوصله إلى درجة الاصطدام مع المشير عامر وبكل ما يعني كل منهما لعبد الناصر، الذي أوجد المخرج بتعيين السراج نائباً شكلياً له وإبعاده عن ملعبه السوري إلى مصر، حيث وجد نفسه هناك بجانب عبد الناصر بلا حول كما كان في سوريا فقدم استقالته قبل يومين فقط من الانفصال وعاد إلى سوريا، ومن غير الممكن لأي باحث أن يعتبر ما أقدم عيه السراج استكانة، وهو الذي لعب كل الأدوار الأمنية، لكن تسارع الأحداث بعد غيابه شهوراً عن سوريا سبق ما يمكن تخمينه من أسباب عودته.
كل ما سبق قد يكون أرضية في المشهد السوري الممهد لحدوث شروخ وبعض خيبات من الوحدة، لكن السبب الأهم والمباشر للانفصال، في رأي كثيرين، يكمن في العامل الاقتصادي الذي سرع بحدوثه وعبر انقلاب عسكري من حيث كان يظن جانب قوة ومأمن، وبعدم تقدير للحسابات من المشير بعد إبعاد السراج إلى مصر وهو الخبير بكل ما يحدث أمنياً في سوريا.
التوجهات الاقتصادية لعبد الناصر التي أعلن عزمه تطبيقها منذ مطلع العام 1961، لم تكن لتنسجم بحال من الأحول مع الواقع السوري آنذاك، فما نجح فيه عبد الناصر مع الطبقة الإقطاعية المترهلة بعد تطبيق قراراته في الإصلاح الزراعي على سورية، والتي للحقيقة وسعت من شعبيته وجماهيريته في الأرياف، لكنها لم تؤثر كثيراً على المدن بثقلها الاقتصادي والاجتماعي وطبقة رأس المال الصاعد بإمكاناته الذاتية ونفوذه حتى في صفوف بعض الضباط وعلى الأخص ما عرف بـ (الكتلة الدمشقية). بوادر خطورة التأميم الصناعي ومحاولة توحيد العملة المتداولة بين البلدين ظهرت منذ بداية العام 1961، وكان من نتيجتها استقالة حاكم مصرف سورية المركزي مطلقاً تحذيره من مغبة هكذا قرارات وخطرها على استمرار الوحدة، وتصاعد الأمر منتصف صيف 1961 ما حدا بالرئيس السوري السابق شكري القوتلي، والمتمتع بلقب المواطن العربي الأول إلى السفر بتكليف من غرفة التجارة وكبار الصناعيين لمقابلة عبد الناصر وشرح خطورة الموقف له، لكن عبد الناصر لم يأبه لكل تحذيرات القوتلي الأدرى بسوريا وسياستها واقتصادها، ومضى في مخططه ليتجرع بعد شهرين خيبة ارتجالاته وإبعاده أهل الدراية من السوريين والركون إلى تطمينات المشير (صديق العمر).
القوتلي يرفض العودة للحكم:
تخبط الانفصاليون في قيادة الدولة في مرحلة هي الأصعب لما فيها من تجاذبات وصراعات، هي أضعاف ما كانت عليه سابقاً، ولم تستطع أشكال المواءمة بين تطلعات العسكريين من شتى المشارب والأهواء بمن فيهم من عسكريي الانفصال، وبين القوى السياسية بتنوعها بين قديم ومستجد، على الرغم من محاولات بائسة لإعادة الحريات السياسية والأساليب الديمقراطية إلى شكل الدولة الجديد الذي استفحلت فيه الصراعات المعلنة والخفية. كان هناك مخرج في البداية بأن يتولى الرئيس السابق شكري القوتلي الرئاسة كونه آخر الرؤساء قبل الوحدة ولما يتمتع به من قبول من معظم الفئات، لكن الرئيس القوتلي وفي خطاب وجهه من حيث كان في سويسرا عبر التلفزيون السوري اعتذر عن المطلب موجهاً انتقادات لاذعة ومبطنة لمن مضوا خلف أهوائهم، متسترين بالشعارات فأوصلوا البلاد إلى تلك الحالة مشيراً إلى حالة لعلها لم تؤخذ بأبعادها في حينه، لكنها ستتبدى لاحقاً في موضوع الأقلية والأكثرية، ومما قال في خطابه:
(لقد كان في أساس الأخطاء كلها قاعدة واحدة: تأمين الأقلية وتخوين الأكثرية، وتسليط هيئات مصطنعة وأفراد على تنفيذ اشتراكية تعاونية لا يؤمنون بها، ولا يعملون من أجلها، ولا يفهمون أي مبدأ من مبادئ العدالة…)
السؤال الإشكالي:
السؤال الذي يطرح ذاته بقوة منذ الانفصال، وعلى ما مر من تبدلات وصراعات تسارعت عبر تسع سنين وشهدت مزيداً من الانقلابات لتنتهي بترسيخ حكم حافظ الأسد ووريثه لما بقي من جغرافيّةٍ سوريّةٍ لدولة مستحدثة طمحت لما يناسبها وتاريخها بين الدول والأمم، وما زال السؤال باقياً إلى اليوم بعد ستين عاماً:
هل كان الانفصال أفضل لسوريا؟
أم أن الوحدة بكل علاتها وعيوبها ودكتاتورية زعيمها كانت خياراً أفضل مما حدث بعدها؟.
وبين السؤالين متناقضي الجواب هناك من يطرح أسئلة سواهما عما إذا كان المصير مرسوماً وفق قواعد (لعبة الأمم) وصنّاعها؟ أم هو ترك مقصود من قبلهم للحبل على غاربه، لمعرفتهم المسبقة لنتائج المراهقة السياسية والطموحات الصبيانية للاعبين لم يبلغوا في السياسة رشدا!؟.
ستختلف الإجابات بالتأكيد، وإلا لما كانت المسألة وأسئلتها إشكالية، ولعلنا نلمح في ثنايا الفقرة السابقة من خطاب الرئيس القوتلي بعض ملامح نبني عليها بما أشار إليه من قاعدة اعتبرها أساس الأخطاء، وهو المتمرس طويلاً في السياسة وفي مقام الرئاسة، وبالسبب الذي دعاه لرفض خوض غمارها مجدداً مع ما عرف عنه من رغبة وحب للزعامة، وكأنه استشرف آفاق المرحلة القادمة وما تم التخطيط له من كبار اللعبة، فرفض المعروض عليه إدراكاً منه لسوء مآلٍ قادم، أدى لاحقاً إلى ما نعيشه اليوم في سوريا من خراب ومأساة إنسانية هي الأكبر عالمياً، حتى الآن، في الألفية الجديدة.
محم علاء الدين